Alef Logo
ضفـاف
              

صناعة الأيقونات الأمريكية.. بالأبيض والأسود

رافع هزاع

2009-11-20


يقول البروفيسور دينيس هول في كتابه «أيقونات أمريكيّة»: "جنباً إلى جنب، أثبت مايكل جاكسون ومادونا قوة التأثير التي تصنعها الموسيقى في العالم".
يفتح الرحيل المفاجئ للموسيقي الأمريكي مايكل جاكسون شهية الوقوف عند الأيقونات الأمريكية، وتناول عمليات الاختيار والمفاهيم التي يتّبعها صُنّاع الثقافة الأمريكية في تأليه الشخصيّات المؤثّرة في مجتمعهم، كذلك المعايير المتغايرة ما بين الأشخاص-الرموز وما يتم استثماره وكيف من أخبارهم ونتاجهم وتفاصيل حياتهم التي قد تؤثر حتى في السياسة والاقتصاد الوطنييّن. مثالنا هنا مزدوج، ومتغاير أيضاً رغم التقارب؛ فمايكل جاكسون ومادونا لا يُعتبران أيقونتين موسيقيتين في الولايات المتحدة فحسب، بل في العالم أجمع؛ لكنّهما بالرغم من ذلك مختلفان. التقارب بينهما هو في النتاج والصناعة الفنيّة، لكن الاختلاف هو في اللون، والمقصود هنا هو لون البشرة وليس اللون الفني!! يجدر الوقوف عند هذه النقطة كون المرحلة التي تم الترتيب ليكون جاكسون ومادونا فيها من الأيقونات الأمريكيةK كانت فترة حرجة بالنسبة للتاريخ الأمريكي الحافل بمنجزات التمييز العنصري والتي كسرها أوباما مؤخّراً، عائدين بذلك عشرات السنين لنشهد فصلاً من فصول فن صناعة الأيقونات على الطريقة الأمريكية.
لا يقتصر الأمر على متابعي الموسيقى الغربية فحسب، وهذا النقاش الذي خضته مع صديق لي منذ 10 سنوات تقريباً يعود إلى ذاكرتي الآن، فمايكل جاكسون (بغضّ النظر عن هويته وجنسيته) هو اسم معروف حتى لمواطني ريف قندهار!! منذ أن لمع نجم الطفل الأمريكي مايكل في عالم الفن مشاركاً أربعة من إخوته في فرقة «جاكسون فايف» أواخر الستينات، رأى فيه النقّاد خامة إبداع وشيك، ووصفته مجلة الـ «رولينغ ستون» آنذاك بالمعجزة القادمة. لم يطل الأمر حتى ابتعد مايكل عن أجواء الفرقة العائلية، وبدأ مشاريعه الفنيّة بمباركة عمالقة الفن الأمريكي المتحدّرين من أصول افريقيّة، مثل كوينسي جونز و ستيفي وندر المعروف بدعمه لقضايا السود. بعد ثلاثة أعوام أطلق جاكسون ألبوم «ثريلر» الذي لفت نظر العالم أجمع، وحقق مبيعات فاقت 109 ملايين نسخة ليتربع على قائمة أكثر الألبومات مبيعاً في العالم، ولم تستطع أي فرقة الوصول إلى نصف مبيعاته حتى الآن، وهذا الأمر وحده يُلخّص مدى شعبية جاكسون الحاصل على 197 جائزة موسيقية عالمية.
النقود تتحدث في هذه المرحلة، إذ أن وجود موسيقي "زنجي" حصد هذا الكم الهائل من الإحصائيات والجوائز وتألق بهذه السرعة أوجب على الشركات التفكير بأن ما يُنتجه هذا الشاب لم يعد متعلّقاً بحرفة الموسيقى فحسب، بل أن العالم يقتني منتجاته كالضروريات المنزلية!! فيديو، أفلام وثائقية، روايات وكتب.. بدا كل شيء مُرتّباً ليكون "جاكو" هو نجم البوب الأمريكي الأسود عبر العالم. على الفور، خُصص له نجمة في رصيف المشاهير الهوليودي المعروف، وبعد أن كان الأمر أشبه بتعاطف المستمعين الأمريكيين من أصول افريقية مع نجمهم، بدأت رؤوس الإعلام والاقتصاد كما صُنّاع الموسيقى يلهثون لتوقيع العقود مع جاكسون، وأصبح أول موسيقي أمريكي أسود تتبناه شركة MTV الموسيقيّة. انطلقت منذ تلك الفترة مرحلة تكريس ثقافية في عيون المجتمع الأمريكي الأسود عبر جاكو، فعن طريقه روّجت الحكومة لحملات مكافحة المخدرات والكحول، وكرّمه الرئيس الأمريكي آنذاك رونالد ريغان لجهوده؛ كما أجادت وسائل الإعلام استغلال كل ما ألمّ بالنجم من سيء أو جيد لمصلحة ربحية. الحديث عن أمراضه الجلدية والفضائح والاتهامات باستغلال الأطفال جنسيّاً، كما المُحاكمات التي خضع لها هي اختراق مباشر لحياته الشخصية المُثيرة للجدل والتي استمتع بتفاصيلها العالم أجمع وليس المجتمع الأمريكي فحسب، وذلك بعد أن ثارت الأمة بين مندد ومدافع عن جاكسون وأفعاله لتتم تبرئته في النهاية وبقرار من تحت الطاولة -والله أعلم- ليبدو الأمر كفقاعة إعلامية، كان ضحيتها جاكسون الذي استغله البعض للحصول على حفنة من دولاراته؛ وبذلك تم ترسيخ اسم «مايكل جاكسون» كأي شعار أو ماركة أو مُنتج أو حتى كائن فضائي، أمريكي المنشأ!!
لم يقتصر الأمر على ما قدّمه العم سام لجاكسون، فعمل الأخير وطاقمه على ابتكار ما ميّز مسيرته الفنيّة منذ البداية، فاخترع ما يُسمّى بـ «مشية القمر»، وهي خدعة السير عكساً قام بتقديمها في عروضه الراقصة وألّف كتاباً باسمها عام 1988. أصبحت هذه الرقصة مرتبطة باسم جاكسون أينما قُدّمت وعلى اختلاف المؤدين؛ وانتشر تأثيرها من نوادي الرقص الأمريكية إلى عروض الراقصين الهواة في جميع أنحاء العالم، ولم يكن غريباً في عام 2007 مثلاً عندما تدرّب 1500 نزيل في إصلاحية بالفلبين على رقصاته وقدّموها في عرض يصوّر امتداد ثقافة جاكسون والثقافة الأمريكية إلى الشرق؛ وعمل التغيّر في لون بشرة مايكل من السود إلى الأبيض وكذلك شكل أنفه إلى خلق صورة بشرية جديدة طاب للمُعجبين تقليدها بعمليات التجميل!!
بالرغم من العواصف التي ألمّت بحياة «ملك البوب»، بقي شخصية محبوبة حتى عندما أثار اللغط أمام الكاميرات وهو يدلي بطفله الرضيع من نافذة فندق؛ خصصت له ذلك السحر العجيب الذي حققه جاكسون بأعمال إنسانية كتبرّعه بـ 300 مليون دولار لـ 39 مُنظّمة خيرية، يعتبر أهم المؤشرات التي ترصد تأثير الشخص-الأيقونة في المُجتمع؛ فالمُحسن يبقى مُحسناً مهما أخطأ، واهتمام جاكسون بالأطفال دائماً يجد المسوغ المناسب! انغماسه في شتى مجالات الحياة من عمل موسيقي وسينمائي وفنون أداء وتجارة وأعمال، جعل منه نموذجاً للموسيقي البوب الأمريكي الأسود المتألّق في عيون العالم، وهو الشخص الوحيد الذي عطّل اسمه محرك بحث «غوغل» وموقع «تويتر» يوم وفاته لكثافة البيانات حول الحدث!!
وقّع جاكسون في مطلع التسعينات عقداً بمليار دولار مع شركة «سوني» الفنيّة، ومنعه ذلك الأمر من تقديم مشروع موسيقي مشترك مع مادونا، النجمة التي تبكي بحرقة الآن على فقدان صديقها العزيز، وهي النظيرة التي لم تختلف مسيرتها الموسيقية عن سابقها. يكفي أن تذكر اسم مادونا ليعرف الجميع عن ماذا تتحدث: ملكة بوب، ممثلة سينمائية، مُحسنة، نجمة إغراء وأوصاف قد لا تخطر على البال!!
تشابه حياة مادونا العملية حياة جاكسون نوعاً ما، فقد بدأت مع فرقة «بريكفاست كلَب» بعد أن كان سعيها لأن تكون راقصة تعبيرية؛ ما لبثت أن انفصلت عنهم لتُقدّم ألبومها الأول وتخطف الأضواء. النجاح الحتمي في موسيقى البوب والديسكو التي كانت رائجة مطلع الثمانينات أخذ مفعوله عند جمهور مادونا، التي عززت مكانتها الفنيّة على شاشة MTV بالفيديو المُصوّر الذي أصبح موضة للترويج الموسيقي آنذاك. تزوجت الممثل شون بين في بداية تألقها، وأحرزت بذلك وجوداً في الوسط السينمائي تتوج بحصولها على جوائز الغولدن غلوب والأوسكار لأغانيها ودورها في فيلم «إيفيتا» عام 1996.
النجمة التي تُصرّ على العودة كلما تنبّأ النُقّاد بانطفائها، عرفت استغلال كل تفصيل مثير في حياتها لتكون شريكة مؤثّرة في تكريس وجودها كأيقونة أمريكيّة صنعتها التجارة والسياسة؛ فبعد "انفجار" نجاحها المفاجئ، نشرت مجلة «بلاي بوي» صوراً لها وهي عارية كانت قد باعتها للمجلة قبل 4 سنوات عندما كانت بحاجة للنقود. لم يؤثر ذلك في مادونا، بالعكس، إذ عززت صورتها بالتعرّي الناجح وزادت على ذلك الترويج لنفسها كداعمة لحقوق مثليي الجنس، ونشرت كُتباً تتناول الجنس بشكل إباحي فظ!!
لم تكتفِ مادونا بهذا القدر، بل قدّمت أغانٍ (لايك آ بريير) اعتبرتها الفاتيكان غير مقبولة ودخلت في حرب إعلامية ضدها، وزادت على ذلك في نشاطها الديني أن تخلّت عن مذهبها الأصل لتصبح من أتباع طائفة الكوبولا. عادت بعد فترة وجيزة وسجال طويل مع بريتني سبيرز لتقدّم حفلاً مشتركاً معها انتهى بقبلة ساخنة لهما على المسرح شغلت الميديا في العالم أجمع.
قد تبدو صاحبة هذه الفوضى غير جديرة بأن تحمل اسم أيقونة أمريكيّة، لكن خيار MTV التي كانت تفرض قواعد مُذلّة لإبعاد أي موسيقي أسود عن شاشاتها، كانت مادونا خيارها الأمثل لنجمة البوب الأمريكية؛ فجعلت منها معبودة للجماهير باتفاق مشترك في الإنتاج، انتهى بتوقيع مادونا عقد شراكة مع «تايم وورنر» لافتتاح شركة إنتاجها الخاصة «مافريك».
حققت مادونا أرباحاً مذهلة، مما جعلها تنخرط في غرام تبنّي الأطفال الأفارقة والأعمال الإنسانية على غرار جاكسون، وبذلك أصبحت أيقونة أمريكية بيضاء في عيون شعبها الذي يعشق قصص تبنّي الأطفال ويصفّق لجرأة من تعترف بحقوق الشواذ. الأمر يختلف قليلاً في باقي أنحاء العالم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تتصل القاعدة الشعبية من معجبي مادونا العرب بصورتها الجنسيّة بالدرجة الأولى ثم موسيقاها بالدرجة الثانية، وهذا استحقاق يفرضه اختلاف الحضارات بكل تأكيد.
مما لا شك فيه أن دفاع النجمة البيضاء عن مصابي فيروس الإيدز حررها من ذنوبها أمام شعبها، وجعل لها مكاناً في قاعة الشرف بمعرض الـ «روك آند رول» في كليفلاند، لم لا فهذي مادونا التي دخلت سجل غينيس كأكثر موسيقية نجاحاً في العالم، وهي أكثر شخصية فنيّة يتم البحث عنها على الانترنت وفقاً لشركة «غوغل»؛ لذا فمن البديهي أن يصبح اسم مادونا عبرة أمريكية لكل مغنّية وكل شابة في العالم، وذلك ليس فقط في الموسيقى، وإنما في التمثيل والتجارة والأزياء والثقافة وحتى في الدين!!
كما الأشخاص والشركات والتوجّهات تلعب دوراً هامّاً في التوثيق الذي نفتقر له، تلعب الأماكن في الولايات المتحدة الدور الرئيس في ترسيخ فكرة الأيقونة، ولربما في مثال نجمة مايكل جاكسون على «رصيف المشاهير» الذي بدأ كفكرة لشركة مقاولات هوليودية خاسرة، أرادت في خمسينيات القرن الماضي حصد أرباح مستمرّة فنفّذت فكرة الرصيف وسوّقت له ليحوي الآن أكثر من 2000 نجمة لشخصيات وأسماء عالمية؛ وبينما نتناول ما يفوق كونه أيقونة في بلادنا العربية كظاهرة لا أكثر، تنشغل الميديا الأمريكيّة ببث صورة مُصغّرة لجاكسون الراحل إلى جانب "اللوغو" الخاص بها لبيان خسارة الأمة، بعد أن تجاوز جاكو معنى الأيقونة لتصبح حياته الخاصة أشبه بأسطورة عاشت كما الروايات الخيالية بتسمية مزرعته في لوس أنجلوس باسم «نيفرلاند» على اسم الجزيرة في رواية بيتر بان الذي لا يكبر، لكن جاكسون كبر ومات تاركاً الأبواب مفتوحة في تأثير شمل العالم أجمع، وصل حتى دول الضاد التي يتناقش أعرابها اليوم بحماسة منقطعة النظير حول حقيقة إسلام مايكل جاكسون، أو عدمه!!
رافع هزّاع
[email protected]
النشر الورقي شرفات الشام
النشر أللكتروني موقع ألف


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

صناعة الأيقونات الأمريكية.. بالأبيض والأسود

20-تشرين الثاني-2009

أهم 20 شخصية فنيّة مؤثّرة في العالم / ترجمة وإعداد:

13-تموز-2009

الثقافة الآنيّة في سوريا.. وحدها تستمر

15-حزيران-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow