Alef Logo
يوميات
              

الفِتْنةُ ليست دائمًا أشدَّ من القتل!

فاطمة ناعوت

2009-07-24


الآن، في جميع مطارات أوروبا لافتةٌ تقول: "مَن يرى مُدخِّنًا ولا يُبلغ عنه سلطات المطار، يُجرَّمُ بدفع غرامة قيمتها خمسون يورو!" يعني ليس فقط مَن يُدخِّن سوف يدفع غرامة، بل مَن يراه، ولا يُبلِغُ، يُعتبَرُ مُشاركًا في جُرْم تلويث البيئة وإتلاف رئات خلق الله. قرأتُ اللافتةَ، ولويتُ شفتي بامتعاض، ثم أشحتُ عنها بوجهي بتعالٍ وأنا أقول لنفسي: طبعًا، فهُم لا يعرفون الآية الكريمة: "والفتنةُ أشدُّ من القتل."
في المدرسة زمان، كانت المعلّمةُ تقول هذه العبارة للتلميذ الذي جاءها ليشي بزميله الذي ترك صنبورَ المياه مفتوحًا فأغرق الفناء، أو ذاك الذي أوقع زميلته من الأرجوحة فاتسخ ماريولها. لم تُفهمنا المعلمةُ وقتَها أن "الفتنة" لا تعني "الوشاية بالآخر"، بل معناها الشركُ بالله وإفشاء الفتنة في الأرض. لم تخبرنا المعلمةُ بذلك ليس لأنها قبطيةٌ لم تقرأ القرآن، بل لأن هذا هو المفهومُ القارُّ في الأذهان عن مفهوم "الفتنة"، حتى بين معظم المسلمين. لذلك كبرنا على مفهوم "التستّر على الخطأ" و"التواطؤ مع المُخطئ". فانتشرَ ما انتشر في مجتمعاتنا من مفاسد في السلوك وفي القول. بل والأدهى من ذلك، ربما نبتسمُ في وجه المخطئ، مُعلنين له في صمتٍ: إنّا معكَ متواطئون، فلا تخشَ شيئًا!
إن أنتَ شاهدتَ شيخًا مهيبًا بلحيةٍ يفتحُ نافذةَ سيارته المكيّفة، ليلقيَ في الطريق الدائريّ كيسًا مملوءًا قمامةً، لن تعير الأمر التفاتًا. ولو كنتَ حريصًا على نظافة بلدك، فأقصى ما ستفعله هو أن تمتعضَ، ثم تلتفتُ إلى ابنك الجالس جوارك في سيارتك وتقول: "شوف عمو عمل تصرف وحش، ميصحش نرمي حاجة في الشارع!" أما لو أخذتكَ الحِمية، مثلي، وأسرعتَ وراء الشيخ فكسرت عليه بسيارتكَ لتجبره على الوقوف، ثم تجاهلتَ نظرةَ الاندهاش في عينيه الورعتين، وعاتبته برفق، بعدما لمستَ سيماء التقوى في عينيه، قائلاً: "ليه يا حاج نرمي المخلفات في الشارع، مش لازم نكون قدوةً حسنةً للآخرين؟" فسوف تجد عينيه تزدادان اندهاشًا، ثم تضيقان ببطء، قبل أن ينهركَ بكلمتين في جنابك، تتعلم بعدها ألا تتدخّل في شؤون غيرك! وكأن الشارع ونظافته ليس شأني وشأنكَ وشأن كل مواطن في هذا البلد الأمين! وكأن النظافةَ ليست من الإيمان! وكأن الإيمانَ هو قيامُ الليل وتلاوةُ القرآن وتحجيبُ البنات، ثم إفسادٌ في الأرض! بعدما تسمع تلك الكلمة النابية، وتشاهد هذه النظرة القاسية، سوف تتعلّم، مثل كل المصريين الراهنين، سياسةَ التواطؤ. التواطؤُ على الخطأ. فإن كانت الثورة على الخطأ مُنْجِيّةً، فالتواطؤُ عليه أنجى وأنجى.
يصل الأمرُ مداه الأقصى والأقسى والأزفت، حينما تشاهد بأم عينك أحدهم يمدُّ يدَه في جيب رفيقه في أتوبيس مزدحم، فتغضّ طرفَك. وحين تشاهد شرطيًّا يصفع طفلاً، فتصمت، وحينما تشاهد شلّةً من الفتيان الشُّطار وقد امسكوا بفتاةٍ يتحرشون بها، فتسرع الخطو مبتعدًا وأنت تدعو لبناتك بالستر. هو ذاته ما حدث للفتاة في روكسي حينما أمسك سائقٌ حقير بنهديها، على مرأى ومسمع من المارة في وضح نهار الظهيرة، فاكتفوا بالنظر والفرجة. وحينما ركضت البنتُ ثائرةً على كرامتها وراء الجاني لتمسك به وتقدّمه للعدالة، التفوا حولها ينصحونها بالصمت الجميل، ثم يلومونها إنها السبب كونها لا تضعُ الحجاب!!
ثقافةُ التواطؤ هذه ليست، وحسب، بسبب انخفاض وعينا بحقوقنا، لكنها نتاجُ ممارساتٍ إيجابية صنعناها مرّةً، فقوبلت بالتهكّم والسخرية، فتعلمنا، بعد ذلك، بالتراكم أن نضع ألسننا في أفواهنا ونخرس. أعرفُ شابًّا ذهب إلى قسم البوليس يشكو جارًا له يدير شقته في أمور الرذيلة، فما كان من المأمور إلا أن نظر مليًّا إلى الشاب، وابتسامةٌ عريضة فوق شفتيه، قائلاً: وانت بقا متغاظ انك مش عارف تعمل زيه؟


النشر الورقي اليوم السابع


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

يا الله، من رسم الخطوط حول الدول؟ ترجمة:

07-تشرين الأول-2017

«الشاعر» هاني عازر

20-تموز-2014

نوبل السلام لأقباط مصر

28-حزيران-2014

هنركب عجل

18-حزيران-2014

النور يعيد السيدة العجوز

11-حزيران-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow