Alef Logo
يوميات
              

الملاكُ يهبطُ في برلين

فاطمة ناعوت

2009-09-27


هبط ملاكٌ من السماء في بابل، ومعه هديةٌ أرسلها الربُّ لأفقر رجل في العالم. ولم يكن هناك أفقرُ من الشحاذ "عاقي". رجلٌ عجيب يأبى إلا أن يتسوَّلَ لكي يعولَ فقراءَ الشعراء والفنانين، ثم يُلقي في النهر ما يفيضُ من مال، حتى يظلَّ فقيرًا أبدًا؛ فلا يكفُّ عن التسول! أما الهديةُ السماوية فلم تكن إلا ملاكًا أنثى (مَلاكةً؟)، من أجمل ما يكون. هكذا أخبرتنا مسرحيةُ "الملاكُ يهبط في بابل"، التي كتبها السويسريُّ فريديريش دورنمات عام 1953. أما في الديانة المسيحية فيُقال إن ملاكًا حارسًا يرافقُ الطفلَ بعد تعميده مدى الحياة ليحميَه ويؤازرَه. وفي اللغة العربية، كما في معظم اللغات التي بها مذكّر ومؤنث، يأتي الملاكُ مذكَّرًا وليس مؤنثًا، وهو ما لم أفهمه أبدًا! إذْ يبدو لي دومًا أن القيمَ الجميلة في الحياة لابد أن تكون مؤنثة!
في المهرجان العالمي للآداب في برلين هذا العام، قرّر القائمون على المهرجان أن يخصصوا "ملاكًا حارسًا" لكلِّ أديبٍ مُشارك. يرافقُ الملاكُ الشاعرَ أو الروائيّ طوالَ فترة المهرجان، ويرتاد به كل ما يودُّ الأديبُ أن يراه من أماكن أثرية في برلين. الروائيُّ مكاوي سعيد كان حظَّه ملاكٌ حارسٌ أمريكية من أصول عربية اسمها "جبينا"، قالت إنه مؤنثُ "جبين"، بالعربية. وكان من نصيب الروائية منصورة عزّ الدين ملاكٌ تشيكية اسمُها "ملينا". أما الأديب المغربيّ ياسين عدنان فكانت ملاكُه يونانيةً اسمها آماندا"، وقد أخلفت معه الموعدَ ليومين، فقرر معاقبتها وعدم مرافقتها. واستشارنا في الأمر، فقمنا بتهدئة النفوس، ونصحناه بالصبر الجميل؛ ذاك أن الملائكةَ لا يُعاقَبون، ولا تجوزُ معاملتُهم من خلال كتالوجنا البشريّ!
لم يكن في المهرجان أجملُ من ملاكي الحارس. أولاً لأنها اختارتني بالاسم قبل وصولي برلين، فارتقيتُ نقطةً عن بقية الأدباء المشاركين؛ الذين تمَّ تعيين ملائكتهم خبطَ عشواء بمحض مصادفةٍ غير مرتَّبة. وثانيًا لأنني لم أكن لأختارَ أجملَ منها من بين كلِّ ملائكة الدنيا. وثالثًا لأنها استقبلتني بوردة في باحة الفندق فورَ وصولي. ثم إن ملاكي الحارسَ لم يكن أمريكيًّا ولا أوروبيًّا ولا آسيويًّا، إن هو إلا ملاكٌ عربيٌّ أصيل، بل من أجمل البلدان العربية، وأَحبِّها إلى قلبي. ملاكي الحارسُ سوريّةٌ من ضيعة "مرمريتا" الساحرة التي تقعُ بين حمص وطرطوس وترتفعُ كثيرًا عن سطح البحر لتحفَّها الجبالُ الخُضر. اسمها "ميساء سلامة". كاتبةٌ ومثقفةٌ رفيعةُ الطراز، تعمل في مجال تنسيق المعارض التشكيلية بين الشرق والغرب، وتعيش مع زوجها "راينر وولف" في بيت فاتن ببرلين تزيّن جدرانَه لوحاتٌ أصلية لفنانين سوريين وألمان، وقطعٌ نحتيةٌ لم أر بعد جمالها جمالا. بالبيت شرفةٌ دائرية تطلُّ على غابة تشبه قطعةً من الجنّة. تزرع ملاكي في شرفتها زهورًا وخضراوات، أكلتُ من ثمرها حبّاتِ طماطمَ، لم تزل حلاوتُها على لساني. زهورُ الأوركيديا البيضاءُ تملأ أركانَ البيت، ربما لأن ربّةَ البيتِ ذاتَها تشبه تلك الزهرةَ الفاتنة. وأنا، أُحبُّ اللهجةَ الشامية لأنها تنسالُ مثل موسيقى صافية: "هيك، شلون، ولو، لكان، "بقطفلك بس ها المرة/ ها المرّة بس عابكره/ عابكره بس شى زهرة/ شى زهرة حمرا/ وبس"، فأعملُ على ألا تضيعَ مني كلمةٌ وهي تشرحُ لي مشيرةً بسبابتها إلى كنيسة "القيصر وليم"، التي غدا اسمُها الآن "كنيسة الذكريات" بعدما قصفتها قنابلُ الحرب العالمية الثانية. لم يُزلها الألمانُ ولم يرمّموها، بل ينفقون آلافَ اليورو كلَّ عام، لتظلَّ واقفةً على صدوعِها، شاهدًا أبديًّا على ويلات الحروب، علّ جيلاً جديدًا ينشأ لافظًا كلمة "الحرب" من معجمه.
رافقتني ملاكي طوالَ الوقت، وارتادت بي الكثيرَ من أماكن برلين الفاتنة، لكنها لم تذهب بي، رغم إلحاحي، إلى الجناح المصريّ بمتحف برلين، حيث يقفُ في كبرياء رأسُ نفرتيتي الفاتنُ في نسخته الأصلية الوحيدة بالعالم! لابد أنها خافت لمّا قرأت في عيني رغبةً شريرةً في سرقة الرأس السليب، لأعيده إلى بلادي!

النشر الورقي المصري اليوم
النشر الألكتروني موقع ألف

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

يا الله، من رسم الخطوط حول الدول؟ ترجمة:

07-تشرين الأول-2017

«الشاعر» هاني عازر

20-تموز-2014

نوبل السلام لأقباط مصر

28-حزيران-2014

هنركب عجل

18-حزيران-2014

النور يعيد السيدة العجوز

11-حزيران-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow