Alef Logo
كشاف الوراقين
              

خالد درويش في "موت المتعبد الصغير" الانتصار بالحلم

صباح القلازين

خاص ألف

2010-11-29

حين التقيت خالد درويش للمرة الأولى في رام الله، في كفتيريا سيناترا كان رقراقا كصفحة نهر، وديعا كسرب قطا. يترك فيك أثرا لا يمحي، خاصة حين يتحدث إليك بهدوء وبعمق. معرفته بخفايا الأبراج استوقفتني مليا، وحين قرأ لي خبايا برجي/ السرطان أثارت دقته استغرابي، وململ أسلوبه في التعبير مشاعر إعجابي. كانت نظراته عميقة وذكية وهادئة في آن معا، وكلماته تغوص عميقا بهدوء وتتركني مرتبكة كورقة شجر في حضرة الريح.
كان يتحصّن في برزخه العالي ويشيع فيّ عماءه المشبع بالرؤى، ثم يحملني في مركب لغته الشيقة إلى دهاليز طفولته، هناك في المخيم الذي شبّ بين جدران أزقته الضيقة التي تعج بالحنين والشقاء، مستدعيا، عبر مونولوج منساب عالما ثريا يراوح بين براءة الطفولة وعنفوان المراهقة.
بعد اللقاء الأول أهداني خالد روايته التي كانت قد صدرت للتوّ. أن يهديك رجل كتابه يعني ذلك أنه يمنحك مفتاح دهاليزه السرية، وقلاعه الموصدة. ويدعوك للتجول في سهول ومنعطفات عمره الشارد عنه،عن طفولته، عن فوضاه، وضوئه، وعتمته، ورائحته، وبقاياه. تسير وئيدا بين الكلمات؛ فتستوقفك كل نأمة، كل التفاتة، كل خلجة، وكل رفة عين.
"أنا لست أنا، أنا طيف الولد الذي كنت ومات بالحمى".
هكذا يهيئ خالد درويش، الروائي والشاعر الفلسطيني أذهاننا ومشاعرنا لنستقبل أول غيثه في مضمار الرواية؛ "موت المتعبد الصغير" التي صدرت العام الماضي في رام الله عن "المؤسسة الفلسطينية للنشر-جهات". هكذا يبدأ، ثم يتحدث بإسهاب عن طيف سكنه لفترة وجيزة حينما كان برعما غضا لا حول ولا قوة له....، إذا، إنه الـ "أنا" التي طرأت عليه ذات يوم، الـ "أنا" التي أرادها الآخرون له، لا أناه هو.
بطل رواية موت المتعبد الصغير عبارة عن حلم نما ذات لجوء تحت زينكو بيت في مخيم النيرب، وداهمته الحمى ذات مساء وطوحت به، فإذا هو نزيل برزخ بين الموت والحياة. صاغ أفكاره معتقداته ورؤاه بين جنبات هذا البرزخ؛ صاغها من طينة الواقع الرث المتهالك مستلهما واقع اللجوء القاسي، ليصل بإيمانه وقوة قلبه، بعد معركة شرسة مع الحمى (واقع المخيم ووقع ثوابته الصلدة على قلب المتعبد الصغير) إلى خلاصة يقينية مفادها، أن الحياة هدية ثمينة، وينبغي تحقيق فصولها على نحو يليق بها، بعيدا عن سطوة العقائد وتصلب الفكر ورعونة التقاليد الآسنة.
كان الطفل خالد يعيش في برزخ على هامش الزمن؛ لا حياته حياة، ولا موته موت. يسير بين سطور روايته مكتظا بالحرمان والمرارة، باحثا بلهفة عن الدهشة والجمال. كان كمن يفتش عن الزهر العزيز في حقول الشوك المترامية:
"....وأنا، ما الذي أفعله هنا، في هذا البرزخ.بين الحياة والموت!. هل قتلني غياث!، هل أنا ميت!. ولكنني ما زلت قادرا على التذكر: اسمي خالد، واسم أمي هند، وعينا حبيبتي عسليتان. إذا أنا حيّ، لان الموتى لا يتذكرون. وأنا ما زلت أشعر بالألم؛ أطبقت أسناني عل شفتي فتألمتُ...والموتى لا يتألمون. وأنا مازلت قادرا على الفرح برؤية النار والماء والأحباب..فهل يفرح الموتى؟."
هكذا ينهي المتعبد الصغير مسيرته المتداخلة، الثرية بوقائعها، رافعا ذكرياته وأرقه الخلاق وألمه الجميل وفرحه الذي لا ينضب فوق واقع آسن بالقهر والكذب والنفاق.
حياة الموت، وموت الحياة. جدلية تسيطر منذ الصفحات الأولى للرواية، وتمسك بوقائعها، وتفتش عن الخلاص، خلاص الروح مما علق بها من براثن، وتوق الجسد للتفلت والانعتاق عبر الحلم والتسامي..ألا يذكرنا هذا بكل ما نحن عليه وبالصيغة الزاهية التي نحلم أن تكون حياتنا على شاكلتها!.
لقد طوع خالد درويش على مدار صفحات روايته التي تقارب المائة، طوع اللغة فانقادت له ببراعة لا يضاهيها سوى قدرته على التعبير عن هذا المكنون الثري الذي يعتري برهة من حياة صبي وهو يودع براءة الطفولة ويدلف في التباسات المراهقة بهذه الكثافة، وبهذه السلاسة التي جافت السرد الممل والمباشرة التي اعتدنا عليها في الكثير من الروايات الكلاسيكية. فاللغة عنده هى القدرة على الخلق والابتكار والادهاش, القدرة على جذب القاريء المعاصر النزق الذي لم يعد يروقه غير ما يستحوذ على جوارحه ويشاغل ذهنه, بلغة كهذه اللغة القادرة على الامساك بتلابييب الشخوص واستدراجهم الى كمين الجمال المعد لهم باحكام.
اللغة هنا، في "موت المتعبد الصغير" هي أحد الأبطال الواضحين. انها تتجلى مثل انثى حرة تأتي بملء ارادتها, لا يملي عليها احد أفعالها, بل تملي علينا، تفرض ذاتها على ساعات انشغالنا بها بكل أبهة وجدارة, وهي هنا صلب النص، وربما بطلها الرئيس. لقد استنفر الكاتب في هذا العمل مخزونه الالغني المتراكم في ميدان الشعر, فخدمته شاعريته في ان يلج معمعان النص بحرفة عالية، فكانت لغة السرد رشيقة كغزالة, تخطر فوق العشب فلا تجرح الندى, وظفت توظيفا حكيما, تركها تمارس طقوسها الانثوية على الورق بكل اريحية, لتكون امرأة عاشقة تهب نفسها لحبيبها, فتنبجس عيونا رقراقة على شراشف اللغة المتمنعة.
"تتعب السحب من اللهث وراء القمر. تتجمع في بقعة من السماء هدأت فيه الريح كأنها جياد بيضاء تستكين الى ضفاف الجداول".
وكأن الكاتب هنا يبحث عن (أناه) بين (هو) الاخر المتجهمة التي تلوح بقبضتها كلما زلت قدمه عن جادة "الصواب" التي يسيرنا عليها الآخرون.
في مخيم النيرب ينمو الفتى الحالم ويتأرجح بين المسجد- بيت الله والقلب- بيت الحبيبة ندى, في ظرف مشحون بالبؤس والحنين الى الوطن البعيد؛ عين على الجنة وعين في النار, عين على فلسطين الحلم العصي وعين على الواقع المغرق في التعاسة والذي ينشب أظافره الغليظة في المشاعر وفي الحلم وفي التوق الى الانعتاق. فالواقع المتجسد في المخيم ينكر على الفتى حلمه في الميل نحو (الندى) الذي بدأ يتعربش فضاءات قلبه الصغير, ويداهمه على حين غرة كلما اختلى بقلبه في السواد المطبق حوله. كان في زمن يفتح النار على كل بشارة وكل ونبي. الحب هو الجذام المرذول, وباسم الدين قتلت اسيا ووداد وامينة، ولكن البطل المكلوم يقف عند مقتل آسيا بشيء من التفصيل, ينحاز الى فجيعتها, يرى، ويرينا في موتها حرية وانعتاقا من أسر المخيم ,وترديه في ربقة التقاليد الاسنة. يقول عن اسيا التي قتلها ذويها دفاعا عن شرفهم "المطعون"، وبطواطؤ الحشد الباحثين في مشهد الدم عما يكسر رتابة ساعاتهم:
"...تحول قلقها الصغير الى احساس بالحرية. اخذت تنظر الى الناس من ابراج موتها العالية، وتخطو كغزالة في طرقات موتها- حريتها الواسعة".
كان الطفل العاشق يطارد نداه فوق العشب وعلى حيطان الدور المتداعية, ويرسم علم فلسطين على جدار بيتها عله يحظى ببرهة يقف فيها بين يدي الحبيبة. فهل كانت فلسطين ذريعة للوصول الى الحبيبة، أم أن الحبيبة هي الدرب الموصل الى فلسطين. هذا التداخل البسيط ذو الدلالات البعيدة نراه بنفس الزخم في الجدلية القائمة بين الله والحبيبة، لنقرأ:
"كانت ندى تجاور الله في وجداني، وكنت ناجحا في التوفيق بين ميولي نحوهما على نحو يمنحني السلام والاطمئنان. له الايمان وطقوس العبادة ولها رفيف القلب. ولكنها، رويدا رويدا بدات تزاحم الله في فؤادي".
ختاما، ولا أجافي قناعتي إذ أجزم بأن رواية "موت المتعبد الصغير" هي رواية استثنائية بكل المقاييس، بما تقترحه من اسلوب سردي جديد ورؤية نافذة مصاغة بلغة دفاقة. وهي رواية مغايرة لكل ما اعتدنا عليه من أنماط روائية معهودة، حيث يلتحم فيها الوطن بالحب،المنفى بالجنة، والحلم بالواقع. كل ذلك في سديم لغوي شاعري متصاعد نحو الحرية القصوى، نحو الحياة المحمولة على المعاني.
فبعد الصراع المرير مع الحمى والخوف والبؤس، بعد الموت الكثير الذي يعتري صفحات الرواية يقف "المتعبد الصغير على تخوم مدفنه منتصرا في نهاية الملحمة قائلا: "وقفت بأول درب الحياة كان طريقا شائكا وعرا وقررت ان امشى فيه تاركا الرجل الصغير في مدفنه".

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

شظايا بوح من غزة

25-تشرين الأول-2011

أربعون حرفا أربعون معراجا

05-كانون الثاني-2011

سقط متاع

02-كانون الثاني-2011

رشفة إغواء صباحية إلى فرات أسمر سيدة الفرح والحزن

22-كانون الأول-2010

إنهم يقتلعون الحب من بلدتي

11-كانون الأول-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow