Alef Logo
الغرفة 13
              

يومياتٌ كاتبة سرطانيّة في مشفى البيروني الجامعيّ

سوسن السباعي الجابي

2009-05-25


خاص ألف
(طبيب يعطي مريضة سرطان منشّطاً لخلايا السّرطان)
(يطردون مريضةً قبلَ انتهاء الدوام بساعة ونصف)

(الهوية الحالية: سوسن السباعي الجابي سرطان ثدي + انتكاسة في العظام والكبد)
(رقم بطاقتها الحمراء في مشفى البيروني 1981/2007)
يوميّات مهداة إلى السّيد وزير التعليم العالي
إلى السيّد مدير مشفى البيروني
لا تؤاخذونا...
*****************
لا بأس أن نصاب بالسّرطان... فهو قدر (في جانبه الشرير حيث القدر من الله بخيره وشرّه)... ولا بأس أن نكذب على الجسد المتآكل والروح المحاصرة. ولا بأس ولا بأس...
ولكن البأس كل البأس، والبؤس كل البؤس، أن يصاب المرء بسرطانه وهو في مجتمع طبيّ متخلّف يعامل مرضى السرطان وكأنهم قطيع أشباح ينتظرون انتهاء حفار القبور من حفر قبر كل شبح... حياة منقطعة، لا وظيفة للمرضى بالسرطان إلا (أن يطلب الرحمة ممّن عاش لا يرحم أمي)... بل وعليه أن ينحني امتناناً لكوادر طبية تنتشر هنا وهناك منقضّة على روح المريض دون رأفة ولا إنسانية... مكان واحد في القطر السوري يتوافد إليه آلاف المرضى من شمال وجنوب وشرق وغرب القطر... ينامون في سراديب الألم الصامت... ينتظرون ساعات وساعات لينادي أحد باسمهم (أو برقمهم)... وحشرهم الموظفون كأرقام تحمل هياكل عظمية إلى غرف ذوات أرقام حمراء... وصراخ الموظفين هناك يسبب توترا عالياً، وأسلوب حشر المرضى في قاعة انتظار لا تتسع للجميع فتقف هذه وتجلس تلك وتتكئ هذه على خيالها، والجميع ينتظرن الرقم المضاف إلى أسمائهنّ...
هنا تدور حكايات مؤلمة قاتلة... وكوني فريسة لوحش السرطان منذ ثلاث سنوات، وأرى ما أراه كل زيارة إلى هنا، فقد قررت أن أسليكم بهذه اليوميات على سبيل المعلومات التي يمكن أن تتأكدوا منها فليس مستحيلا التأكد منها...
أُعاني من انتقالات سرطانية ثانوية للعظام والكبد اكتشفت الأمر في الشهر الثالث من هذا العام وبما أن إبرة مرمم العظام التي أحتاجها لحالتي غير موجودة إلا في دمشق فاضطررت أن أتابع حالتي هنا وأترك حمص مدينتي...
وقد كنت ظننت أن المتابعة كلها ستكون في حمص وإبرة مرمم العظام / زوميتا ZOMITA/وحدها في مشفى البيروني لكني فوجئت يوم موعد الإبرة أنهم قرروا لي معها جرعتي الكيماوية الأولى وقلت لنفسي الحمد لله وهو يختار الخير...
غير أن ما بدأت بمعاناته بسبب سفري الأسبوعي للمراجعة في دمشق أرهقتني كليا...
المرة الأولى انتظرت حتى الساعة الثانية والنصف ظهرا ثم قالوا لي عودي إلى حمص لأن طبيبك د. محمد قادري غير موجود وعدت في اليوم التالي حيث التقيت بطبيبي وقرر لي بعد رأي اللجنة إبرة زوميتا ZOMITA المرممة للعظام وحين عدت في الأسبوع المقبل كان النظام قد نغير وأدخلوني إلى طبيبة ما وقررت لي العلاج الكيماوي .. وصعدت إلى الطابق الثالث حيث رأيت مهاجع المرضى الكبيرة التي ترى فيها المرضى بالعشرات يأخذون جرعاتهم الكيماوية على كراسي إذ أن الأسرة لا تكفي.. قلت حسبي الله ونعم الوكيل وأخذت جرعتي وعدت إلى حمص وعانيت ما عانيت من التأثيرات الجانبية للعلاج...
حين جاء موعد ي التالي (الأربعاء في 29/4/2009) لإتمام الجرعة حيث تقتضي خطة علاجي؛ أدخلوني إلى طبيب جديد آخر وعرفت أنهم قرروا في الإدارة أن يدخل المريض لأي طبيب بغضّ النظر عن الخصوصية التي تنشأ بين الطبيب والمريض، أو عن ضرورة أن يتابع طبيب واحد ملف المريض ليعرف تطوراته وما يؤول إليه وضعه. وكنت كل مرة أتوتر أكثر إذ أنني أتلهف للحديث مع طبيبي المعالج الذي يتعامل مع حالتي بشكل أفضل كونه هو من يعالجني منذ ثلاث سنوات.. لكن عبثا.. وبما أن حالتي الصحية كانت متدهورة وكريات البيضاء في أردأ أحوالها فقد كتب لي الطبيب الجديد (د. إياد أحمد) الذي أدخلوني له حَبّ /سوبرادين/ قال كي يتحسن وضعي الصحي وأعود في الأسبوع التالي.. وطرقات حمص دمشق تأكل من جيبتي ودمي وعظامي كبدي.. لكن بعد أن اشتريت الدواء وهممت بتناوله تذكرت أن أتصل بطبيبي المختص بجراحة العظام الذي كان قد حذرني سابقا وكرر تحذيره أيضا هذه المرة من تناول السوبردادين وهو مجموعة (فيتامينات ملتي) على أنها منشّط جيد لخلايا السرطان وكنت سمعت سابقا أيضا من أطباء البيروني أنفسهم مثل هذه التحذيرات .. فبكيت من كل قلبي لأنهم حتى المرة الثالثة لم أستطع رؤية طبيبي في المشفى بل أطباء آخرين على عجلة وتذمر كبير و دائم.. فماذا يمكن أن أقول لهذا الطبيب الذكي الذي يجرّب معلوماته الجامعية في حقل الموت المزروع في أجساد المرضى؟؟؟ طبيب يعالج السرطان بفيتامينات منشطة لخلايا السرطان...؟؟؟ يا ملائكة الرحمة... يا ملائكة اللعنة...
لقد كان هذا الخطأ الفظيع بمثابة رعب بحد ذاته، والذي يستحق صاحبه جائزة نوبل في اكتشاف علاج للسرطان بتهييجه وتنشيط خلاياه الإرهابية النائمة لتدمّر رويدا رويدا قطاعات جسدي كاملةً.... واعتمدت على تقوية مناعتي بالخضار والعسل والفواكه... فإذا اكتشفت أنا الخطأ القاتل بسبب عملي سنوات طويلة في قطاع أحد مشافي حمص، أفلا يحتمل أن يكون غيري وقع في الخطأ وشرب أو شربت دواءً منشطا للخلايا السرطانية؟؟؟
وحين جاء الموعد الرابع من الشهر نفسه أتيت لأتابع جرعتي الأولى التي استغرقت كل هذا الوقت وكالعادة أدخلوني إلى طبيب آخر غير الثلاثة الذين رأيتهم مسبقا وصرت أشعر كما المثل القائل/ إذا كتروا الطباخين .. احترقت الطبخة/ وصرت أشعر باحتراقي كل مرة... وانتهت جرعتي الأولى بسلام
اليوم (الاثنين في 25/5/2009) كان موعد جرعتي الثانية.. وكالعادة رأيت طبيبا جديدا لكن هذه المرة طمأنوني أنهم أعادوا النظام القديم وأنني في المرة القادمة يحق لي المطالبة برؤية طبيبي نفسه دون التحكم من قبلهم وتوزيع المرضى على الأطباء عشوائيا... فرحت طبعا وأخذت وصفة الجرعة الكيماوية الثانية مع إبرة زوميتا ZOMITA مرمّم العظام وصعدت إلى الطابق الثالث وأنت ترى كيف أجرّ ساقي من شدة الألم... وجلست على الكرسي المعد لهذا الغرض مقابل عشرات المريضات اللواتي ينتظرن مثلي العلاج... ولكن وبما أن حظي تعيس سمعت الممرضة تنادي باسمي وأنهم يريدونني في الصيدلية في الطابق الأرضي.. تعوذت بالله وشددت ساقي بيدي ونزلت إلى الطابق الأرضي حيث الصيدلية كانت هناك ممرضة تقف عند بابها الخارجي قالت لي أنت لا يوجد لديك موافقة بإبرة زوميتا ZOMITA.. اندهشت وقلت كيف؟ وهذا توقيع الطبيب وهذه الموافقة وعلى أساسها أخذت علاجي الشهر الماضي وهي موافقة على (ستة أشواط زوميتا ZOMITA)... قالت بلا اكتراث: لا أعرف اذهبي وأحضري لي الموافقة من الطبيب الذي كتب لك الوصفة الآن.

(كان تاريخ الموافقة على الإبرة هو 29/3/2009 كما هو مدون على الوصفة المرفقة مع اليوميات وهو التاريخ ذاته المكرر في الوصفة الجديدة بتاريخ 25/5/2009 وهي مرفقة أيضا)...

يومياتٌ كاتبة سرطانيّة في مشفى البيروني الجامعيّ - سوسن السباعي الجابي
كان ذلك والساعة هي الواحدة والنّصف ظهرا وكان التململ والتذمر بدأ يظهر على كل الموظفين في المشفى بسبب اقتراب انتهاء الدوام.. (مع أن الدوام ينتهي الساعة الثالثة والرّبع) شعرت بالقلق ورحت أشدّ على ساقي وأبكي من شدة الألم والممرات الطويلة أشعر بها لا تنتهي لكنّي وصلت في النهاية إلى الطبيب وشرحت له ما حصل فاستغرب كثيرا وأعطاني ورقة الموافقة على أدويتي وطلب مني تصويرها والعودة بالنسخة الأصلية لإضبارتي .. أخذتها وجاهَدْتُ كي أعود بسرعة إلى الصّيدلية وكانت موظفة الكمبيوتر التي صبغت معظم شعرها بالأشقر تتذمر وتصرخ وتقول لن أسلم بعد اللحظة أي دواء وكانت الساعة الثانية إلا عشرة وكان بقي على نهاية الدوام ساعة كاملة.. فرحت أرجوها بعين دامعة: قلت لها أنا متعبة للغاية وحضرت إلى المشفى منذ الثامنة صباحا حتى أحجز لي دور لمشاهدة الطبيب وجاء دوري في الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا وأنا منذ ساعة أنتظر العلاج في الطابق الثالث وأنت أرسلت بطلبي وقلت لي أن الموافقة على العلاج غير موجودة في حاسوبك وها أنا أتيت لك بها أرجوك اصرفي لي علاجي .. يجب أن آخذه لأن ألمي لا يوصف ولأنني سأعود إلى مدينتي اليوم , قالت لي طيب : أين الممرضة التي ستستلم الدواء؟ قلت وما أدراني أنا بهذا؟... قالت اصعدي إلى الثالث وأحضري ممرضة لتستلم الدواء.

يومياتٌ كاتبة سرطانيّة في مشفى البيروني الجامعيّ - سوسن السباعي الجابي

أسرعت بكل جهدي للوصول إلى هناك.. ولكن لم أجد ولا ممرضة.. دلّني شخص إلى أنهن في غرفة تغيير الملابس استعدادا للمغادرة.. نظرت إلى ساعتي كانت الثانية ظهرا فنقرت الباب وفتحت لي إحداهن وبيدها المشط وقبل أن أتفوه بحرف صرخت عودي غدا.. رجوتها وشرحت لها أنني من مدينة ثانية وأن مشاقّ السفر صعبة لكنها أصرت على عدم تلبيتي ورفضت النزول لتحضر لي دوائي رجوت الثانية والثالثة والرابعة لكن عبثا... والأمر لا يتطلب من واحدة منهن غير دقائق معدودة... ولكن بما أنني مصابة بالسّرطان ويجب عليّ انتظار الموت فلماذا يقدمن واجبهن؟ وماالفائدة من ترميم جثة؟؟؟ وهناك من أرشدني إلى رئيسة التمريض لكنها هي الأخرى اعتذرت و أحسست أنه لا سلطة لها على الممرضات العصبيات المتوفزات المستعدات للهجوم دائما...وقفت أبكي لوحدي ووجعي يقصم ظهري وساقي وأرشدوني إلى ممرضة قالوا لي أنها متعاونة وطيبة ولا ترفض طلبا لمريض وفعلا وجدتها وكانت كما قيل لي غير أنها اعتذرت أن الصيدلية قد أغلقت الآن .. ونظرت لساعتي كانت الثانية والثلث...وعرفت أنهم فوّتوا عليّ فرصة العلاج لهذا النهار وكأن مريض السرطان صرصور بلا قلب وهو يستحق فقط الانتظار وربما كان عليه الانهراس تحتَ أقدامهنّ لا محالة...جررت نفسي ونزلت إلى هنا ورأيت طوابير الممرضات الضاحكات يتجمهرن في البهو السفلي ينتظرن باصات نقلهن كما قيل لي...
خطر لي أن أدخل إلى المدير وقد سمعت مسبقا عن عصاميته وتفانيه في ضبط العمل في مشفى البيروني فعرفت من سكرتيرته المستعجلة أنه في اجتماع مغلق مع سكرتيره أو نائبه ربما...
وهنا كانت كل قواي قد خارت فجلست أبكي. وأفكر أنه صار عليّ أن أسافر الآن إلى حمص لأعود غدا مجددا ومثلي كثيرون الذين يضطرون للعودة كل مرة مجددا بسبب تذمر الممرّضات أو بسبب روتين رديء أو فقدان ورقة موافقة من حاسوب شقراء ما متوترة ومتعجلة... أنا سأعود إلى حمص وربما غيري سيعود لمدن أبعد وأشق..
أنا الآن متعبة وحتى لحظة كتابة هذه الهواجس المؤلمة لم أحظَ بجرعتي الثانية. على أمل أن يمنّوا عليّ غداً بها... وإن غدا لناظره سرطانيّ يفتك بي وبالوجوه... لكنه قرييييييييب...
25/5/2009
خاصّ بموقع ألف












تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

أوراق قديمة

18-آب-2015

ثلاث قصائد لشاعرة راحلة

18-أيلول-2011

يومياتٌ كاتبة سرطانيّة في مشفى البيروني الجامعيّ

25-أيار-2009

مختارات من ديوان بأناقة لا تغتفر

19-حزيران-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow