Alef Logo
الآن هنا
              

(مرّة أخرى).. إعادة الاعتبار للغة الصورة.. أخيراً!!

علي وجيه

2009-12-18

ربما يكون ما رأيناه في الفيلم الروائي الأول لأصغر مخرجي المؤسسة العامة للسينما سناً، هو أفضل المستطاع رقابياً عندما يتعلّق الأمر بموضوع حسّاس كوجود الجيش السوري في لبنان، فجود سعيد صاحب الذاكرة الشخصية في هذا الشأن كونه ابن ضابط سوري، قضى هناك فترة من حياته شكّلت عنده مخزوناً فكرياً، تضافر مع عشق الفتى للسينما ليضيق ذرعاً بكلية الهندسة الميكانيكية، ويطير إلى ليون الفرنسية في سبيل ماستر الإخراج السينمائي الذي ناله من جامعة لويس لوميير عام 2006، أنجز بعده فيلمَين قصيرَين مع المؤسسة العامة للسينما: (مونولوج) 2007 و(وداعاً) 2008.

هذا هو المخرج والمؤلف، ولكن ماذا عن الفيلم الذي حاز على جائزتَي أفضل فيلم عربي ولجنة التحكيم الخاصة في مهرجان دمشق السينمائي السابع عشر مؤخراً بعد المشاركة في مسابقته الرسمية؟..

مجد (قيس الشيخ نجيب) ابن ضابط سوري كبير في لبنان ممّن عايشوا الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي، تُغتال أمّه بالخطأ عوضاً عن أبيه، فتصير الثكنة بمثابة البيت ومكان اللهو، وأبو سعيد (عبد اللطيف عبد الحميد) هو المربّي والأب الثاني بروحه المرحة وهيئته البسيطة رغم محيطه العسكري، مع انشغال الوالد الصارم بهموم الجيش والقتال..

من هنا تُروى الحكاية في إطار سردي متناوب الزمن فلاش باك - فلاش فوروورد، فنرى مجد شاباً غنياً يعمل مديراً لقسم المعلوماتية في أحد البنوك العائدة بشكل ما إلى صديق والده (عبد الحكيم قطيفان)، حيث تولّى رعاية مجد بعد انتحار الأب الذي رفض عزلته الطوعية والتحوّل إلى مجرّد شرطي بعد انتهاء الحرب.. ثم نرى مجد صبياً يرقد في غيبوبة نتيجة عبثه بالسلاح ليصحو منها على صوت تلقيمه بعد ثلاث سنوات، ولكن فاقداً للذاكرة!! يكمل تعليمه في لندن ويعود إلى دمشق شاباً مستهتراً يعامل الجميع بغطرسة وجفاء..

إنّه غريب الأطوار بارد العواطف كالأسلحة التي يحبّ اللهو بها في رحلات الصيد وألعاب القتال العنيفة، يعامل النساء كأيّ قطعة أثاث ومنهم حبيبته المفترضة (كندة علوش)، فثمّة غموض مثير للفضول في حياة الشاب التي تنقلب رأساً على عقب عند ظهور جويس (بياريت قطريب) كمديرة لنفس البنك، فيصبح التقرّب منها هاجس مجد الأوحد حتى أنّه يتجسس على محادثاتها الخاصة مع أختها في بيروت، لنعلم مدى اختلاف الصورة المسبقة للبلد الجديد في مخيلتها عن الواقع، وندرك كيفية انتقالها من الخوف والعزلة إلى ألفة السوريين اللطفاء الذين يستمعون لفيروز يومياً، وإلى وديع الصافي إذا ما أحبّوا التغيير!!

تنمو قصة حب بين طرفَين عانا من ويلات الحروب وبشاعتها لتصل إلى نهاية مفتوحة على جسر معلّق كحالتهما، بعد تجاوز المشاكل والضغائن التي ظهرت في الأحداث ولكن بداعي الحاجة! فجويس تطلب من مجد مساعدتها في عبور الحدود المغلقة بسبب حرب تموز لرؤية عائلتها على الرغم من خلافها معه، وكأنّ الفيلم يحاول القول إنّ لبنان لا يمكنه العيش دون سورية مهما زادت الخلافات..

تتواصل الرسائل السياسية المغلفة بقصة الحب، فصنّاع الفيلم يصرّون على أنّه أُنجز بالحب ولأجله، دون أن يمنع ذلك من تبنّي بعض المواقف السياسية المتعارف عليها.. ربما ليمرّ العمل وربما لأنّ تكوينه مرتبط بذاكرة معينة لدى المخرج، فها هي نشرات الأخبار تبيّن مشاركة الجيش السوري في التصدّي للقوات الإسرائيلية الغازية، وتظهر وليد جنبلاط حليف سورية المخلص في فترة ما، في حين لا يخرج اعتراف السوريين بأخطائهم في لبنان عن إطار التلميح والأمل بأن يسامح الناس مَن أخطأ (كيف كوّن ضابط مثل عبد الحكيم قطيفان كل هذه الثروة؟)!! مع العلم أنّ أعلى سلطة في البلاد اعترفت بكل صراحة ووضوح بوجود أخطاء سورية كبيرة في لبنان، وفي مكان ذو دلالة خاصة هو مجلس الشعب!!

على أيّة حال، للمخرج/المؤلف مطلق الحرية في تسويق رؤيته التي تخاطب الأجيال الجديدة من مبدأ: «عفا الله عمّا سلف» ولكل أخطاؤه ومآثره، والحب وحده الكفيل بترسيخ هذه العلاقة بعد التخلّص من الأفكار المسبقة لكل طرف عن الآخر.. ولكن ماذا عن النواحي الفنية للفيلم نفسه؟

المستوى الإخراجي جاء مبشّراً وربما صادماً لما فيه من جديد على مستوى الصورة والكوادر وأسلوبية السرد في الأفلام السورية، فأخيراً يأتي فيلم سوري يعيد للغة الصورة السينمائية اعتبارها وأهميتها الدرامية، حتى أنّ الاستعراض المرافق لذلك في بعض المشاهد يبدو مغفوراً وربما مستحبّاً في ظل القحط السينمائي الذي نعيشه!! وهنا نسأل بعد التسليم بالأهمية التي أثبتها جود سعيد كمخرج: ألا يعود جزء من كل التقدير الاحتفالي الذي حظي به الفيلم إلى هزالة المنجز السينمائي لبعض المخرجين المعتادين في المؤسسة؟ ولماذا لمسنا فرقاً شاسعاً في أداء مديرة التصوير جود كوراني بين فيلمَي (بوابة الجنة) لماهر كدو و(مرة أخرى) لجود سعيد؟ أم أنّ هناك تفاوتاً كبيراً بين معطيات السينما الحديثة وبين تراث السينما السوفيتية الذي قامت عليه الأفلام السورية طويلاً؟ أليس حريّاً بالمؤسسة العامة للسينما أن تصرّ على المخرجين الجدد مع كل التقدير للمخرجين الكبار الذين نالوا فرصتهم وأكثر؟!!

صحيح أّنّه ليس من المطلوب من الفيلم الأول لمخرج شاب أن يكون كاملاً، ولكن لا بد من ذكر بعض الهفوات الإخراجية التي وقع فيها، فخطأ الكادر في مشهد الأم الراقدة في المشفى واضح، ولا يمكن تفويت ظهور سيارة شام التي بدأ إنتاجها عام 2007 في مشهد الكراج المفترض حدوثه عام 2006! ولا ننسى أنّ خطأ كهذا حرم فيلماً مهماً مثل American Gangster لريدلي سكوت من الترشّح للأوسكار منذ عامَين!!

النص -للأسف- لم يأتِ بمستوى الإخراج، وتمنّينا لو خرج جود عن سينما المؤلف بإعطاء النص لمتخصص في الكتابة، فهناك تكرار لبعض الأفكار في أكثر من مشهد (خصوصية العلاقة بين أبو سعيد ومجد – مشاهد لعبة القتال..)، في حين نجد فجوة غير مفهومة في تاريخ مجد بعد استيقاظه من الغيبوبة فاقداً للذاكرة، فكان من الممكن أن تفسّر لنا جزءاً كبيراً من غرابة أطواره وسيكولوجية شخصيته «المصمتة» إذا جاز التعبير.. هل استعاد ذاكرته من تلقاء نفسه أم رويت له بعض الأحداث أو كلها؟ أي لماذا لم يتصالح مع نفسه وتاريخه تماماً سواءً كان ملمّاً به أو جاهلاً لتفاصيله..؟!!

لم نتمكّن كمشاهدين من التعاطف مع مجد رغم قصته المؤلمة ومعاناته العاطفية، وهي نقطة تبقى محل نقاش، فقد بدا واضحاً أنّ جود سعيد تقصّد ذلك من خلال الحفاظ على مونوتون الأحداث والأداء كما هو، في حين يرى البعض (ونحن منهم) أنّ بعض المشاهد كانت تحتمل جرعة عاطفية أعلى لتقريب البطل من الجمهور، ليكون هذا الأخير أكثر استعداداً للتعامل مع رسائل الفيلم المختلفة..

الأداء بشكل عام أكثر من جيد؛ قيس الشيخ نجيب ظهر بشكل جديد وروح مختلفة عمّا اعتدناه، كندة علوش كالعادة متمكّنة وقادرة على إيصال الدور إلى برّ الأمان، عبد اللطيف عبد الحميد الممثّل (تعاون فني واستشارة درامية أيضاً) بدا منسجماً للغاية مع شخصية العسكري الظريف، والمفاجأة السارة جوني كوموفيتش نجح في تقمّص شخصية أبو مجد رغم صعوبتها وتعقيدها..

(مرّة أخرى) جزء من ثلاثية يعمل عليها جود سعيد للبحث في العلاقة السورية اللبنانية بتعقيداتها وتشابكها من الباب الإنساني، وهو يعدّ الآن للفيلم الثاني الذي يتناول بيروت المدينة لا الثكنة العسكرية، وستشاركه الكاتبة لبنى مشلح في السيناريو، وهو ما نأمل أن يكون تلافياً لبعض هنّات النص الأول لمخرج واعد يعوّل عليه الكثير مستقبلاً.

بطاقة الفيلم:

إنتاج المؤسسة العامة للسينما وشركة سوريا الدولية 2009.

سيناريو وإخراج: جود سعيد.

مديرة التصوير: جود كوراني.

مونتاج: علي ليلان - سيمون الهبر.

مدير الإنتاج: حسني البرم.

الصوت: منصف طالب - رنا عيد - جوليان رواغ.

موسيقى: نديم مشلاوي.

الديكور: داني خوري.

تعاون فني واستشارة درامية: عبد اللطيف عبد الحميد.

المدة: 96 دقيقة.

الممثلون: قيس الشيخ نجيب - عبد اللطيف عبد الحميد - بياريت قطريب - عبد الحكيم قطيفان - كندة علوش - جوني كوموفيتش - فادي صبيح - آنجو ريحان - جمال شقير - مجد رياض.


علي وجيه

[email protected]


المصدر: جريدة (شرفات الشام).

































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

آل باتشينو يعود آل باتشينو في «أنت لا تعرف جاك»

11-تموز-2010

«روبن هود» يتحدّى أفلام «البوب كورن» وأبطالها الخارقين

14-حزيران-2010

«جزيرة شاتر».. درس سكورسيزي الجديد دعوة صارخة للتعمّق في النفس البشرية

08-أيار-2010

عندما ترسّخ الميديا ثقافة القشور

17-نيسان-2010

«واحد - صفر».. فاز المنتخب وهُزِم الوطن!

14-آذار-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow