Alef Logo
يوميات
              

هكذا تكلم أبو طشت / ج 3..زمن البودرة

حسان محمد محمود

خاص ألف

2010-07-24

خالف أبو طشت رغبة والده في الانتماء إلى الطب البيطري، وعلى الرغم من امتلاك أبيه الكثير من الأبقار التي تحتاج رعايةً و تطبيباً؛ فقد قرر الانتساب إلى الطب البشري، إيماناً منه بأن البشر أهم من البقر.
هكذا، بدأت رحلة أبي طشتٍ مع الدراسة، وسط حنق والده و عدم رضاه على ابنه الذي لم يراع رغبته في الاستغناء عن الطبيب المعتمد لرعاية أبقاره، والتخلص من غبائه و جفاصته و نفسيته الحامضة التي إن وصفتها لأصابت الحساسية النفساوية الكثير من الأطباء البيطريين... وغير البيطريين.
قال أبو طشت: الطب البشري أهم من البقري.
و أقلع، فكان الأول في دفعته، و ها هي (سنة التخرج) تنبئ بما أنبأت به السنوات الخمس السابقة، و لسان حال أقرانه يقول:" جاء من البرية وأخذ الأولية".
مات والده، وكانت كلماته الأخيرة في هذه الحياة وصيةً لأولاده نصها: اهتموا بالبقرات!
بعد هذه الوفاة؛ سيطرت على ذهن أبي طشتٍ فكرة أنه أنانيٌّ، و لا يمتلك صفات الابن الصالح، و أخذت تتنازعه الهواجس و الشكوك بمدى رضى المرحوم عليه، لكن ذلك لم يمنعه من اجتياز معظم مراحل فحص التخرج بتفوقه المعهود، ولم يبق أمامه إلا امتحان مادة الجراحة ليصير طبيباً (بشرياً).
ليلة الامتحان الأخير لم يغمض جفنه..بكى.. انتحب، ثم ساقته حالة التفجع إلى تذكر والده و رغباته، و دهمته مشاعر تحتاج مائتي فنانٍ تشكيليٍّ وخمسمائة روائيٍّ وثلاثة آلاف موسيقيٍّ كي يعبروا عن ذرةٍ من إحساسه بالتقصير تجاه بقرات العائلة.
ولأن لكل صراعٍ نهاية، سطر الطلب التالي:
أرجو الموافقة على إلغاء قيدي من كلية الطب البشري وتسجيلي في كلية الطب البيطري علماً أن مجموع درجاتي في الثانوية العامة يؤهلني لدراسة هذا الفرع.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
استيقظ أبو طشت على صوت زميله الذي أتى كي يرافقه إلى الامتحان (الأخير)، و عندما سمع الزميل قراره؛ فغر فاه فغرةً لم نفغرها حتى عندما حلت الساعة الثالثة و النصف من يوم 11/9/2001.
الزملاء الذين توافدوا إلى غرفته اتهموه بالغباء و الجنون، حتى أن أحدهم شارف على صفعه، وكان كلٌّ منهم يدلي بدلوه في حملة الإقناع الشرسة التي شنوها:
قال أحدهم:
ـ أنت كمن يرفض اجتياز خط نهاية السباق، خطوةٌ واحدةٌ و يعلن انتصارك وفوزك، خطوةٌ لا أكثر...
صرخ آخر:
ـ تخيل أن لاعباً في مباراةٍ نهائيةٍ في كأس العالم ينفرد بالمرمى الخالي من حارسه و يخرج الكرة قصداً إلى خط التماس!!! يا أخي أنت مثل من يمزق نمرة يانصيب ربحت الجائزة الكبرى..معقول؟!
زير طالبات:
ـ أنت كمن تعذبه فتاةٌ، ما أن ينجح في (تطبيقها) و بدل الذهاب إلى أول لقاءٍ معها؛ يقرر البقاء في البيت كي يتفرج على برنامج الحرفيين أو مع العمال.
وهكذا استمروا و قد تعالت أصواتهم، وحمي وطيس جدلهم، حتى أثنوه عن عزمه، وساقوه مكبلاً بتقريعاتهم إلى الامتحان...الأخير.

دخل أبو طشتٍ غرفة الفحص، فوجد أمامه كبار جراحي الكلية، مبتسمين ترحيباً به، وقد جهز كلٌّ منهم أسئلةً خاصةً له، أليس الأول على دفعته؟ و هل يمتحن الأول كما يمتحن الباقون؟
بالمقابل، حضر أبو طشت أجوبته على أسئلتهم، وكانت كلها متشابهةً، بل متطابقةً، و تتألف من حرف النفي (لا) و الفعل(أعرف)، إذ تبين أنه جامل زملاءه، و أتى إلى الامتحان هرباً من إلحاحهم، مبيتاً إصراره على الرسوب.
وكان أن فعل ما نوى، و بعد أن أجاب على أسئلة اللجنة بجملة (لا أعرف) خرج منتشياً باتجاه ديوان الكلية، و تقدم بطلب تغيير اختصاصه، ثم غادر إلى القرية منهياً امتحانه بالطريقة التي يفرضها عليه رأسه اليابس، وبما يرضي والده ...و بقراته.
وصل أبو طشت إلى قريته و السلام الروحي و الطمأنينة يجتاحا كيانه، كمن أزيح عن كاهله عبءٌ عظيمٌ، والابتسامة العريضة التي باشر بها أخوته سرعان ما تبددت عندما أجابوا سؤاله الملهوف عن البقرات بكلمة:
ـ بعناها.
ـ بعتموها؟!
ـ من يومين، و دبحوها الناس و أكلوها، و بثمنها فتحنا دكان ...
إذن، تحولت البقرات إلى فضلاتٍ خرجت من مؤخرات الناس، أما مؤخرته فقد هرعت كي تستقر على مقعدٍ من مقاعد البوسطة، عله يلحق بطلب تغيير فرعه...فيسحبه.
هناك، وجد إعلاناً يطلب منه مراجعة عميد الكلية، فذهب مقلباً في رأسه شتى المبررات التي سوف يطالبه بها العميد تفسيراً لقراره تبديل فرعه، فاكتشف أنه لم يكن بحاجة أيٍّ منها، لأن العميد بادره بالتهنئة على تخرجه، وتفوقه، وخصوصاً نيله الدرجة الكاملة في مادة الجراحة، أي 100% ، ما وضع أبا طشت في دوامة حيرةٍ و ارتباكٍ لم يحسب أنه سوف يقع فيها مذ ضبط أحد أخوته يمارس الفعل المنافي للحشمة في الزريبة مع الحمار.
قال العميد:
ـ إجاباتك على أسئلة لجنة الجراحة كانت صحيحة، اللجنة قررت أن تميز امتحانك عن الباقين، فسألتك أسئلةً لا إجابة عليها، وقد سررنا لأنك أجبت وفق قناعتك ولم تحاول اختراع إجاباتٍ كي تبدو عارفاً.
حاول أبو طشت أن يتذكر تلك الأسئلة فلم يفلح، فقد كان شارداً أثناء الامتحان يفكر بتلك الورقة التي وضعها في جيبه و فيها طلب تغيير اختصاصه.
تابع العميد مادحاً ذكاء أبي طشت:
ـ في الطب البشري؛ من يقر بجهله خيرٌ ممن لا يقر، الخطأ مع المرضى قد لا يمكن تصحيحه...ضحكنا كثيراً على طلبك تغيير اختصاصك إلى الطب البيطري، كان احتجاجاً ظريفاً منك على أسئلة لجنة الامتحان الغريبة...يا بني أنت فيلسوفٌ.
و هكذا، أضحى أبو طشتٍ طبيباً، وحاز لقب الفيلسوف الذي لازمه طيلة حياته المهنية.
و يبدو أن جنونه لم ينسه حزنه على بقرات أبيه، إذ كلما أتت سيارة العصفورية كي تأخذه يرمق أخوته ساخراً و يقول:
ـ مبروك عليكن حليب البودرة.
في جنازة أبي طشتٍ حضر الكثير من الأطباء، و إن سألت أحدهم عن كيفية موته؛ أجابك:
ـ لا أعرف.
حسان محمد محمود
[email protected]
×××××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر ــ ألف


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

المتة إن عزت

05-أيلول-2020

قصة مقالة عن أدونيس

23-أيار-2020

ضحكة فلسفية

04-نيسان-2020

هكذا تكلم أبو طشت ـ جزء 6 المرأة التي قتلتها مؤخرتها

21-أيلول-2019

هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي.

14-أيلول-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow