Alef Logo
يوميات
              

هكذا تكلم أبو طشت/ج أخير..كيف مات أبو طشت

حسان محمد محمود

خاص ألف

2010-07-28


نحن المجانين صنفان: طلقاء في الشوارع، و مسجونون في العصفوريات، وكما تلاحظون؛ هو تقسيمٌ قسريٌّ مفروضٌ علينا و لا يد لنا فيه، إذ لا نعرف متى وكيف يقرر العاقلون تغيير تصنيف أحدنا.
طبعاً معاناتنا كبيرةٌ جراء ذلك، وخصوصاً لناحية انقطاع أخبار المحتجزين في العصفوريات، و لعل أوضح مثالٍ عن هذه المعاناة ما أصابنا في قضية إعدام (أبي فلينة)، و دور (أبي طشت) فيه.
فمن هما أبو فلينة و أبو طشت؟
(أبو فلينة) إنسانٌ تخافه النساء العاقلات، لأنه فجأةً يبصق عليهن في الشارع، و يمشي خلفه الأولاد لسببين: ليرجموه و يغنوا له: "خلي بنتك فلينة تسكر لنا القنينة"، و كي يلتقطوا علب السجائر التي يرميها، فقد كان يسرق علب الدخان من دكاكين العاقلين، مستمتعاً بفتحها و تدخين سيجارةٍ واحدةٍ منها فقط، و من ثم يرمي بالعلبة إلى الطريق بسيجاراتها التسعة عشر الباقية.
أما (أبو طشت) فقد فقس جنانه على السير في الطرقات حاملاً معه ولاعةً يشعل بها شعر لحيته الكثّ مقابل بدلٍ نقديٍّ مبلغه خمس ليراتٍ يعطيه إياها العاقلون الذين يهوون حرق اللحى.

دخل الإثنان إلى العصفورية، و بعدئذٍ ـ بحوالي الشهر ـ مات (أبو فلينة).
أعدم شنقاً، و بموته ارتاحت النساء العاقلات، و خسر الأولاد المدخنون سراً عن أهليهم مورداً مجانياً هاماً لتأمين احتياجاتهم التدخينية، و فقدنا نحن المجانين زميلاً مميزاً بطريقة تعبيره عن مكنونات نفسه المجنونة.

سمعنا بخبر إعدام أبي فلينة، ولجهلنا أسباب ذلك و حيثياته؛ نعيناه باقتضابٍ، محجمين عن اتخاذ موقفٍ تجاه الحدث، إذ لا يمكننا ذلك لأن فيه مغامرةٌ بخسارة مصداقيتنا عند مجانين العالم بأسره.
شمل الحزن على (أبي فلينة) جميع المجانين، لكنه كان حزناً مشوباً بالحذر، فالجميع يتساءل عما إذا كان موته مشرفاً أم لا، وهذا توجسٌ لا ينهيه إلا معرفة سبب إعدامه.
تضاربت الأنباء حول القضية، و تناقضت الروايات، فمنها من يؤكد أن خصومنا العقلاء أعدموه، و هذا إن صح؛ كان بعرفنا موتاً مجيداً يحسد عليه، و منها من قال أن زملاءنا المجانين أعدموه، وفي هذه الحالة لن يكون موته محترماًً، لأن هذا يعني اقترافه ذنباً موجباً للإعدام.

أثناء الجنازة وبعدها لم يكن أكبر من حزننا غير حيرتنا و لهفتنا لمعرفة سر الإعدام وكيفية حصوله، وهذا أمرٌ كانت دونه صعوباتٌ جمّةٌ، فزملاؤنا في العصفورية كانوا عملياً تحت ولاية إدارتها، أي أنهم خاضعون لسلطة العاقلين و قوانينهم، ما يعني حقنا الكامل و المطلق بالشك في أية معلومةٍ تصدر عنهم، خصوصاً أن عمليات غسل أدمغة المجانين هي من أبرز مهام هذه العصفوريات.
لم يكن أمامنا إلا تسقّطَ الأخبار لرسم صورةٍ واضحةٍ عما يشغل بال جميع المجانين الطلقاء، لذلك كنا كلما خرج أحدٌ من العصفورية نستدعيه و نستنطقه، وللأسف؛ كانت المعلومات التي جمعناها غير كافيةٍ لتشكل نسيجاً مترابطاً مقنعاً، وجيب عن السؤال الكبير: ما سبب إعدام أبي فلينة؟
فالبعض منهم لم ير، بل سمع، و عندما نقل ما سمعه إلينا زاد عليه و حذف منه ما أملته حالته العقلية غير الموثوقة بسبب قيام العاقلين باللعب فيها أثناء وجوده في العصفورية. البعض الآخر ادعى علمه بالموضوع من طقطق حتى طقطقة عظام رقبة أبي فلينة تحت المشنقة، و عندما نسأله عن تفصيلٍ ما؛ كان يأخذنا في متاهاتٍ هذيانية لا أول لها و لا آخر، وكان هذا أمراً طبيعياً و متوقعاً، ففي نهاية الأمر كنا ندرك أن المتحدثين مجانين خرجوا حديثاً من العصفورية، و بالتالي هم خاضعون نفسياً لما يمكن تسميته (صدمة التحرر من العصفورية).
في كل حال: برغم الثغرات الكبيرة في مصداقية زملائنا؛ فإن المعلومات التي استطعنا الحصول عليها منهم كانت مفيدةً، لأننا بعد أن غربلناها أجرينا بعض التقاطعات و التحليلات عليها، ما جعلنا نمسك طرف خيطٍ مهمٍّ قد يؤدي إلى اكتشاف الحقيقة: لقد أعدم (أبو فلينة) لأنه سرق سيجارة.

توالت و تعاظمت ضغوط المجانين علينا لاتخاذ موقفٍ تجاه ما أصاب (أبا فلينة)، والقضية أخذت تكبر مثل مزبلةٍ يبدأ تكونها بكيس قمامةٍ يضعه أحد العاقلين، فلا تلبث الأكياس تتكاثر، ثم تتناثر محتوياتها، ومع كبرها ـ القضية ـ كان يتعاظم إحراجنا؛ ما اضطرنا إلى إصدار بيانٍ أكدنا فيه اهتمامنا وحرصنا على متابعة الموضوع، والتزامنا بمسؤولياتنا تجاه المجانين، و وعدناهم بكشف النقاب عن حيثيات الإعدام فور تحققنا منها، لافتين إلى أن التعتيم الإعلامي المحيط بالحدث ناجمٌ عن وقوعه في عصفوريةٍ من عصفوريات خصومنا العاقلين.

أخيراً جاء الفرج، فأبو طشت من العصفورية قد خرج، ما يؤذن وينبئ بزوال الحرج، ولعلمي بأنه كان من الملازمين لأبي فلينة؛ استدعيته، فأتى.
أعجبتني طلته، إذ كنت تلمح طبقاتٍ سوداً على وجهه المجعد، أما لحيته فتبعث فيك انطباعاً بالارتياح الممزوج بالإلفة الجنونية لشدة شعثها وتغلغل الغبار بين ثناياها وانسياب البصاق عليها، و أكثر ما شدني في مظهره طول أظافره والسواد القابع تحتها، و زيادةً في الأناقة رش كمياتٍ مضاعفةً من زيت الكاز على شعره و ثيابه، وهذه المرة أضاف البنزين، ربما بدافعٍ من إدراكه لأهمية لقائي به، و ضرورة تميز رائحته في هذا اللقاء عما عداه.

ـ هيا يا أبو طشت! (بمعنى أن كلامك سيكون كرفعت الأقلام وجفت الصحف).
فقال:
( كنا قاعدين بالعصفورية، انسرقت سيكارة لواحد، طبعاً شكينا بأبو فلينة، لأنو بحب الدخان كتير، فتشناه، ولقيناها معو.
انعقدت المحكمة، واعترف فيها بالسرقة.
محامي الدفاع طلب العفو عن (بو فلينة) ، وقال للقاضي: "سيدي القاضي لقد سرق بو فلينة سيكارة لأنه كان خرمان".
ممثل النيابة طلب الإعدام، وقال: " من يسرق سيكارةً، يسرق ريجةً "... (الريجة هي معمل التبغ).
وحكموه إعدام، ربطنا لفحاتنا وعلقناها، وجبنا شيخ، سأله عن آخر رغباته، فترجانا أن نسمح له بتدخين السيكارة التي سرقها، و بعد أن دخنها شنقناه، هاي كل القصة.).

إزاء ما رواه (أبو طشت) خشيت على نزاهة المحاكمة، و راودتني الشكوك بتدخّل العقلاء فيها، فسألته:
ـ هل تدخّل أحدٌ من إدارة العصفورية في عملكم؟
ـ لا ..كانوا مشغولين، لو شافونا كانوا أكيد تدخلوا.. دكتور بيعرف القاضي بيضغط عليه بجلسة كهربا.. وممرض بيعرف النيابة بيرشيها بإبرة مخدر .. عملنا كل شي بشكل سري و نزيه وما خلينا حدا يتدخل.
سكت قليلاً، ثم أرسل نظرةً حادةً إليّ وقال:
ـ أنا أبلغت عنه، لأنو مو ناقصنا حرامية.

قال جملته تلك وهب واقفاً يريد الانصراف، معتذراً عن ضيق وقته لأن عليه المغادرة إلى الصين لتوقيع عقد صفقة استيراد مصابيح محروقةٍ كما قال.
وكان هذا لقائي الأخير بأبي طشت، لأنه فور خروجه من عندي طلب منه أحد العقلاء إشعال لحيته مقابل خمس ليرات، فهبت النيران في جسده بفعل زيت الكاز و البنزين اللذين رشهما تعطراً وتزيناً لمقابلتي، و مات، منجزاً بذلك (هولوكوسته) الخاص.

ولم تنته بموت أبي فلينة وأبي طشت المشاكل.
فقد ارتفعت أسعار المصابيح المحروقة، بسبب عدم توقيع عقد استيرادها، و مازالت سرقة السجائر متفشيةٌ في العصفوريات، و ما زلنا ننتظر القبض على السارقين و محاكمتهم.
حسان محمد محمود
[email protected]

نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر ــ ألف












تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

المتة إن عزت

05-أيلول-2020

قصة مقالة عن أدونيس

23-أيار-2020

ضحكة فلسفية

04-نيسان-2020

هكذا تكلم أبو طشت ـ جزء 6 المرأة التي قتلتها مؤخرتها

21-أيلول-2019

هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي.

14-أيلول-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow