Alef Logo
يوميات
              

ما يشغل آل قرقوعة

حسان محمد محمود

خاص ألف

2010-03-06



منذ أسبوعين فاجأني والداي بتصرفٍ ما كان في الحسبان، إذ حين ضربت والدي "كفين" فقط لا غيرهبت والدتي تدافع عنه، وعندما ضربتها هي الأخرى؛ تذمّرا، وأعلنا رفضهما لضربي إياهما، تخيلوا!!
يا لهذا الزمان!!
زمان صار المرء فيه لا (يمون) على والده أو والدته بصفعةٍ أو اثنتين، حتى لو كان معقب معاملات العائلة.
أرأيتم أين وصلنا؟

ما يهمني؛ عدم انتشار هذه الظاهرة، لذلك، أجد من واجبي التحذير، كي لا يتكرر ما حدث معي، أو يمسي التذمّر نهجاً للآباء و الأمهات إن ضربهم أحد أبنائهم، وهذا أمر أتمنى من المختصين بعلم نفس الأهل الاهتمام به، و دراسة أسبابه، حتى لا يشيع.

نحن، عائلة ( آل قرقوعة) مثل كل العائلات، اضطررنابسبب التطور الإداري الكبير إلى تخصيص فردمنها بوظيفة تعقب وملاحقة ومتابعة معاملاتنا الإدارية، فالمرء أو المرأة من آل قرقوعة ـ وسواها من العائلات ـ لديه يومياً مراجعات متعددة ومتكررة ومتواترة ومتلاحقة ومتتابعة لدوائر مختلفة: دفع فاتورة هاتف، فاتورة مياه، فاتورة كهرباء، مخالفة سيارة غيابية، مخالفة سيارة وجاهية، تظلم من مبالغ خيالية لفواتير الكهرباء أو المياه، مراجعة شعبة التجنيد، تسجيل ولادة أو وفاة أو زواج أو طلاق في النفوس، تجهيز أوراق للاشتراك في مسابقات للتعيين في الدولة، حصر إرث، دعاوى مختلفة في عدة محاكم، معاملة المازوت الشهيرة، استدعاءات مدير المدرسة لولي أمر الطالب، معاملات قروض مختلفة، تسديدات لأقساط القروض، ترخيص لبناء أو محل تجاري أو مزرعة أو سيارة، تسجيل سيارة، دفع رسوم سيارة، مراجعة مديرية المالية لاستخراج براءات ذمة أو دفع ضرائب أو رسوم أو للتظلم منها، مخافر الشرطة لحل مشاكل مع الجيران، معاملات تقاعد وإحالة على المعاش و إصابات عمل و......
لهذا ـ كجميع العائلات الأخرى ـ قررت عائلتنا أن تفرّغ واحداً من أبنائها لهذه الأمور، وكنت أنا ذاك المكلف متابعة وملاحقة وتعقب معاملات عائلتي.

وسبب اختياري؛ أننا (آل قرقوعة) عصبيون جداً، وكنت أهدأ إخوتي، وتعرفون؛ كم من الرويّة يجب أن تتوافر فيمن توكل إليه مهمة مناكفة ومناقشة ومجادلة ومحاججة ومراجعة موظفينا ذوي النفسيات التي ليس أحمض منها إلا كأس عصير الليمون المضاف إليه خمسين ليتراً من الخل و المذاب فيه ستة وسبعون ملعقة ملح الليمون.

اشترينا حقيبة، و أقلعنا بالعمل.
في البيت خصصت لي عائلتي هاتفاً، و صارت لي غرفة مستقلة مليئة بالكتب و الملفات، وضمت مكتبتي الصغيرة مقارنة بغيرها:
ـ 54893215465879525487844544878454514754897 قانوناً.
ـ 569821212111174123325465987412554544564897 بلاغاً.
ـ 4548789748947154323232565878761654840216544 قراراً.
ـ 45496387878745142121433565456484517774545454316 تعميماً.
ملاحظة: مهنتنا دقيقة، وتعتمد التوثيق، لذلك لا بد من الإشارة إلى أنه وردني في الأمس تعميم لم أتمكن من أرشفته في مكتبتي بسبب وجودي في المشفى بعد أن أصبت بكسور في أضلاعي جراء حدث سوف أذكره لاحقاً، لذلك فإن عدد التعاميم الفعلي ليس ما ذكرته سابقاً، بل:
ـ 45496387878745142121433565456484517774545454317 تعميماً.

أجري كان مائة ليرة لقاء كل معاملة أنجزها، وهو جيد، إذ استطعت بفضله ـ خلال عام واحد فقط ـ شراء سيارةٍ وخمسة بيوت بعيون الشيطان، و تزوجت من ثلاث نساء، نعم، ثلاثاً، و الرابعة على الطريق، ولسوف أسكنها شقتها الخاصة أسوةً بزوجاتي الأخريات، أما الشقة الخامسة سأبقيها لي، كي أستخدمها لسهرات العزابية، و ولائم ألي الأمر وأصحاب القرار في بعض المؤسسات الحكومية.
أبنائي أربعة، صبيان: مطبق إضبارة قرقوعة و مصنف قرقوعة، وبنتان، هما: سطنبة قرقوعة (متزوجة من سائق وزير) و شكالة قرقوعة (مخطوبة لبائع طوابع، وقد تنفصل عنه إذا تقدم لها مدير عام لمح إلى رغبته بخطبتها).

علاقاتي الاجتماعية مقتصرة على أبناء المهنة (مديرون ـ معقبوعائلاتٍ أخرى ـ موظفون ـ أذنة ) أما أمكنة ممارسة هذه العلاقات فهي المقاهي و ردهات المؤسسات وأبهائها، وتستطيعون تخيل أحاديثنا:
ـ أهلين أبو مطبق إضبارة، كيفك؟
ـ الله يخليك... حل عني.. معصب.
وكان الزميل ـ بفعل خبرته ـ يعرف من سحنتي سبب تعاستي.
ـ أكيد كنت عند موظف المالية أبو نتاف السالوخ.
فأشكي له همومي، وأقص عليه مجريات يومي.

كنا نجتمع أحياناً خمسة أو ستة معقبين حول طاولة، نتداول في شؤوننا، ونتجادل في مواضيع شتى، مثلاً: قبل دخولي المشفى بيومين كنا نحلل ظاهرة الرشى بين الموظفين، وكان التساؤل الرئيس المطروح هو: هل نرتشي لنعيش، أم نعيش لنرتشي؟
طبعاً، تنوعت الآراء، واختلفت، وتباينت وجهات النظر، لكن أطرف ما طرح بهذا الخصوص كان رأي شرطي يجلس إلى طاولة مجاورة لطاولتنا، اقتحم الحديث دون دعوة منا، ربما لأنه يهمه، فقال:
ـ هناك ناس ترتشي كي تنتشي.
أعجبنا رأيه، وشكرناه عليه، و تحول الحديث إلى اتجاه آخر، هو تفسير نشوة المرتشي.

مساحةٌ كبيرة من نقاشاتنا؛ كانت تحتلها الصعوبات التي تواجه أحدنا في معاملة ما، فنقترح، ونقلب الآراء بخصوص المشكلة التي تواجه زميلنا، ثم نتحدى بعضنا، أينا سوف تتحقق توقعاته، و في اليوم التالي، بمجرد حضور صاحب المعضلة، نسأله بلهفة:
ـ هات خبرنا!! .
فينتشي المنتصرون لأن توقعاتهم أو اقتراحاتهم أثبتت جدارتها، و يدفع المخذولون ثمن خذلانهم، وهو عادةً طقم شاي للحاضرين على حساب الخاسرين.
آخر مراهنة ربحتها كانت حين أكدت لزميلي (شرشوح سراق الطوابع) أن رخصة استيراد فراشي الأسنان المستعملة من اليابان لن تنجز، لأن مدير عام الفراشي سوف يصدر قراراً بمنع الاستيراد، بسبب وجود كميات كبيرة كاسدة من فراشي الأحذية في مستودعات شركته، و أفضل طريقة لتصريفها هي حفز الناس على استعمال فراشي الأحذية، ومنع استيراد جميع السلع المنافسة، و قد عرض التلفزيون أمس إعلاناً يبين مزايا استخدام فراشي الأحذية لتنظيف الأسنان، وفور عرض الإعلان اتصلت بزميلي (شرشوح سراق الطوابع) وقبل الألو و المرحبا قلت له شامتاً:
ـ شفت الإعلان تبع الفراشي؟

ما شرحته سابقاً ؛ ضروري كي يعرف الجاهلون في الدول المتخلفة إدارياً أهمية معقب معاملات عائلة ما، وظروف عمله ومكانته، فيسهل عليهم استيعاب ما يدور الحديث حوله، إذ يصادف أن بعض الناس لم يسمعوا بنقابتنا، أو لم يقرأوا صحيفتنا (حل المشكلة بأسلوب البرطلة) برغم أن مبيعاتها بلغت /600/ ألف عدد في اليوم الواحد.
على كلٍّ، من يريد الاستزادة في معلوماته عنا؛ يستطيع زيارة موقعنا الإلكتروني: (مع التيار..ماع ماع ماع)، و إليكم رابطه:
www.maa-altayar-maa-maa-maa.tz

أعود إلى موقف والدي و والدتي الغريب، و لعلكم تتساءلون: لماذا أقدمت على ضربهما؟
إليكم ما حدث، تاركاً لكم الحكم على تصرفي.
والدي في الخامسة و السبعين من عمره، و أمي تصغره بأربع سنوات، كانا يومها (يوم احتجاجهما على صفعي إياهما) يتحدثان عن معاملة حصر إرث والدي بعد أن يتوفى، وهذا أمر عاديّ، ليس في عائلتنا فحسب، بل في جميع العائلات، فالحديث عن المعاملات الإدارية و القوانين و القرارات الصادرة أو المتوقع صدورها يشغل مساحة 99% من وقت أي سهرة أو لقاء أو زيارة.
شرحت لهما الإجراءات، و أخرجت مفكرتي كي أحدد الأيام التي يكون بوسعي فيها التحرك بالمعاملة، وكنت واضحاً جداً معهما:
ـ يفضّل أن تموتا معاً، كي لا نكرر إجراءات تثبيت الوفاة وحصر الإرث، ويناسبني جداً أن يكون ذلك بعد أسبوعٍ من الآن، لأنكما لو تأخرتما في ذلك أسبوعاً آخراً قد يؤدي ذلك إلى طول أمد إنهاء المعاملة، إذ سوف تأتينا فترات تعطل طويلة في الدوائر الرسمية و المحكمة الشرعية، أما كيف تموتان؛ فهذا عائد لكما.
وافقت والدتي:
ـ و الله يا زلمي الولد معو حق، خلينا نموت سوا أحسن ما نعزب هالصبي بالمعاملة مرتين.
فكر والدي قليلاً، و سألني:
ـ كم ستأخذ على المعاملة؟
ـ كالعادة؛ مائتي ليرة، لأنها عن معاملتين.
رفض أبي المبلغ، وأصر أن لا آخذ أكثر من مائة ليرة، أما أخوتي فوقفوا إلى جانبي، مؤيدين حقي في تقاضي مائتي ليرة، فالميتان اثنان، وهذا يحتاج معاملتين، معاملةٌ لكل منهما.
لم يتراجع والدي عن موقفه، برغم شرحي المسهب لوجهة نظري، وصرخ مهدداً بتسليم المعاملة لمعقب معاملات آخر إن لم أقبل.
كررت تمسكي بموقفي:
ـ لا تهددني، هذا حقي، أصلاً .. لن يقبل أحد بما تعرضه علي، لمن ستعطي المعاملة؟ لشرشوح سراق الطوابع أم لفلتان برغي خرازة أم لمضروب نسيان ختمو؟ هؤلاء جميعاً لن يقبلوا بأقل مما أطلبه...ثم، ألا تفكر في سمعة العائلة؟ ماذا سيقول الناس إن سار بالمعاملة غيري؟
صرخ والدي في وجهي (تخيلو!!!):
ـ لماذا تصيح يا كلب؟
ـ أنا كلب ....؟!
فضربته، وضربت والدتي، ما أثار احتجاجهما، علي أنا، معقب معاملات آل قرقوعة.

أخوتي التزموا الصمت، في كل حال؛ المتظاهرون بالحياد منهم، الذين لم يكن حيادهم نابعاً من أعمق أعماق قناعتهم بصحة ضربي والديّ، سيأتي يومٌ أحاسبهم فيه، وفي أهمّ وأعزّ معاملاتهم الإدارية.
المهم:
مات أبي وأمي معاً، في الموعد المناسب، و أتممت معاملتي وفاتهما (رحمة الله عليهما) خلال يومين، وتجنبنا فترة العطلة الطويلة، و الحمد لله.
ولكل من أضنته اللهفة ونهشه الفضول لمعرفة إن كنت أخذت حقي أم لا، أقول: اطمئنوا ! اطمئنوا! أخذت مائتي ليرة، إلا أن ما يشغل بالي ليس هذا الأمر، بل أمرٌ آخر أهم و أبعد أثراً.
لقد أثار موت والديّ مواضيع غفلت عنها، فها أنذا أرقد في المشفى بعد أن ضربني ابني الكبير (مطبق إضبارة) لأنني رفضت إعطاءه بعض الطوابع التي احتاجتها إحدى المعاملات التي كان يتابعها، تلك الحادثة، أبرزت ضرورة التفكير في خلافتي فيما لو مت فجأةً.
أجل، يجب أن يتابع أحدٌ مهماتي بعد موتي، هذا ما يشغلني الآن، وربما يشغل تفكير الجميع في ...آل قرقوعة.

حسان محمد محمود
[email protected]




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

المتة إن عزت

05-أيلول-2020

قصة مقالة عن أدونيس

23-أيار-2020

ضحكة فلسفية

04-نيسان-2020

هكذا تكلم أبو طشت ـ جزء 6 المرأة التي قتلتها مؤخرتها

21-أيلول-2019

هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي.

14-أيلول-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow