Alef Logo
ابداعات
              

القلب ُ حين يجن ُ

علوان حسين

2009-06-09


رأيت ُ صورتها منشورة ً في مجلة تـُعنى بالفن والأدب , رحت ُ أتمعن ُ في الصورة , شيء ٌ ما جذبني إليها وطفقت ُ كالمسحور لاأستطيع رفع َ بصري عنها . لم تكن فاتنة وأخاذة الجمال كنجمات السينما , ولا تشبه ُ هيفاء وهبي في سحرها وأنوثتها ودلالها , صحيح هي لبنانية ونساء بيروت حسب علمي هن الجميلات الأنيقات ولطالما سحرتني هند أبو اللمع في أدوارها الرومانتيكية خصوصا حين شكلت مع عبد المجيد مجذوب ثنائيا رائعا طالما عزفا على أوتار القلوب الحساسة بشاعرية حوارهما ورقته , ولكم فتنتني ألسي فرننتيني بشفافيتها وعذوبتها وجمالها النادر .. تلك كانت في ثمانينيات القرن الماضي حيث كنت ُ أعيش ُ في بيروت . تبدو في الصورة وكأنها تهم ُ بالأبتسام , في الحقيقة كانت نصف أبتسامة
تحوم ُ فوق شفتيها كما فراشة حالمة . هي نفسها بدت لي كما لو كانت حمامة بيضاء حاصرها الثلج فلاذت بنافذة غرفتي تبحث ُ عن دفء ٍ وملاذ .كنت ُ وحدي في الغرفة حين حاصرتني صورتها كما لو كانت حبيبة من أيام الصبا وقد إنبثقت ذكراها وملامحها من الذاكرة للتو . أكثر ُ ما أسرني فيها عينيها , لا ليس سوادهما الذي يُشبه ُ غابتا نخيل ٍ ساعة السحر كما يصف السياب عيني حبيبته , ولا هي العين ُ التي في طرفها حور ٌ , ليس عيني الظبي أو المها , ولا حتى عيني ميدوزا التي تـُحجر كل قلب ٍ بالضغينة , هاتان عينان وديعتان صافيتان كعيني قطة أو عصفور , لكن فيهما ساقية من دموع ٍ يسبح ُ فيها حزن ٌ عميق ٌ شفاف ٌ كماء النبع . هذا الحزن ُ الذي أرتدى حلة ً زاهية الألوان بهية المنظر أضفى على وجهها هالة ً
من نور وملامح بديعة التكوين . كم وددت ُ لو أنني سمكة صغيرة تسبح ُ في بحيرة عينيها اليللكية . بي رغبة أن أشرب َ من تلك المياه راشفا ً العذوبة وكأنني أرضع من نهد . من ْ منا يحب الحزن أو يشتهيه ؟ يقينا لا أحد يرحب بالألم والهم والغم , أما الحزن ُ فهو صديق الأنبياء , ولست ُ بنبي ٍ ولا من سلالة أنبياء , لكني أعشق ُ حد اللعنة هذا الحزن الأنيق في عينيها . أحلم ُ لو أشيل َ هذا الحزن النبيل , حزنها فوق رأسي وأدور ُ فيه في الشوارع كتاج ٍ مرصع ٍ بالنجوم . لو أحمله خاتما ً في أصبعي .. لو أنثره بذورا ً في حديقة القلب وأقطف ُ زهوره وحدي .. لايُسحرني كل ُ جمال نساء الكون لكن ذلك الشعاع الذي يُشبه ُ مطرا ً خفيفا ً ينث ُ فوق الأشجار في الليل , تلك الزهور السرية التي تومض ُ قبل النوم والتي تمنحُك َ الأحساس بالراحة ونوع من النشوة , كل هذا رسائل ُ خفية تأتي من مملكة الحزن المدفونة في عينيها . هل أفرطت ُ في الوصف , لا أشعر ُ بأني لم أقل شيئا ً بعد .. رافقتني تلك الصورة أياما ً وأسابيع وأنا تارة ً أدسها بين طيات كتاب ٍ ولخشيتي من ضياعها أضعها في جيب قميصي أو بين أصابعي أحتضنها كما يُحتضن عصفور صغير ٌ لايُحسن ُ الطيران .. أجلس ُ في مقهى ستار بكس كعادتي ومعي كتبي وأوراقي وتلك الصورة الجليلة ترافقني وكأنها تنبض ُ كالدم في شراييني . تمتد ُ يدي لتفتح َ كتابا ً وأذا بها تفرش ُ تلك الورقة التي بها الصورة فوق صفحات الكتاب فاقرأ ُ الصورة َ بدلا من الكتاب .. كلما هممت ُ في التحديق بوجه ٍ حلو لغادة أو حسناء تـُرمقني صورتـُها ويطفو ذلك الحزن ُ النقي وكأنه طفر َ من عيني َ كالدمع وبلل وجهي فيرتد ُ بصري خائبا ً كسيرا .. الأكثر ُ حزنا ً أن الصورة وصاحبة الصورة إندست في أحلامي أثناء النوم كذلك في أحلام يقظتي التي أخذت تنشط ُ وتعيش ُ عالمها الوردي الخاص بها .. ولكم أنتظرتـُها في مواعيد من نسج خيالي ولم تأت ِ
ولكم كتبت ُ لها رسائل َ حب ٍ لم تصلها للأسف .. كم ْ ذرفت ُ دمعا ً فوق صورتها , وناغيتـُها ودللتـُها وغنيت ُ لها كي تنام َ وتحلم َ بي .. كم ْ حسدتـُها على حزنها الغامض وصمتها وعلى نصف أبتسامتها وسآءلتـُها متى تكتمل أبتسامة المونا ليزا وتنفرط ُ من الوردة أسرارها .. لماذا توحي لي صورتـُها بامرأة ٍ على هيئة ملاك ٍ مغزول ٍ من ضوء ؟ هذا الغموض ُ الذي يغلف ُ وجهها , الضباب ُ على وجنتيها , البياض ُ المعتم ُ قليلا ً , الصمت الرخامي المصقول , الحزن ُُ المحروق ُ والمطحون ُ كتراب ٍ ناعم ٍ مرشوش ٍ بدراية وإتقان ليضفي على وجهها مسحة ً من وداعة وجمال القديسات حتى أنني خلتـُها العذراء مريم وهي تحتضن حزنها المقدس .. ربما بدت بوادر الجنون والضياع في عقلي , وربما يقول ُ قائل ٌ هذه الحالة هي نتيجة من الحرمان والكبت , قد يكون هذا صحيحا ً على الذي يعيش في العراق مثلا ً وليس في مثل حالتي وأنا أعيش ُ في كاليفورنيا مدينة الرقص والحانات والملاهي , حيث النساء مثل ُ الأشجار تـُزهر ُ في كل الأمكنة .. هذا الجنون إذا صح َ حقا ً فلست ُ مستاءا ً ولا برما ً أو خجلا ً منه , على العكس تماما ً هذا جنون ٌ يليق بي كشاعر ٍ تـُثيره ُ الحدوس ُ والسير في شارع الأوهام ِ وعادة الإستغراق في حلم يقظة ٍ طويل ٍ مع فتاة الأحلام التي يبتـُكرها خيالي على وفق مايشاء .. لاأخفي بأنني في الآونة الأخيرة صرت ُ أجلس ُ كثيرا ً في الحدائق العامة منزويا ً على مصطبة ٍ كمن ينتظر حبيبة تأخرت كثيرا ً عن موعدها حتى رحت ُ أحدق ُ في ساعتي كل بضع دقائق ضجرا ً من الجلوس الطويل ومن عادة الإنتظار , الغريب أن حزنها إنتقل َ بالعدوى وتسلل إلى قلبي ونثر َ مياهه في عيني َ حتى أكاد ُ أنا وصاحبة الصورة نصير ُ كائنا ً وحيدا ً هو أنا بعد أن نفخ َ الجنون ُ روحه في كياني وتلبستني صاحبة ُ الصورة التي تماهيت ُ معها وتقمصت ُ روحها كذلك أرتديت ُ حزنها الأبيض وذبول نظرتها وإغتسلت ُ بالدمع الشلال تـُهاجمني دبابير الرغبة والشهوات التي تعض ُ كالعقرب جسدي وما إنكسر في أعماقي من عواطف صافية ً وشعور بالذل والحسرة والإنكسار , ودون شعور ٍ مني صرت ُ أتأرجح ُ مابين الحب والكره , مابين السمو والسقوط نحو هاوية
, كل هذا والصورة أمامي أحدق ُ فيها كما المرآة , أمرر ُ أصابعي بلطف ٍ ورقة ٍ على وجهها , أبتسم ُ لها أبتسامة ً كاملة ً عريضة ً تتحول ُ شيئا ً فشيئا ً إلى تكشيرة ٍ ومن ثم إلى ضحكة ٍ تبدأ ُ صغيرة ثم تكبر ُ وتكبر ُ تركض ُ في الشوارع واركض ُ خلفها كالمجنون , تتدحرج ُ الضحكة ُ ككرة الثلج تكبر ُ وتكبر ُ لتصير َ شهقة ً فصرخة ً حتى تنفجر ُ وتـُصبح ُ كالبركان .

كاتب من العراق
[email protected]

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الشلالات تتفتح في دمي

16-آذار-2014

تلتهمك ّ الأيام على مهلها

07-كانون الثاني-2014

إصغاء

14-حزيران-2012

غياب

20-أيار-2012

قصائد قصيرة :

30-نيسان-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow