Alef Logo
يوميات
              

هُنــا الأقصر (1و2)

فاطمة ناعوت

2009-12-01


أكتبُ لكم من الأقصر. تلك المدينةُ الجميلةُ "بالقوّة"، والجميلةُ "بالفعل"، وفق القاموس الفلسفيّ. جميلةٌ هي بقوةِ حقِّها الخاص، لأن لا بقعةً فيها تخلو من أثرٍ من آثار حضارتنا الرفيعة، أرقى حضارات الأرض، ولذلك كانت، ويجب أن تعودَ، عاصمةَ مصرَ. جميلةٌ بالقوة لأن لا مدينةً في العالم جمعت أسماءً شتّى مثلها؛ فهي طِيْبَة، وهي مدينةُ المائة باب، ومدينةُ الشمس، ومدينةُ الصولجان، ومدينةُ النور، وهي المدينةُ التي أطلقتِ العربُ عليها، مع الفتح الإسلاميّ، مفردةً تعني جمعَ الجموع لكلمة: "قَصْر"، وجمعُها: "قصور"، ثم جمعُ جموعِها: "أُقْصُر"، لأنها تزخرُ بالقصور والمعابد، التي تُمثِّلُ ثُلثَيّ آثار العالم، والتي قطعةٌ فقط من آثارها حريٌّ أن تقومَ حولها حضارةٌ كاملةٌ تُدهشُ العالمين. (وحُكمًا، فهذا الجمالُ "بالقوة" ليس وليدَ العدم؛ بل فعله أجدادُنا الفراعينُ العِظام). ثم هي جميلة "بالفعل"، لأن وراءها مُحافظًا جادًّا، مُحِبًّا وفنانًا، يعرف قيمةَ المكان الذي وُلِّيَ عليه، ويعرفُ هَولَ المسؤولية التي تصدّى لحملها، فزادتِ المدينةُ على يديه بهاءً فوق بهاء.
لا يومَ يمرُّ دون أن تلحظَ تغيُّرًا في المدينة نحو الأجمل. لاحظَ الأدباءُ المشاركون في مهرجان "طيبة" هذا العام كمَّ التحوّر الحادث في الأقصر عن العام الماضي. تجوَّلْ في المدينة بين ناسها، واسألْهم مَن عبّدَ هذا الشارع، وشجّرَ هذا الميدان؟ مَن ارتقى بمدارس الأقصر وحدَّثها بالمعامِل؟ مَن وسّعَ مدخلَ معبد الكرنك ونظّمه على هذا النحو الجميل؟ سيجيبك البسطاءُ والنخبةُ في آن: "هذا الجهدُ وراءه د. سمير فرج، ووراءه ناسٌ آمنوا بفكره الحضاري. هو أحبَّ مدينتَنا وأحَبَّنا؛ فأحببناه!".
كنّا مدعوين إذًا للمشاركة في "مهرجان طيبة الثقافي الدولي"، الذي تنظمه مدينة الأقصر بالتعاون مع اتحاد كتّاب مصر. وكان رئيسَ المهرجان الروائيُّ بهاء طاهر، رأسُ رموز الأقصر الإبداعية، مثلما هو أحدُ الرموز الإبداعية الكبرى في العالم.
ويُحسَب للأديب محمد سلماوي تحمُّسه لمهرجان طيبة وحرصه على المشاركة الشخصية به كل عام. فكونه رئيسَ اتحاد كتّاب مصر، وكذا الأمينَ العام لاتحاد الكتّاب العرب، كان حريًّا أن يدفعه لتثبيت النظر، وحسب، على الدائرة الأوسع، العربية والعالمية، لكنه كان منتبهًا إلى أن المحليَّ في أهمية العالميّ، إن لم يكن أهمَّ. ومن هنا وجَّهَ نظرَه المُحِبَّ للداخل، فكان مع فكرة خلخلة مركزية العاصمة "المدللة". فمدينة مثل الأقصر لابد من تسليط الضوء عليها، لأنها، بالمقياس الحضاريّ، أكثرُ أهميةً من القاهرة، بل ومن كلِّ مدن العالم.
كنتُ أودُّ أن أكملَ المقالَ في السياق الذي بدأ. لكن عدّاد الكلمات ينذرني بأنني أوشكتُ على الحدِّ الأقصى لكلمات المساحة المخصصة لي! وأنا إنْ تجاوزتُ العددَ المتاحَ، عاقبني الصديقُ أحمد الصاوي بإعمال مقصِّ الحذف، أو بتصغير حجم الخطِّ بمقالي في الديسك، فتنزعجُ صديقتي الجميلة أمل الشريف وقتَ قراءة المقال، لأن عينيها تُرهقان!
لذا، سأكملُ الحديثَ عن الأقصر وعن أجمل وجه امرأة شاهدته هناك، الأسبوعَ القادم. وأنحو بمقالي الآن نحو سياق آخر، مادمنا وصلنا بالكلام إلى اسم: محمد سلماوي.
أدعوه، بصفته مثقفًا مصريًّا رفيعًا، وكاتبًا محترمًا، وبصفته مَنْ حمل لمصرَ من السويد درعَ جائزة نوبل للآداب العام 1988 نيابةً عن نجيب محفوظ، ثم بصفتيه الرسميتين كرئيس اتحاد كتّاب مصر، والأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، ثم بصفته الأهمّ، كونه بالفعل أديبًا محبوبًا من قِبَل الأدباء المصريين والعرب، ما تأكَّدَ من الإجماع على إعادة انتخابه أمينًا عاما للاتحاد قبل أيام، أدعوه باسمي وباسم كلِّ مصريٍّ أوجعه ما حدث مؤخرًا من بعض الجزائريين، أن يعقدَ اجتماعًا طارئًا لرؤساء الاتحاد العرب، ليتخذ موقفًا يليقُ بما حدث. أعلمُ أن سلوكات بعض رعاع أية دولة، لا تُحسَبُ على الشعوب ولا على الدول، لكنَّ للمثقف، في الأقل، أن تكون له وقفةٌ حاسمة مع مثل تلك التصرفات غير المسئولة.
ونكملُ حديثَنا عن الأقصر الفاتنة الأسبوع القادم.


هنــا الأقصر (2)[1]

فاطمة ناعوت
[email protected]


حاولتُ الأسبوعَ الماضي أن أكتبَ لكم عن رحلتي الأخيرة للأقصر، ضمن الوفد المشارك في مهرجان طِيْبة الدولي. واكتشفتُ أن عشرات المقالات لا تكفي تلك المدينةَ الساحرة! هل سأبدو منحازةً جدًّا لبلادي، فيرميني بعضُهم بالشوفينية التي لا تليقُ بالشعراء، لو قلتُ إنني لم أرَ أجملَ منها مدينةً، على كثرة ما زرتُ من بلاد العالم؟ حسنًا، فليكن. وددتُ أن أحدثكم عن جمال المكان، وجمال الأثر، عن فتنة التاريخ، وعبقرية الأجداد. عن نبالة التراث وأصالة المأثور (حدثني صديقي الروائيّ فؤاد مرسي عن الفارق الضخم بينهما). وددتُ أن أحدثكم عن رقيّ الأقصريين وثقافتهم الأصيلة. وددتُ الحديثَ عن الأقصريّ الراحل يحيى الطاهر عبد الله. كما وددتُ الحديثَ عن صاحب "مدن الغَيْم"، الشاعر والمترجم الجميل الحسين خضيري، الذي كرّمه المهرجان، وعن الرائعين: مأمون الحجّاجي صاحب "أوزوريس نصيرُ الفقراء"، وأحمد جويلي صاحب "كتاب المحو"، ، ومحمد عبد اللطيف الصغير، والأسوانيِّ جمال الهلالي، وعن حسين القُباحي، الذي فاز بجائزة "بهاء طاهر"، التي خصصّها، لرقيّه، لأدباء الأقصر وحدَهم. وكثيرًا ما فكرتُ أن أجملَ ما في جائزة أدبية هو أن تحملَ اسمَ مبدع حقيقيّ. فحتى جائزة نوبل، أرقى جوائز الدنيا، ستظلُّ تحملُ اسمًا مُلتبسًا قرينَ مادة دمار هي الديناميت، حتى وإن تطهّرَ صاحبُها؛ وغسلَ فعلتَه بتدشينه جائزةً للسلام وللآداب وللعلوم! وفي المقابل، هل أرقى من جائزة تحمل اسمَ: "بهاء طاهر"؟ وددتُ الحديثَ عن موقع "أدباء الأقصر"، هنا: http://odabaaluxor.blogspot.com، الذي يضمُّ أخبارَ الجنوبيين من أدباء مصرَ. وددتُ أن أخبركم عن الصَّبية الجميلة نرمين نجدي التي تغارُ على الأقصر وآثارها بوصفها مُلكها الخاص. وددتُ أن أحدثكم عن حسين، سائق الحنطور، الذي سَمّى حِصانَه "شَجِيّ"، (ظننته من "الشَّجْو"، ثم تبيّن أنه إنما يقصدُ: "شَقيّ" من الشقاء). وددتُ الكلامَ عن الطَّوْد، وساحة الحجّاج، و"المركز الحضريّ للمرأة"، حيث البناتُ يصنعن بأياديهن أجملَ القطع الفنية من سجّاد ونُحاس وملابس. وددتُ أن أرسمَ لكم الفخرَ في عيون المصريين وهم يشاهدون معبدَ الكرنك ومتحفَ الأقصر، وبين الحين والحين، يرمقون بزهوٍ نظراتِ الإكبار في عيون الشاعر اللبنانيّ محمد علي شمس الدين، والسودانيّ الفاتح حمدتو، والعراقيّ علي جعفر العلاّق، والسورييْن كمال جمال بك وتميم صائد، والتونسيّ صلاح الدين الحمّادي، وسواهم! وددتُ الحديثَ عن الدراسة المهمة التي كتبها الشاعرُ الجنوبيّ الجميل فتحي عبد السميع حول "الثأر في الموروث الشعري"، وعداها من الدراسات الجادّة التي غذَّت عقولنا على مدار أيامٍ أربعة. آتوني، إذًا، بمجلداتٍ ضخمة، ومدادٍ لا ينفد، لأكتبَ لكم عمّا أودُّ الكتابةَ عنه!
يبقى أن أجملَ ما حدث في مهرجان هذا العام هو وضعُ حجر الأساس "لقصر ثقافة بهاء طاهر" بمدينة الأقصر. المكان: قطعةُ أرض مُهْداةٌ من الكاتب الكبير، البناء: على نفقة مجلس المدينة، الإدارة: هيئة قصور الثقافة. ووعدنا د. سمير فرج، رئيس مجلس مدينة الأقصر، بأن يُقصَّ الشريطُ العامَ القادم. لحظةَ وضع الحجر، الذي حملته معًا أيادي مثقفين ثلاثة: طاهر وسلماوي وفرج، تجوّلت عيناي بين وجوه أصدقائي الشعراء والأدباء؛ فوجدتُها جميعَها تنضحُ بالبِشْر الحقيقيّ، والفرح الذي محلُّه القلب، كأنما كلٌّ منهم يشهدُ وضعَ حجر أساس بيتٍ يحمل اسمَه هو!
أجملُ الوجوه في المهرجان كان للسيدة منال رمضان هاشم، أرمل المبدع الجاد "محمد صفوت عبد الكريم"، صاحب الأوبريت الشهير "أطفال الحجارة". رحل الزوجُ قبل شهور، فجاءت الزوجةُ لتتسلَّم درعَ تكريمه، فيما دمعةٌ نبيلة تترقرق في عينيها الجميلتين. دمعةٌ ستظلُّ جامدةً في مِحْجرِها حتى تلتفتَ وزارةُ الثقافة إلى أسرة ثكلى، بأبنائها الخمسة، فقدت عائلَها.
أما أرقى ما تمَّ في المهرجان، فجاء في توصياته النهائية: التماسٌ بعلاج الأديب محمد ناجي على نفقة الدولة. ومن هنا أرفعُ صوتي للرئيس مبارك بأن يسارعَ بإنقاذ مبدع جميل نحتاجُ إلى وجوده، نحتاجُ إلى قلمه.

[1] - جريدة "المصري اليوم" 30/10/09

النشر الورقي المصري اليوم

النشر اللكتروني خاص ألف









تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

يا الله، من رسم الخطوط حول الدول؟ ترجمة:

07-تشرين الأول-2017

«الشاعر» هاني عازر

20-تموز-2014

نوبل السلام لأقباط مصر

28-حزيران-2014

هنركب عجل

18-حزيران-2014

النور يعيد السيدة العجوز

11-حزيران-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow