Alef Logo
ابداعات
              

فصل من رواية / أنا وقطتي

علوان حسين

2010-03-14

خاص ألف
حين شاهدت ( إيري ) كان ذلك في الربيع بدت لي قرية تعيش على حافة العالم . بلدة صغيرة ليست بمدينة ولا هي بمواصفات قرية , لكنها مزيج من الريف والمنتجع السياحي . تطل على بحيرة عظمى تبدو أشبه ببحر بمياه عذبة تموج على صفحتها ظلال الأشجار رشيقة ً كنساء عائمات على وجه الماء . تحوط البحيرة غابة صغيرة كثيفة الأشجار , وثمة البيوت القرميدية بحدائقها الخلابة تضفي على البلدة رونقا ً وسحرا ً لاتراه إلا في الخيال . قلت لنفسي هذه البلدة الصغيرة هي التي أبحث عنها , سأجد لي كوخا ً صغيرا ً أو غرفة ولو من قصب أو طين تكون مأواي الأخير بعد هذه الرحلة الطويلة التي أكلت عمري ولم يبق لي منه سوى شهورا ً معدودات وقد تكون أياما ً قليلة من يدري ؟
مكثت في هذه البلدة الساحرة بضعة شهور لاأدري كيف إنصرمت , كتبت خلالها الكثير من قصائد الحب لنساء لاوجود لهن إلا في الخيال . على ضفاف البحيرة كنت أجلس ساعات طويلة أصطاد فيها بعض السمكات الصغيرات والأفكار وأستغرق طويلا في أحلام اليقظة التي أدمنت عليها منذ الصغر . كنت أعيش في عزلة تشبه عزلة النساك . لي زيارات متقطعة إلى أحد باراتها الأليفة بعد الكأس الثاني من النبيذ المحلي أشعر بالضجر فأعود إلى عشي الصغير . لاشيء عندي أفعله سوى تقليب الكتب الكثيرة التي لديّ . أصغي للموسيقى أحيانا ً أو لأغاني السيدة أم كلثوم وأنا أذرع أرض الغرفة ذهابا ً وإيابا ً كمن به مس ٌ من الجنون . السمكات القليلة أقليها وألتذ بإلتهامها . من حسن الحظ أن المساحات الشاسعة في البلدة مزروعة بكل أنواع الخضراوات والفواكه , خصوصا العنب والتفاح , لذلك تكون غزواتي وقت الفجر والسماء تنث ندى وبخارا ً لطيفا ً ينعش القلب . غالبا ً ما أعود محملا ً ببعض الخضروات الطازجة كالطماطم والخيار والبصل والبطاطا والفطر الأبيض وطبعا أرصعها بعنقود عنب من النوع الفاخر وببضع تفاحات شهية المنظر ولا أنسى في طريقي المرور على سقيفة الدجاج لإلتقاط بضع بيضات لاتزال حارة وأحيانا ً أجازف ببضع لسعات حادة من أناث النحل حين تأمرني نفسي الأمارة بالسوء بسرقة بضع غرامات من العسل الطبيعي . في هذه البلدة الطيبة السخية تكثر حظائر البقر لي منها ملء قدر صغير يكفي لفطوري بعد مزجه بالعسل وتناوله مع بيضتين مسلوقتين أو مقليتين بالزبدة . في هذه البلدة عشت بضعة شهور وأنا عاطل عن العمل وقد إتخذت من بناية مهجورة وآيلة للسقوط بيتا ً وملاذا ً سمحت لي به البلدية بعد أن حذرتني من أن البناية قد تسقط في أية لحظة .
تسقط البناية أو لاتسقط , مالذي لديّ أخسره في هذا العالم ؟ لا أم تبكي على رحيلي ولا زوجة سوف تترمل ولا حبيبة تفقد عاشقا ً بإستثناء طبعا ً قطتي التي تشاركني حياتي بنبل وحنان وعاطفة دافئة . أنا محظوظ طبعا ً لأني أملك سقفا ً لا أحد يطالبني بالأيجار في آخر كل شهر . ومحظوظ لأن لا أحد يطالبني بتسديد ديون لم أقترف إقتراضها من أحد , ولا أحد يجازف بمنحي قرضا ً يعرف بأني أعجز عن تسديده ولو في الحلم . لدي بعض الكتب والأشرطة وجهاز كومبيوتر قديم وحين أحتاج لبعض النقود , وهي شحيحة على أية حال , أذهب إلى الكنيسة يوم الأحد وأكون أول المتبرعين بجمع النقود من المصلين الذين لايبخلون على الرجل المصلوب من أجل خطاياهم ببضع دولارات أقسمها بيني وبينه بالعدل والقسطاط . نصفها أدسه في جيبي الفارغ والنصف الآخر يذهب لراعي الكنيسة بوجهه السمح وأبتسامته الملائكية والذي يكن لي ودا خاصا كوني أقدم بعض الخدمات البسيطة وأصلي بخشوع أمام يسوع المصلوب والدموع تترقرق في عيوني حزنا ً على حياة ٍ بائسة ٍ أفكر أن أنهيها مصلوبا ً منتحرا ً مثل الناصري بميتته الغامضة وهو يفكر بالخلود أو في أن يُصبح ُ إلها ً بديلا ً عن إله السماء . في هذه البلدة وطيلة شهور عديدة عشت فيها وحيدا ً منعزلا ً كناسك . لم أنم مع امرأة قط مع سعيي المتواصل في التودد ومحاولة التعرف على بعض النساء إلا أن إفلاسي وحظي العاثر لم يتح لي فرصة التنعم بدفء الحب والنوم في أحضان امرأة تمنحني المتعة والحنان وكنوز الأنوثة وبهجتها الآسرة .
في أحد الأيام مرضت ( لوسي ) وهذا أسم قطتي الجميلة . رفضت تناول الحليب الطازج , ولم تقرب السمكة الصغيرة التي قليتها خصيصا ً لها . كنت أشعر بها تتألم ولا أدري بالضبط ماحصل لها . كانت تموء بصوت خفيض متحشرج كأنه صادر من عينيها الذابلتين . كانت هذه القطة هي كل ما أملك من عائلة أشعر معها بالدفء والألفة والإنتماء للعالم والحياة .
عندما إشتد أنينها وصوتها المتحشرج حملتها وذهبت بها لمشفى الحيوانات . سجلوا في بيانتهم كل المعلومات المطلوبة عني كما لو كنت أنا المريض لا القطة . دونوا أسمي الكامل كما هو في بطاقتي الشخصية , وسجلوا العنوان ورقم التلفون الوهمي كوني لاأملك تلفونا ً وخدمات الإنترنت أحصل عليها بالمجان . تركت قطتي الوديعة بين يدي الممرضات الرحيمة وطلبوا مني زيارتها بعد بضعة أيام . مرت تلك الأيام ثقيلة وأنا قلق وحزين على قطتي .
ذهبت لزيارتها وجاءوا بها إلي وهي ترفل بصحة وحيوية أضفى عليها جمالا ً أخاذا ً جعلني أتعلق بها أكثر من الأول . غمرتهم بالإمتنان والشكر على ماقدموه من رعاية وإهتمام خاص بها . حملتها الممرضة بين يديها وكأنها تحمل طفلة أميرة من العائلة المالكة ولدت للتو . كانت تمسد لها فروتها برقة وحنان لم أحصل عليه أنا في طفولتي البائسة . تقدم مني الطبيب المختص وشرح لي بإسهاب عن مرض القطة , ثم أراني الصور وفيها الإصابة في منطقة المعدة حيث أصيبت بنوع من التسمم جراء أكلها سمكة يمكن أن تكون فاسدة , مما إضطر لإجراء عملية جراحية كانت ناجحة بسبب مهارة الطبيب وممارسته الطويلة لهذه المهنة . بعدها قدم لي فاتورة العلاج وتتضمن مبلغا ً قدره ثلاثة آلاف دولارا ً أمريكيا ً يسمح لي بعدها بإسترداد قطتي وهي بكامل صحتها وحيويتها . فكرت مع نفسي وتخيلت لو أن برقية مستعجلة جائتني من العراق , ومطلوب مني فيها دفع هذا المبلغ وإلا تكون والدتي بحكم المتوفاة .. ماذا بيديّ أن أفعل وقتها وأنا لاأملك ثمن كيلو برتقال أشتهي منذ زمن طويل مذاقه ونكهته اللذيذة .
حدقت بوجه الطبيب المعالج متسائلا ً ..
- ماذا قلت بالضبط ؟
- قلت يجب أن تدفع مبلغ ثلاثة آلاف دولارا ً ثمن علاج قطتك اللطيفة .
- دكتور من فضلك هل سمعت ببلد ٍ يسمونه العراق ؟
- طبعا ً سمعت ُ به ..
- وهل تعلم كم طفل عراقي مات أثناء الحصار بسبب الحرمان من الدواء والعلاج ؟
- بصراحة ليس لديّ معلومات كافية عن الموضوع ..

تعليق



mohager

2013-10-02

حميل جداااااااااااااااااا راءع

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الشلالات تتفتح في دمي

16-آذار-2014

تلتهمك ّ الأيام على مهلها

07-كانون الثاني-2014

إصغاء

14-حزيران-2012

غياب

20-أيار-2012

قصائد قصيرة :

30-نيسان-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow