Alef Logo
دراسات
              

"فتنة الأسوار .. الكثير من الجدران والقليل من الجسور"

حازم عبيدو

2009-10-02


أكثر الدماء التي أراقها نصل الذكورة سالت تحت فتنة النساء والأسوار على اعتبارهما مُظهران لهذه الذكورة، وداعمان للعرين في تصاعد الفحل ارتقاءً للوصول إلى الإله الرعوي الأوحد الذي لا يستقيم مجده إلا بإركاع من عداه. ولعل (هوميروس) هو أول من زاوج بين النساء والأسوار في ملحمته الشهيرة (الإلياذة) حيث امتزجت أسوار طروادة بوجه (هيلين) التي اختبأت مع حبيبها (باريس) خلفها، مما أدى إلى حروب طاحنة أريق فيها الكثير من الدماء.
وللأسوار طبيعة مخاتلة تتراوح بين الاختباء والتحصّن وبين الزهو والمفاخرة، وتكون مادية أو معنوية، وهي عميقة بمدلولاتها وغائرة في أوهام البشر، لذا من الطبيعي أن يحمل أكثر من عمل روائي اسمها، ولأن الأعمال كثيرة سأكتفي فقط بعملين، الأول لمحمد أبو معتوق (الأسوار)، والثاني بإسقاط الـ التعريف (أسوار) لمحمد البساطي، وبرغم الاختلاف الكبير بين الروايتين إلا أنهما يلتقيان أمام الأسوار التي دأب الإنسان على تشييدها منذ أن درج على هذا الأرض وتسلط عليها وعلى من وطأها، فالسور فعل امتلاك قسري يختزن ذهنية الحرب والصراع على المُلك، وبقليل من المخيلة يمكن مقاربة شكل السور بيد حجرية تنتزع لنفسها قطعة من الأرض.
تروي (الأسوار) لمحمد أبو معتوق سيرة سيف الدولة الحمداني، حيث يجمع أبو معتوق بين المتخيل والوثائقي وذلك بسرد تصويري متصل وسريع بدون فواصل يتلاءم مع مناخ الحروب التي اشتعلت بين سيف الدولة والروم تحت غواية الأسوار، فتارة يكون غالباً ويدُكّ أسوار المدن التي في حوزة الرومان ويعيد تحصينها عندما تصبح في قبضته، وتارة العكس يدُكّها الرومان ويعيدون ترميمها عندما تصير بقبضتهم، وفي الحالتين يستندان في صراعهما على القيم الذكورية فتتأنث الأسوار المتَصارَع عليها ويترافق اقتحام الأسوار دائماً بسبي النساء، ومن الواضح ارتباط المفردات التي تستخدم للأسوار (الدك، والاقتحام، والهتك ..) بمفردات الفعل الجنسي، فكأن المرأة هي المعادل الرمزي للأسوار أو كأن الأسوار هي امرأة الرجل (الأفحل)، وتكون المرأة سواء من لحم أو من حجر لعبة الرجال في تأكيد سلطتهم واستظهار قوتهم، ويذكر أبو علي ياسين في الثالوث المحرم أنّ "في الحروب ثمة اتفاق ضمني أو تواطؤ بين جنس الرجال ضد جنس النساء حيث يسبي كل من الطرفين المتحاربين، سواء كان منتصراً أو مهزوماً، من نساء الطرف الآخر ويتمتع بهنّ" ولعل السِوار الذي يطوق معصم المرأة يحمل دلالة تفيد في تشابك صورتيهما، أي المرأة والأسوار.
ويزاوج محمد أبو معتوق منذ البداية بين الأسوار والنساء، فتبدأ قصة سيف الدولة مع حلب عندما كان في الموصل، قائداً في جيش أخيه ناصر الدولة، وذلك من خلال حلم يأتيه في نومه فيتقلب في فراشه (كطائر في شرك) وتكون بجانبه جاريته الحلبية (تودد) التي لا تجد وسيلة لإيقاظه غير الماء فينهض وكأنه خارج من لجة عاتية فتنبهه: "أنت تحلم قرب صدري وبريق عينيّ وجلدي"، فالمرأة التي كان قربها أعطته شرارة الحلم العظيم والكبير والذي لابدّ أن يحمل مفردات العظمة كما يفهمها رجل وقائد جيش "كل شيء عظيم يا مولاي لا بدّ أن يشبه امرأة". يروي سيف الدولة حلمه للعرّاف: "كنت أمشي في صحراء بلقع، ثم تلامح لي عن بعد نهد جميل أصبح في حجم كثيب. بعدها تعالى وتعالى حتى أصبح النهد في هيئة قلعة عالية وأخذ ينفر بالحليب، ثم تعالت الأسوار.." فالمرأة المشتهاة تصير في نومه مملكة مشتهاة على هيئة امرأة، ويتبصّر العرّاف في الحلم محافظاً على هذه الثنائية: "أنت تحلم بمدينة، وهي أجمل شيء على الأرض، وهي في بهاء الجارية التي افترعتها".هذه المزاوجة بين المرأة وأسوار المدن تجتمع في أحلام الفاتح وأهدافه فيقع بإسارهما دون فكاك، وتخبرنا رواية (الأسوار) أنه بعد المعارك الطاحنة التي دارت بين سيف الدولة والروم تسقط حلب بيدهم فيقتحمون أسوارها ويدمرونها ويهرب سيف الدولة منها، وعندما يعود بعد خروج الرومان منها ويرى ما فعلوه بالمدينة وأسوارها يصاب بالفالج، ولكن رغم ذلك يبقى تحت فتنة الأسوار، يهيئ للمعارك، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. فلا أحد ينجو من هذه الفتنة التي ترضي رغبة الاستحواذ وتحصر في فضائها العقل الذي يقارع التخوم ونزوات الذكورة التي تقوم على الهتك والإخضاع، وبالإمكان تعميم رواية أبو معتوق على التاريخ كله فلا نجد مكاناً بعيداً عن الصراع الذي سيؤدي -حكماً- إلى الإنهاك ومن ثم إلى الفناء، وبتحوير بسيط لعبارة "عاش الملك مات الملك" من الممكن أن تصبح "بنيت الأسوار هدمت الأسوار" كمعادل للملك فإما أن يبنيها كنظير لمجده أو أن يهدها كقرين لقوته.
ترتفع (أسوار) محمد البساطي في زمنٍ آخر كسليلة شرعية لأسوار أبو معتوق ولذهنية الإخضاع ويتوالد عن ذلك معان جديدة، حيث تقل قيمة الأسوار بين المدن والممالك فالحروب الحديثة ازدادت ضراوة ووحشية وتطورت آلياتها، ولم تعد الأسوار قادرة أن تقوي منعة أي بلد، ولكن الأسوار ككل شيء عميق في الإنسان يعاود الظهور ولكن بأردية مختلفة، فتظهر في رواية محمد البساطي كامتداد لأنظمة القمع والاستبداد، وهي أسوار هشة من حيث مادتها إلا أنها أكثر ضراوة ومنعة في الوهم، فهي ليست بسيطة وإنما مركبة وتقوم على خلفيات قمعية متعددة، تعزل خلف جدرانها حرية الإنسان والتفكير والحلم بحياة أفضل وتقوض من فرص العيش.
ويقدم الكاتب نموذجاً مبتكراً من أدب السجون فيطل على موضوعه من زاوية ملفتة، حيث يكون الراوي حارساً من حراس السجن يحكي قصته وقصص الحراس الذين تسكرهم الأسوار التي يحرسونها، فيسقطون في فتنتها وما أن يحالوا على التقاعد حتى يصابوا بالجنون، ويدورون حول الأسوار التي خدموها طيلة حياتهم مرتدين ملابسهم العسكرية وكأنهم عشاق لهذه الأسوار "يمشون متجهمين مشدودي القامة وكأنهم في طابور التمام. يأخذون دورة حول سور السجن بصياحهم المتقطّع الشبيه بالمأمأة"، رافضين واقعهم الجديد بعيداً عن الأسوار، ولم تفلح محاولات أبنائهم وأوامر الضابط بمصادرة ملابسهم العسكرية، فدائماً كانوا يجدون الوسيلة لاستعادتها ويظلون فريسة هذا الجنون إلى أن تذرى أرواحهم في عدم الكائنات.
يظهر النظام القمعي هنا كمعادل للذكورة، فهو يريد أن يطأ شعبه الذي يتأنث ويتحول بدوره إلى المرأة السبية والمهيأة لغزوات ذكرها المتسلط، وما جنون الحراس إلا نتيجة تماهيهم بهذا المتسلط ورفضهم أن تخلع عنهم شبهة الذكورة التي تتجلى في ثيابهم العسكرية وسلطتهم المحدودة على المساجين والمعتقلين.
يعيش الحراس بؤساً شديداً في (بلوكات) أبنية أقيمت حول سور السجن مشكلين مجتمعاً هامشياً معتقلاً في فضاء السور، فالأسوار هنا ليست للسجناء والمعتقلين فقط، إنها الغيب الذي يقرر حياة كل من يجاورها.
فأسوار القمع مبنية بالروح قبل الحجارة وبذات الذهنية البطريركية التي تقوم على الاستبداد، فتنقلب (أسوار) البساطي لتصير أسواراً للخارج كما هي للداخل والسجن على جانبي جدرانها، فالبلد الذي ترتفع فيه الأسوار هو سجن لكل الناس سواء سكنوه جسدياً حيث تغلق الأقفال وينتصب الحراس أو قلقاً وخوفاً كرمز للترهيب لمن يعيشون خارجه.
تكتب الأسوار قصص الجميع ومنذ أول القرى والإنسان يشيد الأسوار ويفرض ملكيته على الطبيعة وعلى أبناء جنسه، ويرى طاغور أن الإنسان ومنذ أن احتمى من الطبيعة بالأسوار والمنازل بدأ مساره الطويل في التخلي عن إنسانيته. وعندما نفكر بمستوى الوحشية التي وصلت لها الإنسانية مدعومة بتكنولوجيا القتل لا يمكننا إلا أن نعدد أنواع الأسوار التي توالدت وتوالت عن هذه الذهنية المدمرة ابتداء من جدار الفصل العنصري في فلسطين وصولاً إلى أسوار الفصل الطائفي في العراق، إلى تنويعات كثيرة من الأسوار الاجتماعية والنفسية والدينية، ففي المجتمعات الذكورية المتخلفة ترتفع أسوار المنازل التي لا تثق بمجتمعاتها لتحجب نساء (سي السيد) أملاك الذكر. أسوار تكثر وتتكاثر مع العنجهية والتخلف فلا عجب إذن أن يكون المَعْلم الوحيد الذي بناه الإنسان ويمكن رؤيته من الفضاء هو سور الصين وكأنما الأسوار هي هوية الإنسان على هذه الأرض فنحن كما يقال " نبني الكثير من الجدران والقليل من الجسور".

حازم عبيدو/ سلمية
[email protected]


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حيث لا تسقط الأمطار.. سيرة فردية لتاريخ جمعي

20-آذار-2011

“مظفر النواب .. انقلابٌ أبيضٌ من عرقٍ قطرهُ الدهرُ”

27-تشرين الثاني-2009

كالضوءِ تتناوبين على بريقِ المعدن ..

04-تشرين الأول-2009

"فتنة الأسوار .. الكثير من الجدران والقليل من الجسور"

02-تشرين الأول-2009

كفنٌ من مملكةِ اليتّمِ

25-أيلول-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow