Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

صالح الرزوق

2009-07-07


خاص ألف
أي نوع من الحياة يكون فكاهيا لو أن المرء يعرفه على نحو جيد. و لكنه خطير و مقلق لو أن المرء يعرفه من الأعماق. و بالعودة إلى براغ كان كافكا مشغولا بنشاط يمكن أن تتعامل معه بكلا الاتجاهين. فالصورة التي رسمها لفليس قبل مرحلة مارينباد Marienbad لم تكن محتلمة برأيه ، و قد وهب نفسه لمهمة بطولية تتلخص في تبديلها. و لفترة طويلة ، منذ فترة بودينباخ ، كان يراها بوضوح ، وهو كان لا يألو معها جهدا فيما يخص هذه المعاناة المؤلمة. و لكنه أدى ذلك بطريقة متكلفة و من غير أمل ، لأنه لم يمتلك الأداة اللازمة للتغيير. في مارينباد تبادلا الخطابات حول بيت الأمة اليهودي و مقره برلين ، حيث يتلقى اللاجئون و أبناؤهم الرعاية ، و قد عبرت فليس بإلحاح عن رغبتها في الالتحاق بالعمل هناك في أوقات الفراغ. و لكنه تناول نفس المكان بالكلام من غير خطط مبيتة أو هدف يدور في ذهنه ، و شعر بالحبور حينما " تطرقت لفكرة البيت بشكل منفصل و بالتفصيل" ( 1 ). و من الآن فصاعدا ، كان يضمر أملا حيالها ، و بهذه القدرة على التحمل و التي في حاله كانت توازي معنى القوة ، حرضها في كل خطاب أرسله إلى برلين لتحويل أقوالها إلى أفعال ، و أن تباشر للاتصال بالبيت. و لمدة ثلاث أو أربع شهور ، حتى مطلع تشرين الثاني ، كان يراسلها تقريبا بمعدل كل يوم ، و كان بيت الأمة بلا منازع الموضوع الأساسي في جميع الرسائل ، إن لم يكن هو الموضوع الوحيد.
تقصت فليس عن موضوع البيت ، و كانت تخشى من أن العمل فيه حكر على الطلاب ، و كان جوابه على ذلك إنه لا يتفهم لماذا لديها مثل هذا الرأي : فمن نافلة القول إن الطلبة ، ( من كلا الجنسين ) ، هم بالعادة الأقل أنانية ، و الأكثر تصميما ، و الأشد قلقا و تفانيا و تعاطفا ، و أكثر الناس استقلالية و بعد نظر ، و هم من بدأ المغامرة بالمشروع و إدارته ، و لكن كل من هو على قيد الحياة له الحق أن يكون جزءا منه " ( 2 ). ( من الصعب أن تجد فقرة في كتابات كافكا حيث توجد هذه المترادفات المتتالية ). أن تتبرع بخدماتك في سبيل البيت هذا شأن " أفضل بمائة مرة " من الاهتمام بالمسرح أو كلابوند Klabund ( 3 ) أو أي شيء من هذا القبيل ( 4 ). بالإضافة إلى ذلك ، كان لديه قدر كبير من الاهتمام الشخصي بالموضوع. إن المهمة هنا ليست يسيرة ، و لكنها في مرحلة التشكل ، و من هذه الاستشهادات يمكن جني عسل وفير أكثر مما في زهور غابة مارينباد ، لقد كان حريصا حقا على سماع أخبار عن مشاركتها . و كما هو الأمر بالنسبة لأي صهيوني ، و هذا موضوع لم تكن على دراية كافية به ، لم تكن تنطوي على أي شعور بالرهبة. و من نشاطاتها في بيت الأمة يمكن استيعاب حقيقة مواقفها لأخرى ، و كان كافكا مهتما بالاتجاه الذي سوف تقوده إليه بأفعالها أكثر من أداء الأفعال ذاتها.
و حينما كان في مارينباد قرأ كتابا عن حياة الكونتيسة زينزيندورف ، فأبدى إعجابه بمواقفها من الحياة و " تقريبا بنشاطاتها الفائقة من الناحية الإنسانية " في توجيه كنيسة الأخوة المورافية ( 5 ) و مقرها هيرنهات. و كان يذكرها دائما ، و في جميع جلساته آنذاك احتلت مساحة واسعة من أفكاره و كأنها نموذج يحتذى لفليس ، و تقريبا مثالا ليس في متناول اليد ، و كان هذا على وجه اليقين . " لدى الوصول إلى شقتها الجديدة في دريسدن بعد عقد قرانها ، كانت الشقة قد أثثتها الجدة زينزيندورف من أجل الزوجين الشابين و بطريقة مسرفة كما تبين بعدئذ ، فانخرطت الكونتيسة ذات الإثنين و العشرين ربيعا بالبكاء ". ثم أدلت الكونتيسة الصغيرة بتصريح هادئ أكدت فيه أنها بريئة من هذه الخيلاء ، و طلبت من الله الرحمة و أن يحفظ روحها قوية و أن يعصم عينيها من حماقات هذا العالم. و يضيف كافكا قائلا : " أن يصنع لها تمثال و يقام فوق حانوت المفروشات ".
بفترة بسيطة إن الذي بدأ بشكل رغبة للتأثير بفليس أصبح سلوكا منتظما ، و كان الموضوع الحقيقي جليا. كان يود لو تتخلص من الأخلاق البورجوازية ، لو صحت العبارة ، و أن تتخلص من الأثاث ، و هو برأيه يحمل الجانب المرعب الغاشم من الزواج البورجوازي. و عليها أن تعلم كم هو ضئيل المعنى المناط بالعمل المكتبي و الأسري ، فهو من علامات الأنانية ، و قارن ما سبق بالعمل المتفاني الذي تتضمنه نشاطات البيت اليهودي في سبيل رعاية الأولاد اللاجئين. و لكن الإجهاد الفائق الذي دفعها إليه هو شيء لا يمكن للمرء التبؤ بالقدرة على تحمله. و سأل عن معلومات حول كل خطوة تقربها من بيت الأمة. ثم عن جميع التفاصيل حول عملها هناك ، هذا بعد أن تم قبولها. و في إحدى الرسائل تجد عشرين سؤالا عن عملها، لقد كان اهتمامه يزداد ، و أصبح يتقلب على الجمر في انتظار الأخبار. كان يلح عليها ، و ينتقدها ، و يشترك معها في كتابة خطابات سوف تلقيها من منصة في البيت ، ولهذه الغاية قرأ و درس تعاليم الشباب yugend lehre للكاتب فريدريك فيلهلم فورستر. و كان يصطاد كتب الأطفال في البيت ، حتى أنه أرسل لها من براغ عددا من الأعمال المبسطة من أجل اليافعين و التي اعتقد أنها مناسبة ، و استمر بالإشارة إليها في رسائله بدقة متناهية ، و طلب صورا لفليس مع الأولاد ، و ذلك ليكون مطلعا على التفاصيل من مسافة بعيدة. و كلما شعر بالرضا كان يمطر فليس بالثناء. و هذا الثناء أو المديح كانت له نبرة قوية حتى أنها اعتقدت أنه إشارة تدل على الحب – و كان يصدر عنه كلما تبعت إرشاداته. و بالتدريج أصبحت على قدر من التواضع و الطاعة مثلما توقع منها. و إن استكمال صورتها ، و تبديل ملامح شخصيتها ، و التي من دونها لن تكون الحياة معها في المستقبل ممكنة ، تحولا إلى طريقة للتحكم بها.
و هكذا انهمك معها في أعمالها ، مع أنه ، كما قال في رسالة أخرى ، يفتقد للإخلاص الضروري. لقد كانت تؤدي العمل بالنيابة عنه بكل ما تفعل . و هو على العكس ، كان بحاجة لمزيد من العزلة ، و قد وجد ضالته في منتزهات براغ يوم الأحد ، أولا برفقة شقيقته أوتلا ، و التي كان معجبا بها كما لو أنها خطيبته. حتى أن بعض زملائه في المؤسسة التي يعمل بها و بعد أن التقى بهم في إحدى نزهاته ، اعتقدوا أن أوتلا خطيبته ، و هو لم يتردد في نقل هذا الخبر لفليس.
الآن و قد أصبحت لديه متعة جديدة في وقت فراغه : الاستلقاء على الأعشاب ، شرع يقول : " حينما استلقيت هناك في ذلك اليوم ، تقريبا في الخندق ، ( كان العشب في هذا العام طويلا و غزيرا ، حتى في الخندق ) ، مر سيد جليل يمتطي عربة يجرها جوادان ، و هو ممن أتعامل معهم أحيانا في عملي ، و كان في طريقه لينضم لجماعة من وجوه القوم. تمطيت و شعرت ببهجة شديدة...لأنني في الخلاء" ( 6 ).
و قد اكتشف خلال نزهة مع أوتلا بالقرب من براغ ، مكانين رائعين ، " كلاهما هادئ مثل جنة عدن بعد طرد الإنسان منها " ( 7 ). و في وقت لاحق كان يتنزه وحيدا : " هل تعرفين متعة العزلة ، السير وحيدة ، الاستلقاء تحت الشمس وحيدة ؟. .. هل سرت وحيدة لمسافة طويلة. إن القدرة على الإحساس بذلك تفترض التكهن بقدر كبير من الشقاء المنصرم مع قدر مماثل من السعادة. في مرحلة الصبا كنت وحيدا لفترات طويلة ، و لكن ذلك لدوافع لها علاقة بالظروف ، و نادرا ما كان الأمر يتم باختياري. الآن ، على أية حال ، أضغط نحو العزلة كما تضغط الأنهار لتصب في البحر" ( 8 ). و في مناسبة أخرى كتب يقول : " مشيت طويلا ، قرابة خمس ساعات ، و كنت وحيدا و لكن ليس كما ينبغي ، و هذا في وديان مهجورة ، غير أنها ليست مهجورة كما ينبغي " ( 9 ).
كان خلال هذه الفترة يجهز نفسه ذهنيا للحياة في الريف ، و هذا سوف يتحقق مع أوتلا في منطقة زورا بعد عام ، و في نفس الوقت كان حريصا على ربط فليس ، بقوة أكبر ، مع مجتمع بيت الأمة اليهودي في برلين. و خلال أيام الأسبوع كان يعيش حياته المهنية ، و التي شحنت كيانه على نحو متزايد بالقرف ، و هذا كان يدفعه للتفكير في الفرار منها بالتطوع : كجندي و ذلك على الأقل يضمن للمرء عدم الإقلال من نفسه. و لم تذهب فليس من حساباته – بسبب نشاطتها في بيت الأمة.
و لكنه غالبا ما كان يتطرق في رسائل تلك الفترة لكتاباته أيضا. و بما أنها فترة شعر خلالها بعدم القدرة على إنجاز أي عمل جديد ، فقد أخبرها فيها عن مصير قصص قديمة ، و مراجعات نقدية ، و بعض المنشورات الأخرى. و في أيلول أعلن أنه تلقى دعوة لأمسية أدبية في ميونيخ. كان يحب أن يقرأ بصوت جهوري و كانت لديه رغبة للمشاركة. و رغب لو أنها معه. و رفض اقتراحاتها بخصوص لقاء في برلين أو براغ. كان يخشى برلين بسبب ذكرياته عن مصادفات وقعت أثناء الخطبة و بسبب " الحفل " الذي نادرا ما تحدث عنه في رسائله. و طبعا – كانت قد مرت على ذلك سنتان.
و لكن حينما عاد الماضي إلى الذهن و تذكر مكانا في برلين ، لم يتأخر في الإعلان عن إحساسه بفداحة جروح تلك الفترة و التي لا تزال تنزف. إن الذي يمنعه من اللقاء معها في براغ هو عائلته : بكل تأكيد سوف تجلس فليس على منضدة في بيت العائلة ، و إن وجودها سوف يعزز من شوكة العائلة ، تلك القوة المطلقة التي يعارضها دائما بكل قواه. و إن إبعاد فليس عن براغ ، كان أشبه بسلوك السياسي الذي يحاول ضرب الحلف المزمع عقده بين عدوين محتملين. لذلك احتفظ بخطته لعقد لقاء في ميونيخ. و لمدة شهرين كانا يتراسلان حول المسألة. كان يدرك أن أمسية أدبية هي مصدر قوة له ، و إن فليس أيضا مهتمة الآن بذلك ، و هي مستسلمة له. و هذا مصدر قوة أخرى.
في ميونيخ سوف يندمج مصدرا القوة ، و أحدهما سوف يصب في مصلحة الآخر.
هوامش :
1 – انظر رسالته بتاريخ 12 أيلول 1916 .
2- انظر رسالته من براغ ، بتاريخ 30 تموز 1916 .
3 – كلابوند هو الاسم المستعار لألفريد هينشيك : كاتب و شاعر ألماني مولود عام 1890 و متوفى عام 1928 .
4 – انظر الهامش 3 .
5 – منطقة تقع في شرق الجمهورية التشيكية.
6 – رسالة من براغ ، مؤرخة في 1 آب 1916 .
7 – رسالة من براغ بتاريخ 10 أيلول 1916 .
8 – رسالة بتاريخ 26 أيلول 1916 .
9 – رسالة من براغ بتاريخ 16 تشرين الأول 1916 .


إلياس كانيتي ( 1905 – 1994 ) : كاتب من أصل بلغاري حاز على جائزة نوبل عام 1981 . يكتب باللغة الألمانية فقط. يحمل شهادة دكتوراة في الكيمياء من جامعة فيينا ، و لكنه لم يعمل في هذا المضمار. تحدث في معظم أعماله عن معاناة الشعب اليهودي من النازية و عن سيكلوجيا الجموع. له رواية واحدة و ثلاث مسرحيات.
المصدر :

Kafka’s Other Trial by Elias Canetti . in Letters To Felice by Franz Kafka. Penguin Modern Classics. Penguin Books. England. 1978 .

صالح الرزوق - 2009


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow