Alef Logo
ابداعات
              

أفراح العين الزجاجية المحتقنة

ممدوح رزق

2009-06-16


إلى فلاديمير نابوكوف ...

ثلاثة أصدقاء يجلسون في المقهى .. زوجة الأول جاءت ووقفت على بعد خطوات قليلة من الباب ثم أشارت إلى زوجها الذي نهض وخرج إليها .. الثاني ظل صامتا يتابع بنظرات عدائية صديقه الواقف مع زوجته أمام المقهى .. لماذا يغضب شخص ما حين يشاهد زوجين يتحدثان مع بعضهما في الشارع ؟ .. قد تكون الأسباب المحتملة كثيرة ولكن في هذه الحالة تحديدا فليس هناك سوى سبب واحد فقط : شجار عنيف بين الثاني وزوجة الأول نتج عنه قطع علاقتهما.. بدأ الشجار أثناء مغادرة زوجة الأول لسرير الثاني وبدءها في ارتداء ملابسها .. في هذه اللحظات بدأ الثاني يتحدث بسخرية ممزوجة بالغضب عن علاقة الزوجة الجنسية بزوجها .. الغيرة المتوفرة بقوة في حديث الثاني كانت بالتأكيد تسعد زوجة الأول لكنها هذه المرة صدمت بتجاوز الأمر لحدود الغيرة إلى نوع من المحاسبة التي لا تنجم إلا عن يقين تام بالامتلاك الكامل والاستحواذ المطلق الذي يقرر حرمانها من حرية التصرف في حياتها .. زوجة الأول جابهت بحدة ما اعتبرته اعتداءً صريحا على حقها الإنساني في تنظيم علاقاتها مع البشر وفقا لاحتياجات ومتطلبات أفكارها ومشاعرها تجاه العالم والتي لا يمكن أن تخضع لأي قانون مسبق أو منطق جاهز يخص أحدا .. هذه الحدة رأت أنه من الضروري استخدامها مبكرا لوضع حد سريع يمنع طموح الثاني من التوحش ويوفر عليها مستقبلا أي نوع من الأذى النفسي الذي قد ينتج عن مواصلة أوهام الثاني في تثبيت تأكيداتها لديه بمرور الوقت .. لكن على عكس ما توقعت زوجة الأول فقد جاء رد فعل الثاني أكثر تماديا وشراسة وبدلا من أن يعيد تقييم الموقف ويتخذ بهدوء خطوات تراجعية لينسحب باتجاه موقعه القديم في علاقتهما بدأ يتهكم على زوجها بقسوة متعمدة وببرود شحذ كل طاقته العصبية للحفاظ على تماسكه المغلف بابتسامة هازئة وعينين مجمدتين على نظرة حادة .. أخبرها أن زوجها صديقه الجميل بعد أن أصابه الملل من سرقة قصائد الشعراء الغربيين قرر ارتداء الكوفية الفلسطينية والسير في مظاهرات مناهضة التطبيع ومقاطعة البضائع الأمريكية وبدأ يكتب قصائد بلهاء عن عروبة القدس طمعا في وجاهة نضالية يحاول أن يضيع بها شعوره بالدونية وسط شعراء قصيدة النثر في مصر واستبدال قناعة الآخرين عنه بكونه يكتب كلاما لا يعرف معناه بقناعة جديدة قائمة على أسس وطنية .
ربما كانت زوجة الأول تستوعب جيدا أن زوجها لم يكن هو المقصود تحديدا بهذه الإهانة باعتباره ليس موجودا الآن ولن يسمعها .. كانت تعرف أن الثاني لا يعنيه الأول في تلك اللحظة بل يطمح فقط لإصابتها باستخدامه بعد يقين امتلكه فجأة بأن الهجوم التلقائي العنيف الذي وجهته الزوجة إليه دفاعا عن حريتها في تشكيل مسارات علاقاتها معه ومع زوجها ومع أي أحد آخر في الدنيا لم يكن في حقيقته سوى عاطفة قوية راسخة في أعماق الزوجة تجاه زوجها رغم كل شيء وأنها تنشط بالضرورة في مواجهة أي تهديد يصوب ضده لمنحه الحماية اللازمة .. لكن هذا ما كان يخص الثاني فحسب أو بشكل أدق ما كان يعتقده وبالتالي لم يكن شرطا أن يتطابق مع ما تؤمن به الزوجة بصدق مع نفسها في هذا الموقف .. ربما كانت متأكدة فعلا أن هجومها على الثاني لا ينطلق من أي عاطفة كامنة تواصل الاحتفاظ بها تجاه زوجها ولا حتى من شعور ما بالمسؤلية تجاهه والتي يمكنها أن تنفي بشكل قاطع ـ لو كانت هذه المسؤلية موجودة حقا ـ أي تناقض أو غرابة بين النوم مع صديق زوجها وبين احترامها وتقديرها لهذا الزوج .. ربما كانت متأكدة أنها كانت تدافع عن نفسها فحسب .. عن خصوصيات عالمها التي لا يحق لأحد التدخل فيها والتلصص عليها وتشريحها ولو شفهيا بناء على قدراته الخاصة في التطفل والاقتحام .. قررت زوجة الأول هنا أن تستبدل طريقة هجومها على الثاني بطريقة أخرى وبدلا من الاستمرار في محاولة إقناعه بأن تعرية جسدها وفتح كافة خزائنه من أجله لا يلزمها بتعرية حياتها وفتح حجرة أسرارها ليقيم فيها .. بدلا من هذا حسمت أمرها بأن تهاجمه بطريقته وطبقا للانحيازات التي يتبناها وطالما أنه قرر استخدام زوجها في الاعتداء عليها فعليه أن يجرب إذن كفاءة هذا السلاح حين يستعمل ضده .. أخبرته بأنه إذا كان زوجها بالفعل كما قال فهو على الأقل لا يتحدث بمنتهى الثبات واليقين عن إيمانه برسوخ الشخصية المصرية وصمودها ـ خاصة في عمقها الشعبي والريفي ـ أمام كافة أشكال الطغيان والتغريب العنيفة عبر التاريخ بل ويحاسب أصحابه على عدم توفر هذا الإيمان لديهم بينما من يفتح حافظة نقوده سيجد كارنيه الحزب الوطني .
ـ أنت مجرد شرموطة
قالها فورا .. ولم لا يفعل ؟ .. ما قالته زوجة الأول كان تأكيدا لا يقبل الشك بالنسبة له على صحة استنتاجه السابق بأن عاطفتها تجاه زوجها واحترامها له وحرصها على كرامته لازلت ـ رغم كل شيء ـ هي أكثر القيم قدسية في حياتها .. كان مجبرا إذن على اعتبار كلامها بمثابة نسف كامل وغير متوقع للهامش الحصين الذي كان يبقي عليه آمنا في علاقتهما .. الهامش الذي كان يرعى بداخله أمنياته وتصوراته عن تطوير العلاقة بما يناسب إحساسه بهذه المرأة وهواجسه تجاهها ورغبته فيها والتي لم يكن من الممكن التنبوء بما ستنتجه من قرارات تتحكم في أي مصير محتمل لوجودهما معا .. كان هذا الهامش بالنسبة إليه أيضا بمثابة البيت القديم الثابت الذي يحمي ذكرياتهما الشبقية ويحوي بحرص الخام النقي للعاطفة في وحشيتها البدائية كما تدفقت في دماءهما للمرة الأولى .. البيت الذي يمكن الرجوع إليه في أي وقت حين يقرر أحدهما أو كلاهما أن ما بينهما تحول إلى متاهة كبيرة معقدة أو أن ثمة جدار صلب لا يمكن اختراقه انتصب بينهما كي يمنع توصلهما لأي نقطة التقاء .

هل هذا ما كانت تريده زوجة الأول حقا ؟ .. ربما لا .. ربما أرادت فقط أن ترتفع بالقسوة لمستوى أعلى يجبر الثاني على العودة للماضي الذي سبق هذه المعركة بينهما .. ربما فوجئت أيضا بنسف هذا الهامش المشترك ولكن باعتبار أنه هو من قام بذلك وليس هي .. فوجئت بما يشبه طلقة رصاص تخترق جمجمتها فجأة من أعلى وتندفع بشدة داخل جسدها لتحرقه من الداخل كليا بينما مشاهد قديمة وصور حية من تاريخها الشخصي تتوالى وتتداخل بتصادم عنيف ومدوّخ أمام عينيها مصحوبة بالألم والذهول والغضب والحسرة والرغبة في توديع العالم بالضحك والصراخ .. ربما فوجئت كذلك بنفسها وبما فعلته حينما حصلت على هذه النتيجة المروّعة الصادمة من الثاني .. فوجئت باستسلامها الغير محكوم لرغبتها في إيذاءه إلى هذه الدرجة والذي قد يعني في حقيقته رغبة باطنية لم تتكشف لها من قبل في التخلص من هذه العلاقة .. رغبة ليست لها علاقة بالضبط بزوجها ولا بصديقه الذي كانت تفتش أسفله عن حقائق مدهشة وغير مجربة للذة منذ قليل بل لها علاقة في المقام الأول بنفسها .. بوعيها بالحياة والموت ككل مهما كان مراوغا وملتبسا ولكنها تمتلك على الأقل اليقين الكافي بضرورة أن تقاوم بشراسة دفاعا عن حقها في الاستجابة لما تسفر عنه مسيرة هذا الوعي .

كانت قد انتهت من ارتداء ملابسها فقررت أن تفتح الباب وتغادر في صمت تام دون أن يكون لديها أدنى شك في أن مجرد التفكير في العودة ذات يوم إلى هنا لن يكون واردا أبدا .. هو أيضا لم يتكلم .. راقبها وهي تنصرف وكان يعرف أيضا أنها لن تعود .. آلامه في هذه اللحظة أخذت مسارات متعددة ومتضادة : كلماتها الأخيرة التي تواصل ذبحه وتقطيعه وتصفية دماءه .. شعوره بالندم لكونه بترها من حياته بهذا الرد المتسرع والذي أحس بشكل مباغت أنه كان أفظع بكثير مما قامت به ضده .. كراهيته للرغبة التي امتلكته فجأة بقوة وهي تنصرف في أن يعتذر لها ويطلب منها أن تنسى ما حدث ولا تتركه .. إقراره لنفسه بأن ما فعله كان إجراءا حتميا صحيحا جدا يليق بما اعتبره خيانة شعورية منها ويليق أيضا بحجم المهانة التي أصابت كرامته .. إحساسه بأنه خسر معركة شخصية مع صديقه بعد أن فشل في أن يصبح كل شيء في حياة هذه المرأة وبعد أن أضاع من يديه ما كان يعتبره هدية ثمينة من القدر مما جعل صديقه الذي لا يعرف شيئا يفوز دون أن يدري باحتفاظه بقلب زوجته وجسدها الذي فرّط فيه هو منذ لحظات .. تأمله لفضيحته الذاتية أثناء التتابع المشوش لنتائج الموقف في ذهنه والتي لم تكن أكثر من كشف متصاعد لمدى الضعف المريض به والذي يجبره بشكل مثير للشفقة لأن يحاول التحكم والسيطرة على الآخرين كي يعوّض نقصه الهائل ويشعر أنه كيان مهم ومؤثر في العالم ولو عن طريق امتلاك امرأة .. كان كشفا أيضا عن أنه مغفل كبير لكونه غير منتبه إلى هذه الدرجة لقدرة هؤلاء الآخرون على معاقبته دون بذل جهد إذا ما فكر أو سعى لأن يؤذي أحدا لأنه ببساطة كائن ضئيل جدا يسكن بيتا من زجاج هش فكان يجب عليه إذن أن يكون حكيما ولا يستفز من يقدر على تحويله لأشلاء بكلمات قليلة .. هذا ما ظل يفكر فيه بعد أن أصبح وحيدا في منزله وهذا ما ظل يتذكره وهو يراقب صديقه الواقف يتكلم مع زوجته خارج المقهى .. صديقه الذي عاد وجلس ثانية بعد انصراف الزوجة التي لم تلتفت ناحية المكان الذي يجلسون فيه إطلاقا .. الصديقان سيواصلان حديثهما بشكل عادي جدا عن القصائد واللوحات والنساء والكتب والأفلام والنقاد والسياسة والمؤسسات الثقافية الرسمية والصحافة الأدبية والندوات وكافة الأشياء الأخرى المسببة للضحك أحيانا وللصمت أحيانا أخرى .

لكن ماذا عن الثالث ؟ .. ألم أذكر في البداية أنهم كانوا ثلاثة أصدقاء يجلسون في المقهى ؟ .. الصديق الثالث لسبب أو لآخر كان يعرف الحكاية الجميلة .. كان أيضا يريد أن يتصرف مع صديقيه الآخرين وفقا لهذه الحكاية .. لم يكن يريد أن يجرح أو يؤذي أحدا وللعلم هو صادق جدا في هذا .. كان فقط يريد أن يستخدم حكاية الصديقين والزوجة في تثبيت مصباح أحمر داخل روح كل من صديقيه بحيث يضيء فورا حين يفكر أي منهما في خدش كرامته .. كان يريد أن يخبرهما بشكل غير مباشر أنه يعرف الحكاية أو يلمّح لهما مجرد تلميح بالأمر وأن عليهما إذن أن يحرصا تماما على عدم استفزازه حتى لا يتكلم بصراحة مطلقة أمامهما وأمام الجميع .. الصديق الثالث فشل ببراعة وكالعادة في أن يحقق هذا ولم يتمكن من إحداث أي تغيير في علاقته بصديقيه .. كالعادة أيضا ظل يرجع كل ليلة من المقهى إلى بيته سعيدا وهو يردد بدخله: أنا أعرف الحكايات .. أنا أعرف الحكايات .. أنا أعرف ...

* * *
ممدوح رزق
http://www.mamdouhrizk.blogspot.com/





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مكان الروح

19-كانون الثاني-2010

قراءة في ( شارع بسادة ) لـ ( سيد الوكيل )

08-أيلول-2009

إيروتيك / بوك ستور

30-آب-2009

ما بعد إنكار الإله لوجود ميدان طلعت حرب

23-آب-2009

أفراح العين الزجاجية المحتقنة

16-حزيران-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow