Alef Logo
يوميات
              

الجمالُ في دير العذراء

فاطمة ناعوت

2011-01-28

دعوة طيبة وصلتني قبل شهرين، لإلقاء محاضرات حول "الجمال"، في دير العذراء سيدة البشارة بكنج ماريوط. رحّبتُ دون تردد، رغم أن الندوة تزامنت مع أيام عيد الأضحى. لأنها الأجازة الرسمية التي تتمكن فيها الراهباتُ من الحضور، وترك رسالتهن الميدانية النبيلة في المدارس والمستشفيات والجمعيات الأهلية. رحبتُ بكل فرح، بما أن البحث عن الجمال هو خطُّ اهتمامي الأول. على أنني، بمجرد أن أخذتُ مكاني على المنصة، أمام حشد الراهبات، ضربتني الرهبةُ، ونسيت كلَّ ما احتشد به رأسي من كلام! "ما الذي فعلتِه بنفسك يا بنت؟!" هكذا قلتُ لنفسي. هل جئتُ للكلام عن الجمال، في معقل الجمال! همس نزار قبّاني في أذني: "الصمتُ في حرم الجمالِ، جمالُ." وجوهٌ مرَّتِ عليها السماءُ بريشة الطُّهر والجمال البكر، ففاضت بنور ينبع من العمق. فهل من اليسير الكلامُ عن الجمال نظريًّا، أمام لوحة من الجمال الحيّ؟ ضاعف هذا من صعوبة الكلام عن شيء، هو في الأصل عَصيٌّ على التعيير والتعبير، اسمه الجمال. على أنني تكلمت بما منّ اللهُ به عليّ من أفكار حول الجمال، تكوّنت لديّ عبر قراءاتي، وعبر تأملاتي الشخصية. وتكلمنا حول الكتاب الجميل، "كُنْ إنسانًا" للأب كيرلس تامر، الذي يطرح كيف يمكن للمرء أن يكون "إنسانًا"، بكل ما تحمل هذه المفردة من قيم. كان الحضور راقيًا، والحوار والأسئلة لا تأتي إلا من عقول أمعنت التأملَ في سؤال الوجود، فاختارت المعادلةَ الأرقى: "بالجمال وحده ننقذُ العالم"، كما قال تولستوي.
جاء من الإسكندرية الصديقُ النبيل: ماجد عبد الفتاح، ليهدي الديرَ، باسم أسرته، لوحةَ "زكّا العشّار" التي رسمها والدُه الفنان الراحل أحمد عبد الفتاح. فصنع بهذا لفتةً رفيعة رسمتِ الفرحَ على وجوه الحضور، وعلى وجه السماء، أيضًا.
في صباح اليوم التالي، حضرتُ معهن الصلاةَ والقداس، فهالتني لوحةٌ أخرى من الجمال الحيّ. خشوعٌ حقيقيّ، وترانيمُ عذبةٌ تذيبُ القلبَ حبًّا للكون ولخالق هذا الكون. "نُصلّي لإخواننا أصحاب الديانات الأخرى، ليحيوا عمقَ إيمانهم، حسب قصد الله. نُصلّي من أجل كلِّ إنسان يمارس العنفَ باسم الدين، ليكتشف غِنا وعظمة حب الله." سمعت الراهبات يقلن هذا، وقرأته في كتب الترانيم، الموضوعة أمام كل مقعد، بما يعني أن دعواتهن الطيبة للمسلمين جزءٌ أصيل من صلواتهن اليومية وقداسهن، وأنهن لا يبخلن بالدعاء حتى لمن قسا قلبُه.
على أن إتقانهن الصلاةَ، لا يَجُبُّ حياتهن بنفس مستوى الإتقان. واللهُ يحبُّ من البشر مَن يؤدي بإتقان أعماله كافة. هكذا الأوربيون، والجنوب شرق آسيويون، وهذا سرُّ تفوقهم. وهكذا الراهباتُ أيضًا. لذلك نُشيد جميعُنا بالتعليم الراقي في مدارس الراهبات. تأملتُهن في مطبخ الدير، يعددن الطعامَ لمائة إنسان، كأنهن خليةُ نحل نشطة، استوعبتْ درسَ السماء الأول: العملُ عبادة. أولئك بشرٌ يفعلون كل شيء بصدق وحبّ. العملُ حقٌّ. والصلاةُ للسماء حقٌّ. ومحبةُ البشر حقٌّ. والسعيُ نحو الجمال حقٌّ. افتقاده إن غاب حقٌّ. ثم صناعته حقٌّ، وهدفٌ وحتميةُ وجود. أما ما أدهشني فكانت جلسة السمر التي عقدناها في المساء. كسرتِ الراهباتُ الصورةَ النمطية الخاطئة المستقرة في وعينا بأنهن جافات متجهمات. فكما يُجِدن العملَ والصلاةَ والجمالَ والحبَّ، يُجِدن أيضًا المرحَ واللعبَ ونسجَ الأُحجياتِ والنكاتِ الراقية.
في الصباح التالي تحدثتُ في محاضرتي الثانية، عما أسميته "اسفكسيا الجمال". الجمالُ في درجاته العليا، تلك التي لا يملك الإنسانُ المقدرةَ على استيعابها. مثل "لؤلؤة" جون شتاينبك الضخمة التي اصطادها الفلاح الفقير كينو فلم يستطع الناسُ احتمالَ جمالها، فأعادوها للبحر من جديد. عدّدتُ الأمثلة، لكنني لم أقوَ على أن أخبر أولئك الراهبات، أن النورَ الذي رأيته في وجوههن، كان ينتمي بامتياز لذلك النمط من الجمال الطاغي. أمرٌ عسير أن تصرّح لأحد بما تراه في وجهه من جمال، لا تحمل المقدرة على استيعابه كاملاً.
ورقيا المصري اليوم

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

يا الله، من رسم الخطوط حول الدول؟ ترجمة:

07-تشرين الأول-2017

«الشاعر» هاني عازر

20-تموز-2014

نوبل السلام لأقباط مصر

28-حزيران-2014

هنركب عجل

18-حزيران-2014

النور يعيد السيدة العجوز

11-حزيران-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow