Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

فرويد كما رآه الشاعر برونو غويتز في مذكراته

فاديا لاذقاني

خاص ألف

2010-05-04


وكأن سيولأ من الانفعالات تدفقت في نفسي بعد حبس
برونو غويتز: (1885_1954)
كاتب وصحفيّ وُلِد في مدينة "ريغا". درس في ميونيخ وفيينّا، وشارك في مخيم الفنانين في مدينة "مونت فيريتا من أعمال إقليم "آسكونا" في سويسرا، حيث كان من أهم ماكتبه هنا "
Das reich ohne Raum. »
الذي يتكون من مشاهد حلميّة.
تعرّف الشاعر الشاب، الذي كان يدرس في فيينا بين عامي 1904 و1905، على فرويد، إذ ذهب لاستشارة طبية لديه، بتوصية من أستاذه الجامعي. وتمت بين الرجلين ثلاثة لقاءات. ونحن ننشر الآن جزءاً من مذكرات غويتز، التي كانت قد نشرت بالألمانية في مجلة سفيتسر ردندشوعام 1952، تلك المذكرات التي يتكلم فيها غويتز عن "فرويد الرجل الإنسان", والتي نشرت بدورها عام 1959 على صفحات مجلة "التحليل النفسي" الصادرة عن "دار نشر فرنسا الجامعاتية".

تدور هذه الأحداث خلال الفصل الدراسي الأول لي في جامعة فيينا، حيث كنت أتابع، فيما أتابع، محاضرات عن "السيكولوجيا" والهندوسية. وفي محاضرات السيكولوجيا، دخلت في علاقة مقربة مع أستاذي. وقد كنت أكتب آنئذ أولى قصائدي التي أعتبرها ذات قيمة ما، والتي كان أستاذي يعير لها اهتماماً خاصاً. وفي هذه الفترة كانت تمرّ بين حين وآخر بي أيام عصيبة، أشعر خلالها بآلام عصبيةٍّ ممضّةٍ في رأسي، آلامٍ لم تجْدِ العلاجات التي كانت معروفةً آنذاك في التخفيف منها إطلاقاً، إلى حدّ أنني كنت إمّا تعاودني أضطر إلى البقاء وحيداً لأيامٍ بل لأسابيع أحياناً، في غرفة مظلمة، إذ كانت أشعة الشمس مهما قلّت تثير فيّ آلاماً لا تطاق. وما لبث أستاذي، الذي كان قد لاحظ غياباتي المتكررة التي مافتئت تزيد عدداً وكذلك ملامحي المريضة، أن استعلم عن حالتي وقال لي ، مادام كل العلاجات التي جربتها لم تساعدني، فإنه يَفترضُ في نهاية المطاف، أن آلامي ليست عضوية المنشأ وإنما هي نفسية، و على هذا فهو ينصحني بلقاء فرويد، وأنه سوف يمهد لديه لزيارتي.

لم أكن سمعت بفرويد قبلئذٍ قط، ولدى استعلامي عنه لدى بعض المعارف، أتاني أنه كان قد كتب كتاباً ذا قيمة استثنائية عن تفسير الأحلام. فرحت، مأخوذا بفضولي، أفتش عن هذا الكتاب ووجدته في مكتبة الجامعة، وقد كان ردّ فعل الأول على قراءتي له أن أخذ مني الرعب مأخذا, فهذه الطريقة التي يتبعها في تفسير الأحلام بدت لي ....مستهجنة، فهي تدمر صورة الحلم نفسها (وهذا ماكان من شأنه أن يصدم حساسيتي كفنان، وخاصةً لدى تصوري لهذا النهج كيف طبقه على القصيدة) وتفسح فمجال الظهور، بعد هذا التدمير، ومن أنقاض الحلم المتناثرة، لمجموعة من الدلالات والمعاني كانت تلقى مني النفور والانجذاب السرّي في آن معاً. وكنت قد اتخذت قراراً بألاّ أخضع نفسي لهذا النوع من الطرائق، حيث أني لم أستطع تصور أنه يمكن لها مساعدتي في آلامي العصبية، إلا أن أستاذي أعلمني، مساء محاضرته، أنه تكلم مع فرويد بشأني وأن هذا الأخير ينتظرني بعد ظهر اليوم التالي. "لاتهب الأمر، قال لي الأستاذ مبتسماً، إنه لن يأكلك، إنه يودّ مساعدتك. وبالمناسبة، لقد سمحت لنفسي أن أعطيه مجموعةً من قصائدك يقرأها."
وهكذا توجهت، اليوم التالي، لفرويد تنتابني مشاعرُ مختلطةٌ مناقضة. وقد نالت مني صباح اليوم نفسه موجةُ آلام مبرحة عصفت بي. وكان الشك يغمرني بقدرة فنّ فرويد العلاجي على مساعدتي. ومع ذلك فإن الأمور أخذت منحىً فريداً. وفي رسالة مني لصديق صباي وصفت تلك الزيارة بالكلمات التالية :
قدم فرويد قبالتي، صافحني بحرارة، ثم رجاني أن أجلس وهمَّ يفحصني. كنت أتأمل عينيه الأنيستين حرارةً، المليئتين اهتماماً، كانتا تعكسان "ميلانكوليا" توحي لك بعمق وخبرة في معرفتها. وفي الآن ذاته، خلت يداً تمر بسرعة على جبهتي...وكأن آلامي قد امّحت. " أوه، قلت لنفسي، هذا رجل يطبّب مثل أولئك الرجال الذين نعثر عليهم في الهند. ليس له ثمة حاجة إلى طريقته، ليس له إلا أن يقول " شبّيك لبّيك" حتى يشعر المرء، في حضرته، بروحه خفيفةَ وصحته جيدة."

إنما هذا، عزيزي، طبيب ليس كسائر الأطباء الذين عرقتهم، لم يعهد لي قط من قبل أن أرى رجلأ على شاكلته! وعلى الفور، نشأت بين جوانحي ثقةٌ مطلقة كل الإطلاق به. أما هو فقد لبث بضع هنيهات صامتاً يبتسم. ثم كان أن قال بلهجة ودّية:
"اسمح لي أن أتعرف عليك قليلاً . لديّ هنا بعض قصائد لك. [أسلوبٌ] جميل جداً، لكنه منغلق. حيث أنك تتخفى، وراء قصائدك بدلاً من أن تجعلها تحملك. اشمخ برأسك عالياً، إذ ليس لديك سبب يجعلك تخاف من ذاتك...والآن، احك لي شيئاً منك عنك. إنه البحر، يعود دائماً وأبدا في ابياتك. أفتريد بهذا التحدث عنه بصورة رمزية، أم ياترى كانت بينك وبين البحر شؤون في الواقع؟ بالمناسبة، من أين أنت؟"

و كأنما تدفقت، إذ زال سدُّها، سيولٌ من الانفعالات في نفسي . وقبل أن أعي مايحدث، وجدت نفسي أروي له حياتي كلها، كنت أروي وأروي، حكيت له عن أشياء كانت حبيسة ذاتي، لم أفه لامرىء ٍعنها بكلمة قط سواك، وما جدوى أن يخفي عنه المرء أي شيء؟ كان كل شيء، في واقع الحال، معروفاً لديه سلفاً.
استمع إليّ قرابة الساعة دون أن يقاطعني ودون أن ينظر إلي. وكان [خلال حديثي] غالباً ما يبتسم، أو يضحك برفق. وهاهو يقول لي :
" فلنلخّص الأمر. كان أبوك قبطاناً ثم مُعلّم بحرية في المدرسة البحرية في ريغا، وقد أمضيت صباك بين البحارة و رجال المراكب. إنما البحر بالنسبة إليك رمز واقعي. ولكن من أين يأتي هذا الجانب الصارم في رؤاك؟
- -أنا الذي فرضت هذا على نفسي، وربما قسوت على نفسي في ذلك قليلاً، أجبت، كنت أخشى أن يذوب كياني في الضياع كلياً.
آه، قال فرويد، ثم أردف بعد برهة توقف : ألم يكن إذن أبوك صارماً معك؟
- كلا، أجبتُ، لقد كان لي خيرَ صديق، ولقد كنا نتفاهم بأقل الإشارات. لم أرو له شيئاً من حكايات حبي السخيفة والتعيسة مع صبية ومع سيدة أكبر سناً، وكذلك الأمر وقت وقعت في غرام بحّار... يا ما تمنيت أن ألهبه بالقبَل. كنت أخشى أن لا يأخذ [أبي] الأمر على محمل الجدية وأن يضحك سخرية مني في سره. أنا متأكد أنه لم يكن ليلومني على شيء. كنت أنا نفسي لا أجد شيئاً ألوم ذاتي عليه، على أنني لم أجرؤ على البوح له بكل هذا، ولا حقاً، عندما جربت [الحبَّ] في الفراش...يعني....أنت تفهمني...
- بالتأكيد، بالتأكيد، همهم فرويد. وقصتك مع ذلك البحار، ألم تزد من حرجك؟
- إطلاقاً، قلت، لقد غرقت في الحب حتى الثمالة. وعندما نكون في غاية الحب، كل شيء يسير على مايرام، اليس كذلك؟
- بالنسبة إليك، هذا مؤكد، اجاب فرويد الذي انفجر بالضحك فجأة. لقد أمسكت بزمام أمورك بيديك، .آه، أمسكت بيديك، كاد هذا الأمر يفلت مني..... وهكذا غدوتَ صارماً تجاه نفسك. هذا مانسميه التربية الذاتية، عندما يربي المرء نفسه بنفسه، وهكذا دواليك في أمور أخرى، مادام ذلك لا يُوتِّر صاحبه.. وأنت لا يبدو عليك التوتر..إن هذا مما تُحسد عليه، لديك فعلاً شعورٌ بالمسؤولية تحسد عليه. هذا ما أصبحت إليه بفضل أبيك. وأمك؟
-أوه، لقد كنت متفاهماً جداً معها هي أيضاً. لقد كانت بروتستانتية، شديدة الإيمان، لكن هذا لم يؤثر بي سلباً إطلاقاً"
وهاهو فرويد يضحك من جديد، ويبدو عليه المرح.
" ما كانت قصة أبيك و "بوسيدون"؟ اروها لي مرة أخرى. لقد كنت أعمل فكري فشردت ذات دقيقة أثناء حديثك عنها، فغابت عن سمعي بعض أجزائها.
- ذات يوم، دخل أبي إلى غرقتي، وكان لي من العمر إذ ذاك إحدى عشرة سنةً أو اثنتا عشرة، توجه إليّ، وضع على الطاولة [كتاب] "ميثولوجية موريتس". لقد كان يتعجب قليلاً من كوني، جرياً وراء رغبة أمي، كنت أقرأ كثيراً في الكتاب المقدس آنئذ. " اقرأ أيضاً أحياناً بعضاً من هذا الكتاب، يا ولدي، قال وهو يضع كتاب موريتس، فهاهنا حكايا تشبه أقاصيص الكتاب المقدس. ولعلها تفوقها جمالاً. هل تعرف؟ نحن أهل البحر، نحن نؤمن بأشياء أخرى. بوسيدون، إلى غيره...." ولم يعد أبي قطّ إلى ذكرهذا الكتاب الذي بالكاد أوصاني بقراءته، لكنه [أبي]، أضحى حاسماً وأساساً لحياتي كلها ولتفكيري كله...
-بوسيدون، إلى غيره...ظريف، ظريف، قال فرويد. أجل، البحر... ياصديقي العزيز غويتز، لن أقوم بتحليلك، إن "عقدك" سوف تحمل لك السلام والخلاص. على أنني سوف أصف لك دواءً سيعود بنفع لآلامك العصبيّة."
وجلس في مكتبه وراح يكتب وصفته. وخلال ذلك سأل، كما لو أنه يفعل بالصدفة : " لقد جاء إلى علمي أنك عديم الرزق عملياً وأنك تعيش على الكفاف. أهذا صحيح؟"
وشرحت له أن راتب أبي كمعلّم بحرية لا يسمح له أن يدفع تكاليف دراستي، كوني أحد خمسة أبناء له، ومن ثمة توجب عليّ أن أعتمد على نفسي وأن أعيش من موارد الدروس التي أعطيها وبعض المقالات التي أنشرها بين حين وآخر.
-نعم، قال فرويد، لصرامتك تجاه نفسك بعض المحاسن. على أنه عليك فقط أن تنتبه ألا تغالي في ذلك. متى كانت آخر وجبة "بيفتيك" تناولتها؟
-منذ أربعة أسابيع، على ما أظن.
-هذا ما قدّرته على وجه التقريب، قال وهو يهمّ بالنهوض. إليك إذن "وصفتك" ثم أضاف بضعة نصائح عن الحمية، وإذا به فجأة يُحرَج قليلاً، ..." أرجوك ألا تأخذ الأمر على محمل السوء، إنني طبيب متقدمٌ واسعُ الحال وأنت بعد طالبٌ شاب. هل تعمل معروفاً وتقبل هذا الظرف، فتسمح لي ألعب دور أبيك اليوم؟ ثمناً صغيراً للبهجة الذي بثّتها بي أشعارك وقصة صباك. وداعاً، وأعلمني متى ترغب بالعودة. صحيح أن وقتي مشغول دائماً، لكن باستطاعتي أن أخصص لك نصف ساعة أو ساعة. إلى اللقاء القريب"
وهكذا انتهى لقاؤنا. وتخيل، لما فتحت الظرف في غرفتي، وجدت فيه مائتي كوروناً. لقد أخذ بي التأثر كلًّ مأخذ، فرحت أجهش بالبكاء عالياً"

" ذكريات عن سيغموند فرويد" من "أحكام وشهادات"، نص قدم له رولان جاكار.
صدر عن دار نشر فرنسا الجامعاتية"، سلسلة " آفاق نقدية"، 1976
×××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف



تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

كل هذا الخوف السوري

22-نيسان-2013

هل أتاك حديث الصور؟... حديث القتل في سورية؟

10-شباط-2013

لجميل حتمل في ذكرى نومه الطويل: اثنتا عشرة قرنفلةً وستّ

09-تشرين الأول-2012

بيضة مسلوقة

15-حزيران-2010

فرويد كما رآه الشاعر برونو غويتز في مذكراته

04-أيار-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow