Alef Logo
ضفـاف
              

الطريق إلى بغداد – ريبورتاج بقلم نيد باركير / ترجمة:

صالح الرزوق

2011-03-06

الفوضى : 8 نيسان 2003
أشرقت الشمس حينما وصلت الأوامر لدخول بغداد. هدمنا المخيم بظرف دقائق تحت ضوء الشمس الشمعي و البرتقالي. كنت في حينها أتنقل مع رجل أمن الكتيبة – الضابط الاحتياط ريك ديوبنيك – لأن شعبة 1 – 5 صادرت هاتفي المحمول الموصول بالساتالايت. كان رجال المارينز خائفين من أن يتمكن العراقيون من تحديد مواقعهم بتعقب هاتفي ( ثريا ). و لكن وعد آمر الـ 1 – 5 ، لو ارتحلت مع ديونبيك ، أن يسمح لي باستعمال هاتفه الخاص. كم شعرت بالحنين و الشوق لبونزيل و سانشيز و رودارت. و لكن لم تكن بيدي حيلة و لا مجال للاختيار لو رغبت بإرسال شهادتي عما يحصل.
كان ديونبيك ، بين صفوف المارينز منذ أعوام 1980 ، و يعتبر موسوعة حول الأيام الصعبة و الشاقة التي مرت بها الكتيبة. و أخبرني ذات مرة أنه " في الفيليبين ، كان الضباط و الأفراد يتسابقون إلى بارات الصدور العارية ، و يلهون بالقرب من الراقصة . و لكن ما من طريقة لتبرير مثل هذا السلوك في هذه الفترة ". كان يتحمس للفترة التي كان فيها رجال المارينز يأكلون الهامبورغر الذي يشبه لحوم السجون و يتنقلون من غير جهاز دي في دي و لا حتى جهاز الألعاب الإلكترونية.
كان لديونبيك أسنان ضخمة و صوت أخن ، و هو يتمتع بجسم مترهل و مسن كما لو أنه كان سابقارجل رياضة. و كان ينظر إلى سائقه ، العريف ستون ، البالغ من العمر تسعة عشر عاما ، و الذي له شعر أشقر مضغوط و نظارتان سميكتان ، و كأنه نوع من السلالة الناعمة التي يتميز بها الجنود حاليا. كان ستون يلقي على ديونبيك أسئلة لا لزوم لها مما يثير أعصابه و لم يكن يستطيع التعامل مع مذياع السيارة. و مع بداية الهجوم و الدخول إلى واحة من أشجار النخيل ، قال ديونبيك بتعجب : " من الممكن لهذا المكان أن يكون جنة".
فرد ستون بصوت مرتفع : " نعم ، يبدو و كأنه الحديقة الجوراسية".
نظر ديونبيك إلى ستون بعين فاترة و قال : " صه. اصمت. و ركز عينيك على الطريق".
و لكن ستون لم يلتزم بذلك. و اندفعت سيارة الهومفي. تبادل ديونبيك نظرة قاتمة مع ضابط في العربة. كان هذا نوعا من الاستعراض البسيط للتعبيرعن لواعجه على أمل أن يضبط الرجل سلوكه. غير أن غضب ديونبيك ترك مفعولا معاكسا على ستون. و عندما صاح ديونبيك بستون ، قاد ستون السيارة بسرعة فائقة و تلعثم ببعض التفسيرات.
و كان المذياع يئز و يقول : " سوف يكون جنودنا في العراء. و ربما يحيينا العراقيون بصدور رحبة و أذرع مفتوحة ، أو يجب أن نستعد لمعركة في الجحيم ".
صاح ديونبيك يقول : " هل سمعتم ذلك؟. هل تعير انتباها لذلك يا ستون ؟".
و سرعان ما أصبحنا في فوضى. قرب أخدود سقاية موحل ، رأينا مسعفين يعالجان رجلا عراقيا ينوح و له من العمر حوالي أربعين عاما. و بينما كان المسعفان يضمدان له صدره المشقوق الجريح ، كانت أنامله النحيلة الموشومة بوشم أزرق ترتعش. و كان أخوه الذي علق ذراعه في ضمادة يتذمر مما حصل فهما لم يفعلا شيئا غير محاولة الخروج من بغداد ، غير أن المارينز أمرتهم بالتوقف و فتحت عليهما النار.
و على بعد خمسين ياردا من الرجل الذي ينزف ، رأيت الفوضى على قدم و ساق. جماعة من الرجال ، مبتسمين و يلوحون بأيديهم ، قد تجمعوا وراء بناية حكومية صفراء. لحشد بشكل كارنافالي. و غوغاء يدحرجون إطارات شاحنات عملاقة و يسحبون طاولات مكتبية و كراس و صناديق و بطاريات سيارات ، و أجهزة تلفزيون ، و غالونات غاز البروبان ، و مولدات كهرباء. و كان الفوضويون يصيحون بقوة : " يو ، إس ، إي ! " و يرفعون إبهامهم أمام الجنود و يلوحون لهم بمزيد من علب سومر الزرقاء.
و هناك بعض المراهقين الضعفاء الذين يسحبون أكياسا من الأرز ، و قوارير من زيت الطهي ، و أبوابا من سبعة أقدام. كان العراقيون على ما يبدو تحت ضغط جنون تعرية الأشياء. و كان بعض الرجال المسنين يقولون : " شكرا لك أيها الرئيس بوش ! " ثم يضربون بعضهم بعصي خشبية ، في معركة من أجل مكيفات هواء جديدة أو ذخائر.
لم يرفع أي عسكري من المارينز أصبعه ليوقفهم ، و ضحك عسكري مارينز قائلا : " هذا شغب يشبه لوس أنجلس. أبناء الزنى هؤلاء حمقى".
تركت ديوبينك لأستكشف الشارع و تجولت وراء علبة نفايات برتقالية براقة ممتلئة. رأيت عرفاء استطلاع و رقباء ينفخون دخان سجائرهم حول الشاحنة المتوقفة. و كان رجل يستلقي بين المقعد الأمامي و الباب بينما ثقب رصاصة محفور في جبينه فقط تحت شعره الأسود المصفف ، و خيوط من الدم تسيل على قميصه الرمادي ، و الذباب يلتصق بجسده . كان من المفروض أن أقترب منه لأراه ، و إلا يمكن أن تمر به دون أن تلاحظه. ضحك بعض رجال المارينز بنفس الطريقة التي ضحكت بها بعد أن شاهدت عددا كبيرا من الموتى على قارعة الطريق. كانت الجثث موزعة على أرض المدينة مثل النفايات. و هذه مشكلة تخص العراق ، و ليس رجال المارينز.
عدت للانضمام إلى ديونبيك و هو يبحث عن مكان لتنام فيه الكتيبة هذه الليلة. كان الناس يتدفقون من الثكنات عسكرية و بعض المخازن. و عندما كان ديونبيك يقود السيارة نقلت الإذاعة العسكرية صوت طلقات نارية. و ذكر صوت رفيع و هامس أنباء عن سجن للأطفال. و بين تجمعات الثكنات و المباني ، دل العراقيون العقيد فريد باديلا ، رئيس كتيبة 1 – 5 على مجمع واسع ادعوا أنه مقر لحبس الأطفال.
كان هناك حشود مدت أذرعها بعصبية واضحة و هي تصيح من خلال نوافذ السيارة لتقول إن صدام حبس الأطفال لأن أبناءهم لم يلتحقوا بحزب البعث. و بينما كانت الهومفي المدرعة التي تنقل باديلا تتقدم نحو البوابات ، اقترب من السيارة آباء بدشاديش بيضاء و أمهات منقبات .
قفز الرجال على سقف العربة و بدأوا بفتح أباريق المياه ، و اندفعت الغوغاء باتجاه البوابات الحديدية ، و فجأة فتحت الأبواب. أصاب الذعر الحراس في الداخل و انضموا إلى الفوضى بينما اندفع مائة و خمسون طفلا كان آباؤهم بالانتظار لحضنهم. و قفز الأطفال لتقبيل باديلا. في تلك الليلة أخبرني يقول : " في الواقع لم أكن مؤمنا بعملية تحرير العراق ، و لكن الآن أعتقد أن هذا صحيح ".
وصل هذا الخبر إلى البيت الأبيض ، و في نشرته الإذاعية الأسبوعية ، ذكر أن الرئيس بوش يقرظ باديلا. و بعد أسبوع ، قمت بزيارة المعتقل ، على أمل أن أكتب ريبورتاجا أصور فيه الرعب الذي يوجد في السجن. و كان هناك رجال و مراهقون يحفرون حول المكان الإسمنتي المهجور. ازدحموا حول سائقي و مصوري و حولي بمجرد أن دخلنا من البوابة. و في تقديري لم يكن أمامنا غير عشرة إلى خمس عشرة دقيقة قبل أن تعرض للسرقة أو الضرب أو القتل.
ثم تقدم زعيم قبيلة محلية مع عدد من الشباب و رافقونا في الجولة ، و أجبروا الحشود على التفرق. و عندما سألت عن الأطفال ، قال الزعيم عكس ما توقعت. و ذكر أن الآباء هم من خدعوا العقيد لتحرير بعض الأحداث الجانحين. فالأطفال ليسوا سجناء سياسيين – فقط منحرفين و فارين لبعض الوقت.
و أصر الزعيم أن هذه هي الحقيقة. عراقيون آخرون تعرفت عليهم في بغداد ، عدد منهم مترجمون و معلمون ، يكنون لصدام الكراهية ، أخبروني أيضا أنهم يشكون أن الأطفال كانوا معتقلين سياسيين. كانت هناك في المكان كافتيريا على نمط استراحة المدرسة ، مع مسرح و صالة لكرة السلة.
و عندما ذهبت لألتقي بباديلا في قصر بغداد ، رفض أن يقبل بالفكرة ، و قال بصوت عميق : " كل ما يقولونه حقيقي. أنا أصدق ما رأيت". و كان يبدو كأن رقبته ستغادر مكانها. و أضاف : " إن لم تصدق ذلك ، يجب أن لا تذكره في ريبورتاجك أولا".
تعاطفت مع باديلا. لقد وقعت عيني على ثلاثة من الأطفال يوم تحريرهم. كانوا يتجولون في خضم البحر المتلاطم من الفوضويين و هم يرفعون أذرعهم في الهواء. و يتحركون كما لو أنهم يكسرون للتو القيود. لقد صروا بأسنانهم و لوحوا بقبضاتهم. و لم يطلبوا من المارينز شيئا – لا الطعام و لا الشراب و لا حتى الدولار الأمريكي. و احتفظوا بأيدهم حرة و ابتسموا بعذوبة و هم بأسمالهم. كان باديلا يصدق تلك الخيالات ، و لم لا يتوجب عليه ذلك ؟. و هو هناك بين أشد الضباط دهاء و مكرا.
و لقد تلقى رسالة من ابنته البالغة من العمر ستة عشر عاما ، و كانت تداعبه بقولها إنها حامل و متزوجة من رجل محافظ سابق. و لكن كان يمكن لرجال المارينز الأشداء أن يقعوا ضحية للخداع. كل عراقي لديه قصة ليفصح عنها ، و كان الأمريكيون يتعاملون مع ما يثقون به فقط. أحيانا كانوا ينتفعون من ذلك ، و أحيانا يقعون في فخ الأوهام. و بعد الحديث مع باديلا ، قررت أن أتخلى عن هذه المسألة. لقد أحاط الغموض و التضليل بجو الحقيقة و الواقع بمجرد انسحاب قافلة باديلا إلى مواقعها ، لذلك نسيت الموضوع .
في أول يوم لي في بغداد لم تكن لدي أساب للتفكير بماهية المتسكعين و بالأبنية التي تحترق. تحرك ديونبيك بين جماهير الناس و استكشف الباحة المخصصة للخردة التي يمكن أن تصبح معسكرا لنا. كان هناك مئات من الصعاليك الذين يتصارعون للحصول على قطعة معدنية متهالكة. و هناك رجل مارينز بوجه بريء يقف على قدميه و يدفع للخروج من فتحة في جدار باحة الخردة الإسمنتي.
و ضغط عراقي له من العمر سبعة عشر عاما و يدعى محمد على راحتي و قال لي : " أنا شاب و مع ذلك أصابني الإحباط من صدام حسين". في ذلك اليوم ، لم يعترض العراقيون على حق المارينز في إصدار الأوامر فوق أرض عراقية. و نظر الجميع إلى مسألة تبدل القيادة على أنه قدر. و كان هناك سلك مسنون و رفيع مشدود على ارتفاع معين ليحد من تدفق المتسكعين.
و خارج باحة الخردة ، كانت الطلقات تئز قرب رجال الحرس من المارينز. صاح أحدهم : " هذا قناص، إنه قناص ".
صعد الملازم دافيد دينيال مع دستة من رجاله المدرعين و المسلحين في عربة شخصية و تقدموا حوالي ربع ميل على الطريق الوعر نحو مصدر النار. و بالقرب من مستشفى ابن الرشيد القديم للأمراض النفسية ، انتشر رجال دينيال.
خارج العربة تجد حشدا يبلغ حوالي مائتي مراهق و رجل ملتحين يحملون المفروشات و يقفزون هنا و هناك مثل محرضين على القتال. و كانوا يرتدون قمصانا رياضية زرقاء لها ياقة، و البناطيل البنية ، و الجينز ، و الأثواب البيضاء المعروفة. و كان هؤلاء يصيحون نحو رجال دانييل قائلين : " هيا ، هيا ، أيها الفدائيون ، أيها الفدائيون ".
و انبثق إطلاق النار مجددا. و توتر دينيال ، فانتشر رجاله حول جدار المجمع االذي يبلغ طوله عشر أقدام.
كان الملازم يرغب بمعرفة ما يجري من حوله ، و لكن قائده أرسل الإشارة باللاسلكي يطلب منه الانسحاب. و شرح له الصوت يقول : " المستشفى لا يقع ضمن منطقة صلاحياتنا".
أهمل دينيال جماعته لدقيقة من الوقت. و مسح بعينيه بوابة المستشفى ، كانت عيناه الثاقبتان تنظران بشكل عام ، ثم سريعا اقترب منه رجل عصبي الملامح يدعى الدكتور صلاح ، و توسل باللغة الإنكليزية يطلب المساعدة. قال الدكتور صلاح : " أولاد الحرام يسرقوننا و يهاجمون مريضاتنا من النساء. يجب أن توقفوا ذلك. من فضلكم ، أوقفوا هذا".
تأثر دينيال برداء الدكتور صلاح الأبيض و قرر أن يصدقه. و بينما هما يتبادلان الحديث ، أرسل زميل دينيال الإشارة باللاسلكي للانسحاب مجددا. و لكن دينيال رد يقول إن هناك نساء تتعرضن للاغتصاب ، و هنا تمت الموافقة على أن يبقى حيث هو.
داخل المستشفى ، كان اللصوص يسرقون مكيفات الهواء و المغاسل و يحطمون مصابيح النيون الموزعة في السقف. و سرق الغوغاء كل العقاقير المتوفرة و مروا من فوق ماكينة الصودا ، بينما حطم المشاغبون أبواب جناح النساء و حاصروا عددا من المريضات اللواتي كانت أصداء صرخاتهن تصل حتى أقصى الممرات المبلطة برخام أبيض.
و ما أن اقتحم رجال المارينز المكان حتى تجمد المشاغبون و الغوغاء. أطلق دينيال و جماعته طلقات تحذير على قطيع الغوغاء في صالة مغلقة. و أشار رجال الدكتور صلاح لكل من لا ينتمي للمكان ، ثم قادهم الجنود بعيدا. و بعد ذلك أحضرت نساء عراقيات لرجال المارينز الصواني التي تحمل الدجاج المشوي و أخبروهم أنهم رجال أشراف و عظماء.
و مع غروب الشمس ، رغب دينيال أن يترك فريقا وراءه ، و لكن رئيسه رفض ذلك ، و أعاد عليه نفس المبررات : المنطقة ليست من اختصاصهم. و مع ذلك قطع دينيال على نفسه وعدا أمام الدكتور صلاح أن رجاله سيعودون لو تجددت المشاكل. و في وقت لاحق أخبرني دينيال قائلا : " لقد أوقفنا كل التخريب. و بعملية لا تنسى. و انتابني الشعور أنني أنجزت شيئا في ذلك اليوم. و لقد وعدت الدكتور صلاح أنني سأعود لو عاد المخربون. لقد قطعت وعدا له".
نيد باركير : مذيع و صحافي متميز يعمل مع وكالة فرانس بريس. كان في العراق منذ آذار 2003 و حتى أيار 2005 . و هو حاليا مراسل بغداد لجريدة تايمز أوف لندن .
المصدر :
On to Baghdad , Reportage ,by Ned Parker. Narrative magazine. 2011.
ملاحظة : الآراء الواردة في الريبورتاج تعبر عن رأي الكاتب و ليس المترجم.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow