Alef Logo
الآن هنا
              

"بين الإهمال والتقديس .. يعلن الإعلام نهاية الشعر"

حازم عبيدو

2009-09-07

بيير بورديو

من الملفت للانتباه ما حظي به الشاعر الكبير محمود درويش من اهتمام في وسائل الإعلام سواء في حياته أو مماته، وليس محمود درويش فقط من نال هذه النجومية، فهناك محمد الماغوط الذي أُنتج عنه عدد من البرامج التلفزيونية بالإضافة إلى عدد كبير من اللقاءات والحوارات الصحفية والتكريمات التي (نَالتهُ) قبل وفاته. وفي احتفالية دمشق عاصمة الثقافة كنا نقرأ شعر نزار قباني على اللوحات الطرقية في شوارع دمشق فتشعر كأنك تسير في (يوتوبيا) مدينة الشعراء المُتخيلة، وبشكل دائم تظهر تسجيلات قصائده على شاشة التلفزيون، حتى أن بعض المقاهي تكتب مقاطع من شعره على فناجين القهوة. ولا يخفى على أحد الاهتمام الذي يحظى به أدونيس من قبل وسائل الإعلام في حله وترحله وتصريحاته وكتبه وحتى امتعاضاته.
ألا يصب هذا الاهتمام في التقدير العميق لنتاج المبدعين؟ لماذا إذن هذه الشكوى المستمرة من وسائل الإعلام ونعتها من قبل المثقفين والشعراء بالإهمال وعدم الاكتراث؟!. والسؤال الأهم هل نحن فعلاً أمة تقدر شعرائها ومبدعيها؟
النرجس يتأمل ذاته في المرآة
اشتريت مرة مجلة تضع على غلافها صورة كبيرة للشاعر محمد الماغوط، وذلك لاعتقادي –وكنتيجة منطقية- بأن ملف المجلة لهذا العدد عن الشاعر، وطبعاً، لا يمكنني التأكد بعد أن أصبحت المجلات تغلف كعلب الحلويات وصاحب الكشك يعلق ورقة أكبر من صورة محمد الماغوط على غلاف المجلة "ممنوع تصفح المجلات"، واتضح لي بعد أن أخذت المجلة أنها لا تحوي إلا إنشاء من الدرجة الثالثة أو الرابعة وبعض التهويمات حول الشاعر لا تتجاوز النصف صفحة.
هل هذه الخدعة بدون معنى وتمثل حالة خاصة؟ ومن المسؤول عنها؟
يؤسس الإعلام صورة جديدة للمبدعين تقوم على فكرة التقديس (النجم المعبود) وصورة النجم أكثر من صورة المبدع، وعلى قدر ما يحمل مفهوم الإبداع من حركة وتفاعل مؤثر ومتأثر، تنطوي فكرة النجم على السكون وعبادة اللمعان المُضلل فلا يظهر إلا العمى الأخاذ بينما الحقيقة الحية تقبع خلف بريق السطح، ولا يقتصر الأمر على الظهور المبهر للمبدع النجم ولكن أيضاً ما يخفي هذا الإبهار في ظله من مبدعين لم ينالوا ذات الحظوة ولأسباب عديدة ...
إن دخول الإعلام ضمن آليات عمل السوق، تقتضي ووفقاً لهذه الآليات تحويل كل شيء إلى ماركة، وخلق صورة ذهنية لهذه الماركة في عقول المستهلكين والمثل الأعلى (مرسيدس)، وكما أن كل ماركة تُسوق على أنها الأفضل على الإطلاق، كذلك يقوم أصحاب المؤسسات الإعلامية – وهم في الأغلب رجال أعمال ورجال سلطة وأهدافهم تتقاطع وتتشابك بين الربح والنفوذ- بتسويق بعض المبدعين فقط وبذات الطريقة، وذلك لتحسين صورتهم بظهورهم كرعاة للثقافة من جهة، ومن جهة أخرى تكريس أولئك المبدعين كماركة رابحة تزيد نسبة الإقبال على قنواتهم.
ربما تنطوي هذه الظاهرة على شيء إيجابي وهو إتاحة حيز للإبداع وإن كان صغيراً، ولكن هناك مسألتان تقللان من هذه الإيجابية إن لم تنسفانها من أساسها.
الأولى تحويل المبدع –النجم إلى سلطة مطلقة ونهائية، فعلى سبيل المثال هل يعقل أن شاعراً بقامة محمود درويش لا يكون له نقاد يختلفون حول تجربته أو خصوم (أسوة بالمتنبي)، وكل الصفحات الأدبية –حتى قبل وفاته- لا تحوي إلا غزليات، وأن يجابه الشاعر شوقي بزيع بما يشبه التكفير لأنه أشار لعدد من الأخطاء في مسودات قصائد لا يتحمل درويش وزرها لأنه لم ينهيها ولم يقدمها أساساً للطباعة. تقديس المبدع يؤدي إلى شكل من التجانس والتماثل وينذر بنهاية الإبداع.
المسألة الثانية والتي لا تقل أهمية عن الأولى أن هذا الظهور لا يقول شيئاً. يؤكد (بيير بورديو) "أن المثقفين لا يتساءلون لماذا نقبل الاشتراك في برامج التلفزيون، ولا يشغل بالهم إذا كان من الممكن أن يقال بعض الشيء، على اعتبار التلفزيون محكوم بشروط ومقاييس كثيرة ويراعي الأعراف السائدة سواء بشكل واعي أو غير واعي". وكلام بورديو هنا موجه إلى المجتمعات الغربية، أمّا في مجتمعات محافظة كمجتمعاتنا فالظهور التلفزيوني يعني الخرس الكامل، فلا تتكلم عن الدين ولا عن السياسة ولا عن الجنس وقل بعدها ما تريد وبكل حرية، ويزيد الطين بلّه أن بعض المثقفين يعتذرون عن ذكر الأسماء وإبداء الرأي حول مبدع ما أو تجربة ما، إذاً، ماذا يفعل المبدع على شاشة التلفزيون؟
- ببساطة "النرجس يتأمل ذاته في المرآة" على حد رأي بورديو.
ندّابون على مائدة الموت
في الآونة الأخيرة شهدنا غياب عدد من مبدعينا، كان آخرهم الشاعر الكبير علي الجندي، والذي كان من الممكن أن يكون رحيله مناسبة للاهتمام بنصه وبالحياة التي عاشها على صخبها وتناقضاتها، وبالمرحلة التي تحمل دلالات هامة لنا على اعتبارنا من تبعات تلك المرحلة، وتُعمق من جهة أخرى معرفتنا بإبداعه كتعويض لما لحق به من إهمال ونكران في حياته.
وبالرغم من تنطح عدد كبير من الصحفيين للكتابة عن رحيل الشاعر، إلا أن عدداً كبيراً منهم –المعتادون على المناسبات- لا يمتلكون أي دراية بالأصول المهنية للصحافة الثقافية تؤهلهم لتوديع مبدع كعلي الجندي، فعلى سبيل المثال لا الحصر يغطي موقع (eSyria) تشيع الشاعر كأنه يغطي انقطاع التيار الكهربائي في أحد الأحياء، يبدأ التقرير بالتعريف بالشاعر- وهذا ليس اجتزاء- "وهو الشاعر الذي عرف كيف تصاغ الكلمة، فكان صاخباً رغم البدء الذي كان هو الصمت"، ولا أدري ماذا يريد أن يقول الكاتب هنا! ثم يجري بعض المقابلات مع رؤساء فعاليات ليست معنية بالشعر بشكل أساسي ولا تغني التقرير بشيء، ومن الملفت أن تلخص إحدى الإجابات موت الشاعر على أنها مشكلة شواغر فمن يموت لا يأتي بدلاً عنه، فينتابك شعور أن الصحفي سيتصل بإذاعة صوت الشعب ليعرض المشكلة على المسؤولين من أجل تأمين شواغر، وكأن الشاعر ليس مفرداً أو أنه يحتمل البدائل فمن هو بديل المتنبي على سبيل المثال! ويختتم التقرير "أن (eSyria) تشاطر الأمة العربية حزنها على فقدان الشاعر" وأشك أن معظم الأمة العربية لا تعرف الشاعر ولا حتى غيره. لماذا هذا الإطناب الذي لا يختزن إلا الخواء، ولماذا كل هذا الركام من الكلام الفارغ، ألا يحتاج الموت إلى قليل من التواضع، أحد الصحفيين الذي أفلت العنان لمخيلته يشبه موت علي الجندي بخبر كان!
ماذا تريد أن تقول هذه الكتابات؟ وما هو الغامض الذي وضحته؟ إذا لم أقل زادته غموضاً.
نحن العرب أضفنا إلى أنواع الكتابة الصحفية نوعاً جديداً يسمى (الندب الصحفي) وهو يقوم بوظيفة (الندّابة) كما نراها في الأفلام المصرية بالضبط. عندما يموت المبدع تتسابق الأقلام للبكاء عليه بدون أي ذكريات مشتركة أو تفاعل خاص مع نتاجه يتيح رؤيته من زاوية مختلفة وأكاد أجزم أن الصحفيين الندّابين لا يقرؤون من يندبونهم، وتستطيع أن تستبدل اسم علي الجندي بمحمد الماغوط أو بدوي الجبل فلا يتغير الأمر، وهذا النوع من الصحافة يُستخدم تحت يافطة الحفاوة والاهتمام لتغييب الشاعر أكثر من إظهاره، فيصير الموت موتين والغياب نفق أسود وطويل.
عراة إلا من قصائدهم
إضافة إلى التقديس والتمييع هناك نموذج ثالث لتعامل الإعلام مع الشعراء، ويعد هذا النموذج من أصدق النماذج على الإطلاق وهو الإهمال المباشر، فالعلاقة واضحة لا تضليل ولا تظهير فصاحبة الجلالة لا تعترف بوجودهم ولا هم ينتظرون منها شيء، وهذه الحقيقة على بساطتها المؤلمة تتنكر للناس قبل الشعراء أنفسهم على اعتبار الشعر مهما كان فردياً هو بالمحصلة عبقرية شعب بأسره. ومن أوضح الأمثلة على هذا النموذج من الإهمال ما يتعرض له جيل السبعينات وما تلاه من تجارب شعرية في سورية، فأولئك بدون أسلحة عقائدية أو قواعد شعبية، عراة إلا من قصائدهم التي لا يقرأها أحد سواهم.
وبرغم من وجود تجارب مهمة جداً في الشعر وفي النقد أيضاً، لم تسعى وسائل الإعلام إلى تقديمها بالشكل اللائق ولا حتى غير اللائق ولا ترى في مبدعيها النضارة الكافية للظهور على شاشات التلفزة وقنوات الإعلام الأخرى، ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً لم يُفتن الإعلام بظهور تجربة شعرية واحدة، ولولا المواقع الإلكترونية الثقافية المنفذة بجهود فردية وبإيمانية مدهشة لما استطعنا أن نتابع – ولو جزئياً- المشهد الثقافي في قاع أي بلد عربي، وخاصة بعد أن تحولت الصفحات الثقافية في معظم الصحف إلى صفحات إعلانية.

يبقى الشعر غريباً عن مجتمعاتنا – ولا يشفع له تاريخه- طالما أن المؤسسات التعليمية والإعلامية تدير ظهرها ولا تكترث به، ويحضرني هنا سؤال (يحيى العبد الله) لمجموعة من الشبان في فلمه (ست دقائق)عن معرفتهم بـأحد ما اسمه (أمل دنقل)! فأتت أغلب الإجابات بالنفي باستثناء إجابة واحدة، أومأت بالإيجاب: نعم أعرفها إنها تغني وصوتها جميل؟!
لمصلحة من هذا التسطيح وهل فعلا يجلب السعادة لأحد. يرى إدوارد سعيد أن المثقف الهامشي يرى أشياء لا تراها عادة الأذهان التي لم تسافر أبعد من نطاق التقليدي والمريح، والهامش يعطي الكثير من التحرر للابتكار والتجربة والمغامرة، وهذا الكلام صحيح عندما يختاره الشاعر بحكم طبيعة موقفة كمعارض أبدي للمركز، ولكن حتى في هذه الحالة يكون لديه قنواته الموجود بها والمعارض من خلالها، أما عندما يكون الهامش نفي قسري عن نسيج المجتمع وإبعاد إجباري عن قنواته ومنابره، عندها لن نعرف بوجود أناس يلهون بمهنة ملعونة اسمها الشعر، ولن يكون الهامش وقتها امتياز، وإنما سقوط في العدم.

حازم عبيدو
[email protected]





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حيث لا تسقط الأمطار.. سيرة فردية لتاريخ جمعي

20-آذار-2011

“مظفر النواب .. انقلابٌ أبيضٌ من عرقٍ قطرهُ الدهرُ”

27-تشرين الثاني-2009

كالضوءِ تتناوبين على بريقِ المعدن ..

04-تشرين الأول-2009

"فتنة الأسوار .. الكثير من الجدران والقليل من الجسور"

02-تشرين الأول-2009

كفنٌ من مملكةِ اليتّمِ

25-أيلول-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow