Alef Logo
ضفـاف
              

ألفٌ بألفِ ألفْ / قاتلوا العلمانية يحثوننا: قاتلو العلمانية!

حسان محمد محمود

2009-09-14


درس عربي في اللغة:
ألف التفريق في كلمة (قاتلوا) تميز بين فعل الأمر وبين الاسم، أي بين من يدفع للقتل ومن يقوم بفعل القتل، وفي ذلك بيان للصواب في خطأ شاع لدى معدي شارات البداية و النهاية في مسلسلاتنا، هو وضع الألف لجمع الأسماء، فإذا قلنا: فنانو ومحامو وفنيو ومثقفو وقاتلو ومساعدو؛ لا نضع لها ألفاً، بينما نضعها للأفعال مثل: كتبوا، ذهبوا، قاتلوا، ساعدوا، ثقفوا..
درس عربي في التاريخ:
اشرأبت أعناق العرب غرة القرن العشرين، وارتفعت هاماتهم، وباشروا ولوج التاريخ بعد طول خروج منه، أسوةً بشعوب أخرى، واستفادةً من الظروف الدولية آنذاك، فانتفضوا ضد سلطة الخليفة العثماني بخطاب علماني، وتحقيقاً لمشروع سياسي علماني (قومي). وكانوا في ذلك معبّئين ومحفوزين بأفكار النهضويين العرب (مسلمين ومسيحيين) ممن اغتربوا تعلماً ورجعوا بأفكارهم وتنظيماتهم العلمانية التي رفعت شعار الاستقلال القومي ـ ليس الديني ـ عن سلطة الخليفة.
وفي الوقت الذي كانت تجري فيه مفاوضات ومراسلات (حسين ـ مكماهون)، ويشرع هذا المشروع بتكوين مؤسسات الدولة الوليدة (جمعية تأسيسية، جيش موحد، علم واحد، سلطة مركزية..) كان (العلمانيان) بيكو و سايكس يقسمان المنطقة بوصفها تركة رجل مريض شارف على الموت.
وكان (العلمانيون) الفرنسيون في صراعهم مع أمثالهم البريطانيين للسيطرة على المنطقة، وخاصة بعد إطلاق مشروع حفر قناة السويس، يخططون لإيجاد حامية لهم تأخذ شكل كيان سياسي (دولة) في لبنان، يقوم على استثمار المشاعر غير العلمانية لأتباع الكنيسة الكاثوليكية.
أما (علمانيو) بريطانيا فقد أعطوا الوعود لليهود لإقامة دولة لهم في (جنوب سورية) من أجل خلق قاعدة تضمن سيطرتهم على طريق الهند.
أي أن (علمانيي) الاحتلال طعنوا المشروع السياسي العلماني العربي طعنتين:الأولى كانت حين كذبوا في وعودهم بمساعدة العرب على إقامة كيانهم السياسي الموحد، على أساس قومي، فقسموا المنطقة بينهم باتفاق سايكس ـ بيكو. أما الثانية فتجلت بإقامة الحاميات وإنشاء الكيانات السياسية غير العلمانية.
ولم يكتف مصدّعو رؤوسنا بخطبهم المليئة حرصاً كاذباً على العلمانية بما فعلوه، بل أوغلوا قتلاً في أية إمكانية لانبعاث مشروع آخر. فقام الفرنسيون منهم بتقسيم سورية غير الطبيعية (بعد سلخ الأردن وفلسطين وجبل لبنان عنها) إلى دول غير علمانية (دولة الدروز، دولة العلويين، دولة حلب..)، معلنين حمايتهم للأقليات كإحدى فوائد احتلالهم ومبرراً (لوجودهم)، في محاولة لوضع المجتمع الموحد في مشروعه السياسي الاستقلالي أمام احتمالات تفجّر قنابل النزاعات الداخلية الدينية والمذهبية المختلقة حيناً والمضخمة حيناً ثانياً. ويكفي كي نعرف ما فعلته فرنسا في سورية أمس، أن ننظر إلى ما تفعله أمريكا في العراق اليوم.
هكذا، اقتضت المصالح السياسية (للعلمانيين) الاستعماريين إبعاد المجتمع العربي ومشروعه السياسي العلماني عن فسحات الدفء والضوء، و وضعه أسيراً في برودة وظلام قمقم انتماءات ضيقة دينية ومذهبية وقبلية، مكبلاً بقدرة الغرائز على التشتيت، ما سرّب سماً زعافاً للفكر والممارسة العلمانيين.
وتوالى غرس سكاكينهم في جسد العلمانية العربية في كل من مفاصل التاريخ الحديث المختلفة، إذ حين عجزوا عن البقاء في بلادنا وجرفت احتلالهم العسكري أمواج بحر التحرر الوطني، تذكروا وعدهم لليهود واستعاضوا عن وجودهم المباشر بإنشاء (إسرائيل)، وهذه الـ (إسرائيل) لم يقيموها دولة دينية يهودية (غير علمانية) في صحراء ليبيا أو على سواحل تونس، بل في مكان له من القدسية الدينية ما نعرف، مؤججين بذلك الشعور الديني لدى شعب المنطقة، حتى أمسى لسان حاله يقول: لم لا أعيد أمجاد الفتوح الإسلامية وأقيم دولة (لديني) ما دامت شرذمة من يهود أقامت دولة (لدينها)؟
فإذا بالشعب يحنّ إلى دولة الخلافة، خاصة بعد أن تثّبت من فشل الأنظمة في تحرير فلسطين ومقدساتها إثر احتلال القدس، والسيطرة على أولى القبلتين وثالث الحرمين، ورشّ ملح الإهانات على الجرح الديني باستمرار الاستفزاز وتعدُّد أشكاله، من حرق للأقصى، وحفر تحته، إلى تهديد بهدمه بغية إقامة صرح ديني آخر مكانه (هيكل سليمان المزعوم) وانتهاءً بزيارة شارون، غير ناسين مذبحة الحرم الإبراهيمي.
ألم يحاربوا الأنظمة والأحزاب اليسارية والقومية ويحاصروها؟ ومن أمدّ (المجاهدين) في أفغانستان بشتى صنوف الدعم؟ أليس كيسنجر من أشعل الحرب الطائفية في لبنان؟ ومن فعل ما نرى اليوم في العراق؟ وما هي أبعاد وتجليات فوضى رايس البناءة؟ ومن يجعل (لبننة) العراق و(عرقنة) لبنان قطبي رحى تلتهم طحناً التماسك الاجتماعي والسياسي لدول المنطقة.
لقد نزعوا عمداً وعن سابق تصميم غراس حقل كان يؤمل جني ثماره بعد حين من النضال والبناء، ونثروا بذور الطفيلي من الأعشاب، ثم رشوا المبيدات والأسمدة اللازمة لإفساد التربة العربية تدميراً للأصيل من خواصها وعناصرها ودساً لمستلزمات نمو تلك الأعشاب، فأضحت بديلاً لتدخلهم المباشر، لعلمهم أن هذه الطفيليات بحكم تكوينها وخصائصها الذاتية سوف تذوي الغراس المثمرة.
بمعنى آخر: وبعد اكتشاف النفط في المنطقة، ما أضاف مبرراً آخر للعبث بنسيجها للهيمنة عليها، إضافة إلى موقعها الجغرافي، أوجد المحتلون في المجتمع العربي حركيّة ذاتية لمحاربة العلمانية، رأس حربتها العقائدية (إسرائيل) وممارساتها، وقاعدتها فئات اجتماعية وأحزاب سياسية وأنساق ثقافية معادية للعلمانية. متحكمين بفعالية هذه الحركيّة ومستويات وأدوات تأثيرها وفق متطلبات ومنعرجات مشروعهم الهيمني. فتراوحت وتدرجت منهجيات وأد العلمانية بين ضفتين: الأولى دفع الأفراد والمجموعات إلى تعميق ولاءاتهم غير الوطنية، أما الثانية فكانت ممارسة العنف كلما اقتضت الضرورة السياسية ذلك.
ومن أدوات حركية قمع العلمانية نذكر مثلاً: دساتير تكرس الطائفية السياسية توفيراً للبيئة الملائمة لإشعال الحروب الداخلية عند اللزوم، ونظم حكم قاهرة شعوبها ناصرةٍ أعداءها، واغتيالات مفكرين ونفيهم وتطليق زوجاتهم قسراً بتهمة ارتداد أزواجهن عن الدين، وحشد المظاهرات ضد كلمة وردت في إحدى الروايات..إلخ. ولعل الأدهى من كل ما سلف نشوء أحزاب تتقنّع بالعلمانية عمادها انتماءات ضيقة تناقضها.
وإن اقتصر حديثنا على محاولات قتل المشروع السياسي العلماني بأدوات سياسية، فإن هذا لا يعني إغفال المسارات الفكرية والثقافية التي استخدمها قاتلو العلمانية ومريدوهم لوأد علمانية العرب، وأهمها على الإطلاق: نشر وتعميم أكذوبة اقتران العلمانية بالإلحاد، تشويهاً لهذا المفهوم في أذهان سواد الناس، وإبعاداً لهم عن تأييده، ونبذاً لمن ينادي به أفراداً وتجمعات.
ولما كانت العلمانية مشروعاً سياسياً جوهره الثقافيّ الفصل بين الدولة والدين، والتفريق بين السلطتين الدينية والدنيوية، فقد عمدت دول الاحتلال بعد أن شيّدت علمانيتها إلى حرمان من احتلتهم من إنجاز ما أنجزت، محتكرة العلمانية احتكارها للعلم والديمقراطية والثروة، ما يؤكد مقولة: ما نعم غنيّ بغناه إلا بحرمان فقير مما ينعم به.
و(قاتلو) العلمانية هم أنفسهم سالبو الحرية في بلادنا وسارقو استقلالها والعابثون بمقدراتها، وما انفكوا على مر الأيام يحثوننا: قاتلوا العلمانية!
أ رأيت ألف التفريق بين (قاتلوا) و (قاتلو)؟
أ ألفيت ألفاً كألف التفريق؟
لله در لغتنا العربية وألف التفريق فيها، إنها ألِفٌ بألْفِ أَلِفٍ.
حسّان محمّد محمود
[email protected]
النشر الورقي جريدة النور العدد 271
النشر الألكتروني موقع ألف




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

المتة إن عزت

05-أيلول-2020

قصة مقالة عن أدونيس

23-أيار-2020

ضحكة فلسفية

04-نيسان-2020

هكذا تكلم أبو طشت ـ جزء 6 المرأة التي قتلتها مؤخرتها

21-أيلول-2019

هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي.

14-أيلول-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow