Alef Logo
المرصد الصحفي
              

ملف / ملامح من الكتابة الجديدة في سورية إعداد وتقديم:

عبد الوهاب العزاوي

2009-10-19


مقدمة
"الكتابة الجديدة" مصطلح يتكرّر في الصحف والمجلات والإعلام من دون تدقيقٍ أو بحث. وهو أيضًا مصطلحٌ إشكاليّ يتداخل مع عددٍ من المفاهيم، كالمعاصرة والتجديد والحداثة. وقد نشب الاختلافُ في تعريف هذه المفاهيم:
ـ فالمعاصرة عند العقّاد (1) مثلاً، تكون في الابتعاد عن التشابه والتقليد والمحاكاة؛ لكنها عند عزّ الدين اسماعيل (في كتابه الشعر العربيّ المعاصر) ارتباطٌ بأحداث العصر وقضاياه، بغضّ النظر عن آليّاتها في التعبير.
ـ وأما مصطلحُ "الحداثة،" فرغم اتفاق النقّاد على تضمّنه المعاصرةَ والتجديدَ، فإنه أكثرُ المفاهيم المذكورة أعلاه غموضًا. فقد تكون الكتابة معاصرةٌ، بمعنى أنها تنتمي زمنيّاً إلى عصرنا، لكنّ الكاتب المعاصر ليس حداثيّاً بالضرورة: فأن يكون معاصرًا، عبر استخدام مفرداتٍ معاصرةٍ أو عبر الحديث عن موضوعاتٍ معاصرةٍ مستحدَثة، لا يشترط أن يمتلكَ رؤيةً عميقة، ولا أن يكون جزءًا من رؤيةٍ أشملَ تنسجم مع حركةٍ تاريخيّةٍ تتجاوز جميع القيم الماضوية السائدة ـ وهما أمران يتمثّلان في "الحداثة."
ـ وأما "التجديد،" وهو يعني الاختلافَ عمّا سبقه بنسبةٍ ما، فلا يشترط التوجّهَ نحو "الأفضل" دائمًا. وهو شرط من شروط الحداثة، لكنه قد يختلف عنها بحسب حركة الأدب وواقع البيئة: فقد يكون جزئيّاً ليتضمن "الموضوعَ" فقط أو جزءًا من النص؛ وقد يكون جديدًا في بلدٍ ما ولا يكون كذلك في بلدٍ آخر.
* * *
هذا الملفّ يركّز على الكتّاب الذين بدأوا نشرَ نتاجهم في العقد الأول من الألفيّة الثالثة. وهذا لا يتنافى مع تحقيب الإبداع بحسب المتغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة المؤثّرة؛ ذلك أنّ معظم الموادّ هنا يقارب "أحداثَ" الثمانينيّات وتأثيرَها في المجتمع والمبدعين والكتابة، وينتقل إلى جيل كتّاب الألفيّة الجديدة الذين كبر أكثرُهم في مرحلة جزْرٍ أو مواتٍ في الحراك السياسيّ والاجتماعيّ، فيَدْرس التغيّراتِ التي طرأتْ على نتاجهم والملامحَ العامةَ التي يتميّز بها... مع تفاوتٍ واضحٍ بين الرواية ذات الصوت العالي نسبيّاً، وبين الشعر والمسرح المتّجهين بشكلٍ عامّ نحو العالم الداخليّ، مع ملاحظة أن أعمار الروائيين تتجاوز أعمار الشعراء وكتاب المسرح الشباب بعقد تقريباً.
يسعى هذا الملفّ إلى اكتشاف هذه "الكتابة الجديدة،" وامتحان صلابتها وحداثتها، ورصد مميّزات دربها الإبداعيّ. وقد اعتمدنا دراسة ثلاثة أجناس أدبيّة، وهي الشعر والمسرح والرواية.
دمشق
حكايات ضد النسيان:
قراءة في بعض النتاج الروائيّ المعاصر في سورية (2)

حسـّان عبـّاس
للحكايات سحرُها الغاوي. وربما كانت جملةُ "كان يا ما كان،" فاتحةُ الحكاية، أقوى تعويذةٍ سحريّةٍ تستحوذ على وعي المستمع، وتُدخِله إلى فضاء الحكاية المنفتح كفقاعة على محور الزمن، ليتيه في تلافيف ذاك الفضاء، وينسى زمنَه المعيش، ريثما تصل الحكايةُ إلى قفلها الخاتم. (3)
يَعرِف الحُكاة أن جُبّ الحكاية يأسر مَن يقع فيه ويلهيه عن الواقع الذي يعيشه، ولذا فهم لا يتوانوْن عن توظيف الحكاية ترياقًا للنسيان. هذا ما تفعله الأمّهاتُ والجدّاتُ حين يحكين للأطفال لينسوْا خوفَهم من ظلمة الليل وليدخلوا بسلام وطمأنينة إلى النوم وأحلامه. وهذا ما يفعله الحكواتيّون في مقاهي أيّام زمان أمام مستمعين أنهكتهم متاعبُ الحياة، فاحتاجوا إلى فسحة مسائيّة يسلون فيها عن شقائهم وهمومهم. وهذا ما يفعله التلفزيونُ أيضًا، ذاك الحكواتيُّ المعاصرُ الذي بقيتْ وظيفتُه الرئيسةُ تسليةَ المشاهدين، رغم تغيّر منحى علاقة السلطة بينه وبين المشاهد. وما التسلية، في أيّة حال، سوى شكلٍ من أشكال التنسية.
وتمارس الحكاية هذا الدور في الأدب أيضًا. وحسبُنا أن نذْكر شهرزاد التي تمثّل حكاياتُها أنموذجًا لطاقة الحكاية على خلق غواية النسيان: فهي تحكيها أولاً لتنسّي شهريار الفعلَ الشائنَ الذي دفعه إلى البحث عن الانتقام من النساء؛ وتحكيها ثانيًا لتحاول أن تنسّيه وعدَه بقتلها عند الصباح؛ وتحكيها ثالثاً لتنسي نفسَها أنّ هذه الليلة، بل كلّ ليلة، هي ليلتها الأخيرة التي ستنتهي بها رقمًا في سجلّ قتيلات العاشق المجنون.
* * *
لكنْ، يمكن أن تكون للحكايات وظيفةٌ أخرى، نقيضٌ، تحفِّّز ذاكرةَ القارئ وتمنعه من النسيان. وفي الأدب السوريّ الجديد الكثيرُ من هذا النوع الكتابيّ، حتى ليمكننا القولُ إنه الأكثرُ حضورًا في الرواية في السنوات العشر الأخيرة، وبخاصّةٍ في الرواية النسائيّة، وكأنّ الروائيّات السوريّات يجتهدن لتغيير الصورة المهيمنة لشهرزاد. (4)
عرّف تت"الكتابةُ ضدّ النسيان،" قبل كلّ شيء، بالرغبة في استحضار تاريخٍ تريد سلطةٌ ما ـ أأدبيّةً أمْ معرفيّةً أمْ سياسيّةً ـ أن تغيّبه أو أن ترغِم على صياغته ضمن منظورها الخاصّ، مستخدمةً الأدواتِ التي يمنحها لها موقعُها المهيمن. وتتلخّص آليّاتُ فعل هذه الأدوات في شكلين من أشكال التدخّل هما: إكسابُ الوعي المندمج، ويتمّ هذا عبر الأدوات المتاحة للسلطة، وأهمُّها على الإطلاق التربيةُ والإعلام؛ ومنعُ الوعي المضادّ، وهو ما يتمّ عبر سلسلة من الإجراءات تبدأ بفرض الرقابة بمختلف أشكالها، وتنتهي بالسجن، وربما بالتصفية.
يمْكننا الادّعاء أنّ الميل عن حكايةٍ تتطلّع إلى التنسية، نحو حكايةٍ مضادّةٍ تتقصّد معاندةَ النسيان، يَنتج عن فعلٍ إرادويٍّ وقصديٍّ للكاتب؛ فعلٍ يندرج في سياق موقفٍ عامٍّ لا ينحصر في حدود الأدب والكتابة، وإنْ تمظهر داخل حدودهما. أيْ إنّ هذا النوع من الكتابة يبدو مندرجًا في نشاطٍ أوسعَ للكاتب: نشاطٍ يضع الأديبَ في صورة المثقف الفاعل في "الشأن العامّ،" هي صورةُ المثقف المقاوم.
وممّا يعزِّز هذا الادّعاءَ أمران: أولهما أننا نصادف أسماءَ الأدباء الذين يقْدِمون على الكتابة ضدّ النسيان في فعاليّاتٍ ثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ (منتديات، بيانات، اعتصامات...) تندرج في سياق النشاط المدنيّ الذي يناهض هيمنةَ الحزب الواحد والرؤية الأحاديّة ويطالب بالإصلاح والانفتاح. وثانيهما أنّ الكتابات المندرجة في هذه الفئة قد عانتِ الرقابةَ بمختلف أشكالها: فمن رقابةٍ تمنع عملاً من النشر داخل البلاد، إلى ملاحقةٍ تسْحبه من التداول بعد عبوره حواجزَ الرقابة (قصر المطر لممدوح عزام مثلاً)، إلى رقابةٍ ثالثةٍ تمنعه من التداول في حالِ نشرِه خارج البلاد (القوقعة لمصطفى خليفة مثلاً)
يمْكننا القولُ إنّ النماذج الأقدم لهذه الكتابة وُلدتْ في السياسة ولم تأتِ من الأدب، وذلك نظرًا لكونها جاءت على قلم ناشطاتٍ سياسيّاتٍ لم يسبقْ لهنّ أن نشرن تجاربَ أدبيّةً معروفةً لكنهنّ أردن الكشفَ عن جانبٍ خفيّ من العنف السلطويّ الممارَسِ في السجن السياسيّ. النموذج الأول كان كتاب خمس دقائق وحسب (5) لصاحبته هبة الدبّاغ. في هذا العمل، الذي يفتقر إلى الكثير من الشروط الأدبيّة التي تسمح بتصنيفه روايةً أو قصةً، تحكي الكاتبةُ حكايةَ سجنها تسعَ سنواتٍ رهينةً عن أخيها "الناشط سياسيّاً" والمطلوبِ على لوائح المنتمين إلى حركة الإخوان المسلمين.
العمل يشكو من ضعفٍ أدبيّ واضح، وقد جاء على شكل لقطات لذكرياتٍ مسترجَعةٍ وضّبتْها الكاتبةُ حسب التسلسل الحقيقيّ لزمن وقوع أحداثها. ولا يحقّ لنا لومُ الكاتبة على ذلك الضعف؛ فهي لا تدّعي صناعةَ الأدب، بدليل أنّ الكتاب لا يحمل اسمَ جنس أدبيّ ينتمي إليه، بل إنّ غايتها من العمل تعلن عنها صراحةً في المقدّمة التي وضعتْها له حيث تقول: "لكنني أرى واجبَ الحديث عن مظالم النظام وانتهاكات الحقوق ألحَّ وأجلَّ.. وضرورة توثيق هذه المرحلة أمانة ملزمة.. يَهُون أن نبذلَ في سبيلها بعضَ العنت والتكدّر حتى لا يضيع الكثيرُ الذي بذلناه والكرب الجلل والعذاب الشنيع الذي نلناه..."(6) إنها، إذن، الرغبةُ في قصّ حكايةٍ للناس لكي لا ينسوْا ما جرى في مرحلةٍ كئيبةٍ من حياة الوطن.
بعد أقلّ من سنة على نشر الكتاب السابق صدرتْ (في بيروت على الأرجح)، وبشكلٍ مستقلّ، أو أنّ الناشر آثر عدمَ وضع اسم داره، روايةُ الشرنقة لصاحبتها حسيبة عبد الرحمن. تأتي كاتبةُ الرواية من أفق سياسيّ مناقضٍ تمامًا لذاك الذي جاءت منه هبة الدبّاغ: فعبد الرحمن عضوٌ في حزب العمل الشيوعيّ الذي لم يَشفعْ له امتناعُه عن ممارسة العنف من معاناة عنف السلطة. ولئن كان هذا العملُ يختلف عن السابق في تجنّبه السقوطَ في مطبّ الكراهية الساكنة، ويتفوّق عليه بجدارةٍ في سعيه إلى بلوغ عتبة الإبداع الأدبيّ، فإنه يلتقي معه في موضوعه (واقع سجن النساء السياسيّ)، وفي غايته من سرد حكايةٍ مغايرةٍ للحكاية السائدة التي يَعْرفها القاصي والداني: "أخطأتِ يا أمّي عندما قصصتِ حكايةَ الغولة. كنتِ تقولين: إنّ الغولة غيّرتْ شكلَها وأصبحتْ كعنزة العنوزيّة اللي قرونها حديديّة..."(7) وتأخذ الراوية على عاتقها سردَ الرواية الأخرى التي يجب ألاّ تُنسى، رواية "الأولاد الذين أمضوْا زمنًا في جوف الغولة..."
والحقّ أنّ حكاية هؤلاء "الأولاد" ليست شهادةً على عالم السجن فحسب، بل رصدٌ حزينٌ لسيرورة تصدّع الشخصيّة الإنسانيّة أيضًا. وممّا يُسجّل لصالح هذه الرواية اعتمادُها أسلوبًا في الكتابة يتماشى مع الحكاية المرويّة: فهو أسلوبٌ قائمٌ على تهتّك النصّ وتشظّي الكتابة، كتعبيرٍ فنّيّ ناجحٍ عن تفتت الشخصيّات وتفكّك العالم.
لم يتوقّفْ ظهورُ الأعمال الأدبيّة السوريّة التي يمكن أن نصنّفها ضمن فئة "أدب السجون." فهناك قصصُ إبراهيم صموئيل، وبخاصّةٍ في مجموعته المعنونة النحنحات.(8) وهناك قصصُ غسان الجباعي المتضمّنة في مجموعته أصابع الموز.(9) وهناك عمل مالك داغستاني دُوار الحريّة،(10) الذي يصنّفه ناشرُه روايةً، في حين يسجِّل كاتبُه أنه "لعبة." وهناك كتابُ لؤي حسين، الفقد،(11) الذي يعلن كاتبُه منذ صفحاته الأولى، وبمجازٍ لا يخفي دلالته، رغبتَه في كتابة حكايةٍ ضدّ النسيان. وهناك شهادة الشاعر فرج بيرقدار النثريّة، خياناتُ اللغة والصمت.(12) وهناك أخيرًا روايةُ مصطفى خليفة، القوقعة: يوميّاتُ متلصِّص،(13) التي رصدتْ مدى اللاعقلانيّة و"الحيْوَنة" في ممارسة القمع من خلال حكاياتٍ حدثتْ حقيقةً لكنها ـ لعبثيّتها ـ جديرةٌ بحكايات الغرائب والخرافات.
تجْمع بين كلّ هذه الأعمال رغبةُ كتّابها في التذكير بالسجن السياسيّ الذي كان خلال فترة طويلة، ولا يزال إلى حدٍّ ما، حقيقةً مؤلمةً من حقائق عيش شريحةٍ من الناس، هي شريحةُ الأفراد العاملين في السياسة وفي الشأن العامّ في سورية، ولكنها حقيقةٌ مسكوتٌ عنها في أدبيّات الأجهزة المندرجة في بنية السلطة. وهناك حقائقُ أخرى مسكوتٌ عنها، ولا تخصّ الأفرادََ فحسب بل مجمل الناس في المجتمع، وتعود إلى فترة من التاريخ عمل ـ ولا يزال يعمل ـ البعضُ على طمسها أو حرمانها من التأريخ حتى ينساها الناسُ: إنها حقائقُ العنف المتبادل بين السلطة والتشدّد الإسلاميّ، ذاك العنف الذي يتوارى اسمُه اليوم خلف مصطلح "الأحداث،" وقد اكتوى المجتمعُ بنيرانه خلال ما يقْرب من عقدٍ من الزمن، ولا تزال بعضُ آثاره تخنق النفوسَ حتى اليوم.
يعود بعضُ الأدباء السوريين المعاصرين إلى تلك الفترة لينتشلوا حكاياتها من عتمة النسيان. ولعلّ أولَ مَن فعل ذلك الأديبُ المخضرم وليد إخلاصي الذي جعل من "الأحداث" إطارًا خجولاً لروايته زهرة الصندل.(14). أما منهل السراج فقد كرّستْ روايتَها، كما ينبغي لنهر،(15) لسرد حكايات زمان الموت في مدينةٍ بلا اسم. لكنّ الكاتبة تنثر على امتداد الحكاية قرائنَ عديدةً ومتنوّعةً تجعل القارئَ العاديَّ لا يحتاج إلى كثيرٍ من النباهة لمعرفة مدينة حماة ولتعيين الزمان الحقيقيّ للحكاية. وفي روايتها الثانية، جورة حوّا،(16) التي تأخذ عنوانَها من اسم حيّ شهيرٍ من المدينة ذاتِها، لا تظهر الأحداثُ إلا في خلفيّة الحكاية، لا إطارًا لها بل تبريرًا لبعض السمات الأساسيّة المميّزة لحال المدينة وللشخصيّات. إنها حكايةُ تذكيرٍ بامتياز، تذكيرٍ بأنّ ما هو قائمٌ الآن ليس قدرًا لا تفسيرَ له وإنما هو نتيجةٌ لأحداثٍ لا تزال آثارُها ماثلةً لمن يريد أن يعرف.
في عام 2006 صدرتْ رواية مديح الكراهية (17) للروائيّ خالد خليفة. وهي تتميّز بصراحتها في تسمية الشخصيات والمكان، وفي تعيين الزمان. كما تتميّز باعتمادها أسلوبًا خاصّاً في الكتابة يقوم على تقنية "العربسة،" المشتقّة من تقنية الزخرفة العربيّة الإسلاميّة، حيث تنسلُّ الخيوطُ الفرعيّةُ من الخيوط الأساسيّة، لتصبح أساسيّةً بدورها، وهكذا دواليْك. يَستخدم خليفة هذه التقنية بمهارةٍ تجعل القارئَ يلْهث وراء السرد ليعيش، من خلال القراءة، حالةَ التوجّس والترقّب والقلق الدائم التي عرفها كلُّ مَن عاش زمنَ "الأحداث."
ومن بين الأعمال الأدبيّة التي يمكن إدراجُها ضمن "الكتابة ضدّ النسيان" تجدر الإشارةُ إلى بعض الأعمال التي تجد مادّتَها في التاريخ القريب، أيْ في فترة "الأحداث" وما بعدها. ثمّة مثلاً روايتا سمر يزبك، طفلة السماء (18) وصلصال،(19) المسكونتان بهاجس الكشف عن علاقات التجاذب والتنافر القائمة بين عنف الثقافة الدينيّة وعنف السلطة الأمنيّة. وهناك رواية أبنوس (20) للروائيّة روزا ياسين حسن التي تطوف فيها على قرنٍ كاملٍ من الزمان لتحكي حكايةَ خمسة أجيال من النساء في عائلة واحدة. ولا ننسى أيضًا روايتيْ فوّاز حدّاد، مشهد عابر (21) والمترجم الخائن،(22) وغيرها وغيرها.
***
إنّ من حقّنا التساؤلَ عمّا جعل "الكتابةَ ضدّ النسيان" تطغى على كلّ أجناس الكتابة الأخرى في الأدب السوريّ المعاصر. وأعتقد أنّ الإجابة البدهيّة على ذلك هي خطورةُ تاريخنا، ورغبةُ الأدباء في تذكيرنا بأننا قد صنعنا ذلك التاريخَ بأيدينا... عسانا نعتبر، فلا نعيد الكرّة!
ثمة طقسٌ يمارَس في الأديرة البوذيّة، وهو أنه كلّما ارتكب راهبٌ خطيئةً وجب أن يكفِّر عنها بكتابة تعاليم بوذا على جدران المعبد؛ وكلّما كانت الخطيئةُ أكبرَ زاد حجمُ التعاليم المفروضة كتابتُها. وهكذا تبقى الخطيئةُ ماثلةً أمام نظر الرهبان، فلا يعودون إليها.
"الرواية السوريّة الجديدة":
ظاهرةٌ إبداعيّةٌ أم ظاهرةٌ إعلاميّةٌ؟

عمر قدّور*
في السنوات الأخيرة، بدأ تعبيرُ "الرواية السوريّة الجديدة" بالاستقرار، ولم يتصدَّ أحدٌ تقريبًا للتحقّق من مطابقته لظاهرة الكتابة الروائيّة المتناميةِ في العقد الأخير. ولعلّ من طرائفِ المشهد الروائيّ أنّ مَن يتحدّثون عن "النصّ الجديد" هم الروائيّون أنفسُهم، الأمرُ الذي يَفتح الباب واسعًا أمام دعاوى "التجديد والتجاوز" من دون وضعها على محكّ النصّ. وإذا كانتِ الحفاوةُ النقديّة المدروسة التي تلاقيها النصوصُ الجديدةُ ظاهرةً إيجابيّةً في الثقافة السوريّة، فإنّ الحفاوة العشوائيّة ـ في المقابل ـ تسهِم في تكريس مفاهيمَ تنزاح عن موضوعها تارةً، وتؤدّي إلى تكريس أنماطٍ متقادِمة تحت دعوى "الجديد" تارةً أخرى.
عندما يشار إلى الرواية السوريّة الجديدة تتردّدُ أسماءُ معنيّة بهذه الموجةِ، مثل خالد خليفة، وسمر يزبك، وخليل صويْلح، وعبير إسبر، وروزا ياسين حسن، ومنهل السراج، وآخرين. وتلتقي تجاربُ هذه الأسماءُ في أمرين: أنّها بدأتْ تجربتَها السرديّة في العقد الأخير، مع اختلافٍ بيّنٍ في طبيعة اهتماماتها وأساليبها الفنّيّة؛ وأنّها تخلّصتْ من الاشتغال على التاريخِ وانصرفتْ إلى الاهتمام بالراهن. وفي هذا يمكنُ تسجيلُ بعض ملامح الجرأة، ولا سيّما الجرأة السياسيّة: فقد تمّ التخلّي عن استعارة التاريخ البعيد لتمرير مقولاتٍ راهنة، على نقيض ما دأبَ عليه بعضُ الروائيّين السابقين للتحايل على الرقابة. لكنْ إذا كان تمايزُ هذه التجارب من السمات الإيجابيّة فإنّه، كما سنرى، لا يَحدُث ضمن رؤيةٍ فنّيّةٍ جديدةٍ بالضرورة؛ فبعض هذه التجارب يحيلُ على أنماطٍ فنّيّةٍ تقليديّةٍ، وبعضُها الآخر يحاول القطيعةَ مع الإرث التقليديّ من دون أن يُفلح.
* * *
يوحي التركيزُ على "الجِدّة" الزمنيّة لهذه الأصوات بوجود قطيعةٍ جيليّةٍ ضمن الرواية السوريّة، وبتنميطٍ للتجارب الجديدة وللتجارب التي سبقتها على حدٍّ سواء. والحقّ أنّ التجاربَ الروائيّةَ الأسبق، التي ما تزال مستمرّةً في الاشتغال الروائيّ، لا تجمعُها هي أيضًا سماتٌ محدّدةٌ: فمن الصعب، مثلاً، وضعُ تجارب سليم بركات وفوّاز حدّاد ونبيل سليمان وخيري الذهبيّ وفيصل خرْتش وممدوح عزّام وخليل الرزّ في سلّةٍ واحدة. كما أنّ التجاربَ الأقدم، وِفقَ المعيار الجيليّ، ليست موحَّدةً هي الأخرى: فتجاربُ عبد السلام العجيْلي وحنّا مينه ووليد إخلاصي، مثلاً، لجهة غلبة السرد الكلاسيكيّ في تلك المرحلة، تنقطعُ مع تجربة هاني الراهب في روايته ألف ليلة وليلتان.(23) ومع نهاية سبعينيّات القرن الماضي تخلخلَتِ المعاييرُ الكلاسيكيّة، وبخاصّةٍ مع الترجمات الغزيرة لروايات أميركا اللاتينيّة التي شهدَتْ شعبيّةً كبيرةً منذ ذلك التاريخ.
ومن هنا لا يُمكننا الحديثُ عن ملامحَ جيليّةٍ متجانسةٍ في العقود الثلاثة الأخيرة، ولا عن غلبةٍ ساحقةٍ لذائقةٍ معيّنة، بقدْر ما نستطيع الحديثَ عن تجاربَ فرديّةٍ اجتهدَ كلٌّ منها على طريقته. كما أنّ التجاربَ الأسبق لم تكنْ هي معيارَ التجاوز، بل دخلتِ الروايةُ العالميّةُ بقوّةٍ ضمن سلّةِ المعايير، مع تفاوُتٍ في تمثّل المنجَز الروائيّ العالميّ المعاصر. بهذا المعنى سيكونُ الكلام عن روايةٍ سوريّةٍ ذاتِ خصوصيّةٍ فنّيّةٍ من باب التجاوز، لأنّ رهانَ أيّة رواية لم يعدْ يتعلّق بالجغرافيا التي تنتمي إليها بقدر ما يتعلّق بانتمائها إلى جنسها الأدبيّ، ولم تعد القطيعةُ الجيليّة ذاتَ مغزًى ما لمْ يكن المنجَزُ الجديدُ محايثاً للانشغال الروائيّ العالميّ المعاصر. فآباءُ الرواية السوريّة، إنْ كان لا بدّ من وجود آباء، ينتشرون من اليابان شرقًا إلى أميركا غربًا، وسيكونُ من باب المراهقة الفكريّة أنْ يُفاخِرَ روائيّ شابّ بأنّه على قطيعةٍ مع حنّا مينه أو عبد السلام العجيلي أو حتّى هاني الراهب.
* * *
ومن ناحيةٍ أخرى يشيع أنّ الروايةَ السوريّةَ الجديدة "مضادّةٌ للإيديولوجيا." وقد يصُحّ هذا على بعض الروايات، مع التنويه إلى أنّ ما هو مضادٌّ للإيديولوجيا قد يحمل إيديولوجيا مغايرةً. لذا، من المستغرب حقّاً أنْ يتمَّ إخراجُ تجربة روزا ياسين حسن في روايتيْها أبنوس (24) وحرّاس الهواء ، (25) وتجربةِ خالد خليفة، في روايتيْه دفاتر القرباط (26) ومديح الكراهية، (27) من "دائرة الإيديولوجيا." فالروايات المذكورة تنشغل برصد واقعٍ سياسيٍّ فكريٍّ ممتدٍّ منذ ثمانينيّات القرن الماضي، وتقدِّم روايةً مختلفةً عن الرواية الرسميّة لتلك المرحلة المهمّة في تاريخ سوريا. كما أنّ هذا الأمرُ ينطبق أيضًا على جزءٍ من تجربة منهل السراج، ولا سيّما في روايتها كما ينبغي لنهر. (28) وهو ما لا يُخرج هذه التجاربَ من دائرة الإيديولوجيا، على الأخصّ الإيديولوجيا اليساريّة بطبعتها الموروثةِ من سبعينيّات القرن الماضي. وعلى الصعيد نفسه، لا يمْكن إخراجُ تجربة خليل صويْلح في سياقها العامّ من "الإيديولوجيا،" مع أنّه انشغل بشكلٍ معلَنٍ أو مضمرٍ بهجاء الأنماط اليساريّة التي سادت سبعينيّاتِ القرن الماضي، ونأَى بنفسه عن الانشغال المباشِر بالمتن السياسيّ لصالح الهوامش الثقافيّة، كما نلحظُ في روايتَيه ورّاق الحبّ (29) ودعْ عنك لَومي. (30)
بل إنّ الإيديولوجيا أسهمتْ في رواج بعض الروايات: فعلى سبيل المِثال، لامَسَت روايةُ مديح الكراهية لخالد خليفة حدثًا سياسيّاً كان من المحرّماتِ السوريّة، وهو المواجهةُ الدمويّةُ بين الإخوان المسلمين والسلطة في مطلع ثمانينيّات القرن الماضي. وقد كانَ لهذه الجرأة مفعولُها في انتشار هذه الرواية، بينما غابَتْ عن الواجهة رواية سلمون إرلندي (31) الصادرة عام 2004 للروائيّ خليل الرزّ، والتي سبقَتْ مديح الكراهية بعامَين في ملامسة الحدث ذاته. إلى ذلك، تميّزتْ روايةُ الرزّ بجرأةٍ وتجريبٍ فنّيّين أعلى، سواء من حيث تبديد السرد الكلاسيكيّ، أو تبديد القول، أو منطوق الشخصيّة، أو وجود "لوثاتٍ" خاصّةٍ بالشخصيّاتِ تنافِسُ الأحداثَ الكبرى المحايثةَ لزمن الرواية. وقد يكون لمنع سلمون إرلندي من التداوُل، وتوزيعِها من "تحت الطاولة،" أثرٌ ما في تجاهلِها (مع أنّ السبب الأبرز في رأيي لهذا التجاهل هو ابتعادُ مؤلّفِها عن الإعلام عمومًا، وابتعادُ الروايةِ ذاتها عن المقُولاتِ المباشرة أو الإيديولوجيّة). ويشير هذا الواقعُ إلى أنّ تعطّشَ المزاج السوريّ إلى الحريّة جعلَه أكثرَ تسامحًا في القضايا الفنّيّة، وأنّ دواعي الجرأة السياسيّة أو الاجتماعيّة تغلّبتْ على متطلّبات الجرأة الفنّيّة. ومن هنا، قلّما نجدُ توازنًا نصّيّاً بين الجرأة الاجتماعيّة والسياسيّة من جهة، والجرأةِ المأمولةِ فنّيّاً من الجهة الأخرى. بل إنّ بعضَ الكتّاب اضطرّ إلى التراجع عن التجريب لمصالحة هذا المزاج، كما نرى عند خالد خليفة: فقد تميّزَ عملُه الأوّل، حارس الخديعة، (32) بجرعةِ تجريبٍ أكبرَ، إنْ على صعيدِ اللغة، أو على صعيد تبديدِ السرد، وذلك قياسًا على روايتَيه اللاحقتَين، دفاتر القرباط ومديح الكراهية، اللتين غلبَ عليهما الحدثُ، وانزاحَ الاهتمامُ النصّيُّ إلى مرتبةٍ متأخّرة.
أمّا الأهمُّ في هذا السياق فهو التنميطُ المرافقُ للإيديولوجيا، إذْ تخلّتِ الشخصيّاتُ في الروايات المشار إليها عن فردانيّتها لصالح الشخصيّة الجمعيّة، ولم تعدِ الشخصيّةُ تمثّل ذاتَها بل أصبحتْ تمثّل مصالحَ جماعتها وتطلّعاتِها. هذا إذا استثنيْنا قصديّةَ الكتّاب الفكريّةَ للكتّاب، التي تقودُ النصّ، على نحوٍ مكشوفٍ أحيانًا، وتحدّ من احتمالاتِه
* * *
ثم إنه يجري التنويه بـ "المساهمة النسائيّة" في الرواية السوريّة الحديثة، وكأنّ وجودَ المرأةِ الكاتبةِ شأنٌ طارئٌ على الثقافة السوريّة! فما إنْ تلامِس إحدى الكاتبات موضوعًا كالجنس، حتّى يُعدَّ ذلك جرأةً بالمعنى الاجتماعيّ. وإذا كانت مثلُ هذه الحفاوة مفهومةً في مجتمعاتٍ محافظة، كأنْ يُحتَفى بكاتبةٍ سعوديّة مثلاً، فإنّها تصبحُ مستغربةً في الثقافة السوريّة التي شهدتْ، عبر تاريخها الحديث، العديدَ من الكاتبات اللواتي تميّزْنَ فنّيّا بالإضافة إلى جرأتهنّ الاجتماعيّة. وتكفي الإشارةُ، على سبيل المثال، إلى تجاربِ غادة السَّمّان، أو حميدة نَعْنع، بل كوليت خوري الأسبق زمنيّاً. ولعلّ أسوأَ ما في الأمر، نظرةُ الاستعلاء المضمَرة إلى كتابة المرأة، وإنْ أتَتْ مقنّعةً بمظاهر "التشجيع." وقد أدّى هذا إلى ظلمِ إسهام الكاتبات مرّتين: مرّةً من خلال "تشجيعِهنّ" لأنّهنّ كاتبات؛ ومرّةً أخرى من خلال التركيز على الجانب الاجتماعيّ لنصوصِهنّ، وإهمالِ الجوانب الفنّيّة.
فعلى سبيل المثال، ركّزتْ غالبيّةُ المقالات التي كُتبتْ عن رواية رائحة القرفة (33) لسمر يزبك على العلاقة المِثليّة الموجودة في الرواية بين سيّدتين، مع أنّ وصفَ الفعل الجنسيّ لا يستغرق إلاّ حيّزًا صغيرًا من النصّ. وقد أدّى هذا الاختزالُ إلى إهمالِ رهانات الكاتبة الفنّيّة، سواءٌ من حيث اشتغالُها على البنية النفسيّة للشخصيّات، أو اشتغالُها على التكنيك السرديّ. أيْ تمّ تجريدُ الروايةِ من روائيّتِها، وهي الأهمّ، والانصرافُ إلى الاهتمام بما يُعدّ تجرّؤًا شخصيّا من الكاتبة. وفي المقابل، احتلّ الفعلُ الجنسيُّ المباشر مساحةً أوسعَ في رواية حرّاس الهواء لروزا ياسين حسن، ومع ذلك لم تركّزِ المقالاتُ التي كُتبتْ عنها على هذا الفعل؛ ذلك لأنّ الخطابَ السياسيَّ لحرّاسِ الهواء أعلى من خطاب الجسد، ويلاقي المزاجَ المتعطّشَ إلى الحريّة السياسيّة والاجتماعيّة كما أسلفنا.
والواقع أنّ المقارنة السابقة تحمل شيئًا من التعسّف، إذْ تُجاري ما هو سائدٌ لجهةِ وضع "الكتابة النسائيّة" في مقلبٍ واحد، بينما تتمايزُ نصوصُ الروائيّات السوريّات إلى حدٍّ يُخْرجُها من الانتماء الضيّق المشترك إلى ما قد يُسمّى "كتابةَ المرأة." وقد تتقاطعُ تجربةُ أيٍّ من الكاتبات مع تجربة كاتبٍ آخرَ، أكثرَ من تقاطعِها مع تجربةِ كاتبةٍ من قريناتها. وفي هذا الاختلاف الإيجابيّ دحضٌ للمحاولات القسريّة للحديث عن تأنيث النصّ؛ إذ إنّ الفوارقَ جليّةً بين الكاتبات: فبينما تنهمِك سمر يزبك في الاشتغال على اللغة في روايتها صلصال، (34) ومن ثَمّ الاشتغالِ على التفاصيل الصغيرة أو المنمنمات في رائحة القرفة، نجد روزا ياسين حسن منهمكةً في الاشتغال على القضايا السياسيّة الكبرى في روايتَيها أبنوس وحرّاس الهواء، وفي كتابها التوثيقيّ نيغاتيف (35) الذي يرْصدُ معاناةَ المعتقلاتِ السياسيّات. وهذا الانشغال بعيدٌ جدّاً عن تجربةِ عبير إسبر، التي دأبتْ على الابتعاد عن القضايا الكبرى، وانشغلَتْ نصوصُها بالسرديّات الصغيرة في رواية لولو، (36) مع ملامحَ بارزةٍ من الخفّة اللغويّة في قَصْقِصْ ورقْ. (37)
* * *
في مقابل العرض السابق، قد يكون مفيدًا الرجوعُ إلى اللهجة الحماسيّة التي وَسَمتْ كتاباتٍ تناولتِ الروايةَ السوريّةَ الجديدة. ونجد في مقال حسين بن حمزة، "نبراتٌ جديدةٌ في الرواية السوريّة: التجريبُ بعيدًا عن الإيديولوجيا، (38)" تلك النبرةَ الحماسيّةَ التي تطنِبُ في مديح الروايات الجديد





























تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

دفاعاً عن: منذر المصري وشركاه

16-شباط-2010

ملف / ملامح من الكتابة الجديدة في سورية إعداد وتقديم:

19-تشرين الأول-2009

شعر / الرمل

22-تشرين الأول-2006

شعر / تأملات من نافذةٍ في الرأس

11-أيار-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow