Alef Logo
يوميات
              

بردى أيها النهر العظيم!!

قيس مصطفى

2009-05-26


لا أعرف بردى جيداً، هو ليس مجرّد نهر، «كما النَّسمة منه ليست مجرَّد نسمة»، إنّه أخدود دفنت فيه أحلام ونظرات عيون، وفيه قذف عُزَّل حصى وبذخوا وقتاً للتأمل. لا أعرف النهر بتاتاً، فلست من الجيل الذي شهد عنفوان النهر العظيم. لم أعرفه إلا حزيناً وجافاً، لكنه يعرفني، فهو لا ينسى من مشى على ضفتيه يوماً. أؤكّد أنّه لا يَنسى، فهذا الماثل في الجغرافيا هو الوحيد الذي استطاع منذ فجر المدن وشمسها أن يشقَّ دمشق الأليفة. أفيكون عاجزاً عن أن يشقَّ قلوباً وأخيلة؟.
قديماً، خبرت النهر في مساءات صيفية بصحبة فتاة سمراء، «من أصولٍ بركانيَّة»، أحسست معها بالنهر أول مرة. ومن يومها لم أعد أستطيع أن أكون حيادياً تجاه كينونته الغافلة ووجوده الأزلي. كان فيه خيطاً رفيعاً من الماء هو مزيج بين ما تبقى من روح النهر وبين مياه الصرف الصحي، وقتها كان النهر سريعاً وجارفاً وجافاً في آنٍ معاً، ولم يكن ثمّة «سدٌّ يمنع ما أحلم به»، ألسنا نحن من يرى الأشياء كما يريد أن يراها ؟. بجيوب مفلسة وقلوب ممتلئة بالحب يمكنك أن تراهن الكرة الأرضية على الرِّبح، وأن تكسب الرهان. كان هناك رهان حقيقي على صداقة النهر. كنّا نمشي سوياً جوار المعهد العالي للفنون المسرحية. حيث تستقل (البركانية المتفجرة) التاكسي في حدود الساعة التاسعة والنصف، لأنّ أباها سيقضي عليها بالضربة القاضية إذا ما تأخرت إلى ما بعد العاشرة. في حين انشغل بعدّ الليرات القليلة في جيبي: يا الله هل تكفي للرجوع وعلبة الحمراء القصيرة؟! أم أنّي سأستقلُّ زورقاً في بردى الجاف كعيني حائر. ومن ثمّ أشمّر عن ساقي كبلقيس في قصر سليمان، وأخوض في ماء النهر منحنياً، علِّي أعثر على قطعة ذهب خبّأها غزاة قدامى، تتار ومغول وعثمانيون وفرنسيون، زالوا وبقي هذا الجاف بعناد الأسطورة وسيرانها في هشيم المستقبل. أليس بردى هو «نهر الذهب» كما سمّاه الإغريق الذين بنوا اسبارطة العظيمة. الإغريق أندادنا الذين خربوا مدينتنا - نحن الطرواديين - بجندٍ كثيرين وحصان خشبي .. ليت لي أخاً شجاعاً مثل هيكتور ليذود عني، أنا الذي كنت أريد أن أكون باريس الذي لم يجد هيلينه.

أحاول أن أفلسف الأمور فأقول: «كان النهر شاهداً». وأحاول الآن أن ألملم ذاكرتي، لأعثر على ما علق من الأنهار فيها. ولا أجد إلا الفُتات، فكيف يمكن لشخص من سلالة بدويّة أن يُغرّم بنهر في مدينة بالكاد يعرف شوارعها الرئيسية ... حسناً ماذا في الذاكرة:

- «الدرب قرب النهر زلاقة»: جملة من كتاب القراءة - المنهاج القديم في الصف الخامس الابتدائي - من نص لطاغور، الشاعر الهندي.

- النهر هو مجرىً مائيّ يسير على اليابسة تبعاً لانحدار سطح الأرض: تعريف من أحد كتب الجغرافيا الذي حفظناه يوماً ما.

يمكن القول إنّ بردى ليس ذاك العالق في الذاكرة، أضغاث أفكار وما شابه، هو خروج حتمي عن الطبوغرافيا بانحدار سريع نحو الشعر .. إنّه ما نسيناه، غير أنّ له مزايا لا يتمتّع بها الكثير من الأنهار، فهو النهر الذي لا يتنازع على ملكيّته أحد. وهو إذ يروي الحقول فلأنّه يسخر منها، فهو باقٍ وتلك إلى حصاد، وإنّه إذ يجفّ فلأنّه يسخر منّا ومن قصائدنا المرسومة بالمنقلة والفرجار. ألسنا من خذل النهر ؟.. لماذا يقول الفراتيّون عن أنفسهم إنّهم فراتيون؟ أتراهم يتحدون بالنهر فيستمر؟ ولماذا لا يقول الدمشقيّون إنّهم من بردى، ولا أعرف كيف تنسب هذه الكلمة، أتراهم يفترقون عن النهر فيجفّ؟

تبّاً للبلاغة!! ما الذي تقوله عن نهر جافّ في مدينة كلّ ما فيها يتسارع ويتبدّل؟.. وماذا إن كان للنهر ستة فروع يتشعّب فيها، كأنّه يطغى على المكان .. ربّما بفروعه الستّة أراد أن يكسر رتم القداسة السباعية، فهكذا يكون بردى مقدّساً بستّة فروع في خروج ممنهج عن الطبيعة.

بردى أيّها النهر العظيم أيّها الجاف في الزمان والمكان والفائض في الحلم. كنت أريد أن أدلّي قدمي في مائك. لكنهم سوّروك بإسمنت وحديد. والسمراء التي من أصول بركانية غابت مثل مائك. وصرت أنت محيطاً لضياع الماضي، وكنت أريد أن أصرخ في وجهك مثل لوتريامون: «أجبني أيّها المحيط أتقبل أن تكون لي أخاً»..

إذاً تراجع النهر واستطالت الخيبات! وتغيّرت القلوب من هوى إلى هوى، ووجدت نفسي أكتب يوماً، أنا الصحراوي الذي يحبّ البحر ما يلي: «كنت أصبّ لك الشاي فلا يعجبني السكر المنثور على الطاولة يثير بي إحساساً بالنمل ينهش عينيّ اليسرى .. لا أحد هنا\ ولست أشرب شاياًلكني أشعر بالنمل يأكل قلبي هكذا أنا منذ قلت: إنّك مثل ماء النهر لن تعودي مرتين».


المقال منشور في جريدة بلدنا

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

يحاضر في «أربعاء تريم الثقافي» / فراس السواح يقارن بين التاو والديانات الشرقية

24-آذار-2010

مديحة المرهش" عندما تواجه الرومانسية قسوة العالم وفجاجته

17-آذار-2010

الانتظار في زمن الفلافل وبيتزا الفصول الأربعة

28-حزيران-2009

حول مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد.. سوريون وفقط

23-حزيران-2009

السندباد الذي يريد أن يجد اسماً لمدينته المتخيَّلة!!

13-حزيران-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow