Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

كان والدي كاتبا قصة : أندريه ديوبس III* ترجمة

صالح الرزوق

خاص ألف

2011-03-27

كنا ستة بالعدد : الوالدان و جميع الأطفال الأربع الذين ولدوا في فترة خمس سنوات ابتداء من عام 1958 . ولدنا جميعا و كل على حدة في قواعد بحرية ، و على يد أطباء بحريين ، و قد رأت سوزان النور في كوانتيكو بفرجينيا ، و لكن أنا و جيب ولدنا في كامب بينديلتون بكاليفورنيا ، و نيكول ولدت في ويدبي آيلاند بولاية واشنطن. و خلال هذه السنوات ، أمضى والدنا معظم وقته على متن العبارة يو إس إس قرب شواطئ اليابان. و عندما تمكنا من رؤيته ، حصل ذلك لبرهة وجيزة في بيت مزدحم فوق قاعدة بحرية.
كان رأسه حليقا ، و وجهه ناعما و نظيفا ، و لكنه لا يبتسم كثيرا ، كان أشبه برجل محتجز في سيارة على طرف طريق لا يود أن يسافر فيه. و فيما بعد توفي والد أبي في عام 1963 ، و تقريبا عقب ذلك مباشرة تقاعد والدي من البحرية و تخلى عن صفة ملازم و انتسب إلى ورشة كتاب أيوا في مدينة أيوا.
و مع أنني لا أجد العبارة المناسبة لذلك ، يمكن القول إنني لم أشاهده أسعد مما هو عليه ، كان يضحك بصوت مرتفع مرارا ، و يحضن و يقبل والدتنا في كل زاوية من المكان ، و سمح لشعره أن ينمو لفترة كافية لنتمكن من رؤية الشعر على رأسه ، شعر غزير و أشقر. و أصبح له شارب أيضا. و في الليل قبل أن يأوي إلى الفراش ، كان يدعونا للجلوس أنا و شقيقي و الأختين فوق طاولة المطبخ أو على الكنبة في غرفة المعيشة و يروي لنا حكايات من خياله – حكايات عن مغامرات حيث أن البطل و البطلة من الهنود الذين يدافعون عن عائلاتهم و شعبهم من عدوان الرجل الأبيض. و من بين هؤلاء الأبطال أذكر ( تيار المياه الزرقاء المثلجة ) ، و هو نوع من المحاربين الشجعان ، ممن لم يكن يذهب من خيالي لفترة لا بأس بها بعد أن نصعد إلى العلية الواسعة التي نقيم فيها نحن الأطفال الأربع.
و لم يبق في ذاكرتي من تلك الأوقات غير الحفلات ، مع أننا كنا مفلسين و طعامنا من لحوم المعلبات و مكعبات الجبنة الكبيرة التي توزعها الإعانة الحكومية . و كان الوالد يتبرع بقسط من دمه لقاء مبلغ مادي مرة في الشهر ، كي لا تنقطع هذه الحفلات الليلية حيث يهيمن على البيت جو من الثرثرة و الضحكات و دخان السجائر. و أيضا ، كان للنهار نصيبه. كانت الملاءات تفرش على المروج تحت الشمس ، و يتناول الرجال و النساء الشطائر و يحتسون النبيذ و يقرأون الشعر فيما بينهم بصوت جهوري.
انعقدت بعض هذه الحفلات في بيت آل فونيغات ، و هم جيراننا. كان كل أولاد فونيغات أكبر منا ، و لكن والدهم المدعو كيرت يأتي يوميا إلى بيتنا بعد الظهيرة ، ليجلس معنا في غرفة المعيشة و برفقته أولاده الأربع ، و يشاهد معنا الرجل الوطواط في الجهاز الصغير بالأبيض و الأسود. و دائما يشرب سيجارة بعد أخرى بلا توقف. و يضحك كثيرا و يطلق النكات ، و ذات مرة أشار لي من خلال سحابات الدخان و قال : " من هو الشرير المفضل لديك ؟".
قلت : " دعني أفكر. آه ، الوجه الغبي ".
ابتسم لي ، و كان وجهه يتألف من مزيج دافئ من الشوارب و العينين المستديرتين و الشعر الأجعد ، و قال : " أنا أفضل الريدلير ".
أما في أرض غرفة نومنا فتوجد فتحة للتهوية ننظر من خلالها على غرفة المعيشة ، و أحيانا نراقب منها الحفلات المسائية و التي نحن الأولاد نحوم حولها و نتلصص على أمنا و وأبينا و أصدقائهم و هم في الأسفل ، و نراقبهم و هم يرقصون و يشربون و يتجادلون و يتبادلون الضحكات ، و التي تكون بصوت أعلى بالنسبة للرجال مقارنة مع النساء ، بينما دخان سجائرهم يصعد إلى الأعلى في حلقات و يهب على وجوهنا من خلال الفتحة. و أتذكر أنه بلغت مسامعي عبارات بذيئة كثيرة و كان يتخللها كلمات مثل قصة ، رواية ، قصيدة. ثم همنغواي و تشيكوف.
كنا نستيقظ في الصباح قبل والدينا. نلتهم الحبوب مع الحليب و نتجول بين أنقاض الحفلة السابقة ، حيث تكون الطاولة و أرض بيتنا الصغير مغطى بالمهملات بالإضافة إلى قوارير الجعة ، و رقائق البطاطا المسحوقة ، و نفاضات السجائر المزكومة بفائض من الرماد ، و نصف أعقاب السجائر الملوثة بصغة أحمر الشفاه. و لو هناك بقايا في الأكواب ، و إن لم تكن السجائر تطفو فوقها ، كنت أحصل أنا و سوزان على عدة رشفات لأننا بالعادة نحب طعم الويسكي و الجن الممزوج بالماء. و ذات مرة رأينا كعكة بالجزر في غرفة المعيشة و جوانبها مغطاة بالسكر الأبيض المجمد ، و لكن منتصفها عبارة عن مسحوق لا غير. تذكرت هذه الكعكة كما كانت في الليلة السابقة ، ثلاث طبقات تسيل اللعاب مع كتابة بيضاء متجمدة فوقها. فسألت والدتي لمن هذه و أجابت إنها على شرف أحد الأصدقاء الذي باع روايته للتو لناشر معروف ، و هم على نية الاحتفال بهذه المناسبة.
لم يكن من الممكن التعرف على الكعكة الآن ، و عندما جاءت الوالدة في ذلك الصباح بمظهر مشرق و جذاب ، و ربما كانت ترتدي الشورت ( البنطال القصير ) و قميصا يعود لوالدي ، و هي تدخن سيجارة ، و كانت بحوالي الخامسة أو السادسة و العشرين ، سألتها ماذا جرى للكعكة. غرست أناملها في القشدة ، ثم ابتسمت لي و قالت : " إنه والدك و أصدقاؤه من الكتاب الحمقى ، يا عزيزي ". هل كان يعني ذلك أنه كاتب أحمق أيضا؟. لست على يقين من الأمر.
و لم تتضح لي أبعاد المسألة حتى انعقدت في بيتنا حفلة أخرى ، بدأت بمعزوفة جاز مسجلة على إسطوانة ، مع طبق من الخيار و الجزر و طبق عميق استقر على المنضدة في المطبخ ، و دستة من الأكواب الزجاجية على الكونتور ، و كانت في غرفته الأمامية و على منضدته السوداء المنحوتة من الخشب شمعتان مشتعلتان و يحملهما شيء مضلع يبلغ ارتفاعه حوالي ثلاثة إنشات و مغطى بقماش أسود.
و لدى وصول أصدقاء الوالد على دفعات ، كل زوج أو زوجين على حدة ، كان يقودهم إلى غرفته و بيده كوب أو قارورة جعة ، و كان يشير بيده إلى ما يقول عنه إنه رواية فاشلة و هذه الحفلة هي جنازتها. و كان يرفق كلامه بالضحك و هم يردون عليه بالمثل ، ثم وضع أحد أصدقائه من المؤلفين يده على كتفه و ضغط عليه ، كم كانت ملامح الألم و الصرامة الهادئة واضحة عليهما آنذاك. و هكذا علمت أن والدي ، مثلهم ، و هو كاتب.
و عندما نشر كتاب والدنا في عام 1967 ، حصل على منصب تعليمي في كلية بماساشوسيتس. و بالحال وضعنا أحمالنا في الشيفروليه الصدئة و انطلقنا نحو الشرق. و لمدة سنة كاملة أقمنا في غابات بجنوب نيو هامبشير في بيت خشبي مستأجر تحيط به مساحة من غابات الصنوبر و المراعي. و كانت فيه بركة للسباحة و قطيع من الأغنام و أوراق لأشجار الصنوبر الرفيعة المتساقطة و كنت أنا و جيب نرى عند ضفتي جدول يمر من هناك أحجارا صغيرة و ملساء ذات رؤوس مدببة ، و عظاما مبيضة لأرانب و سناجب. نظرا لذلك خيل إلينا أننا أغنياء ، لتوفر كل تلك الأرض التي نلعب عليها ، و لهذا البيت الواسع و القديم – بغرفه المظلمة و الرحبة و بموقده و بورق جدرانه الباهت و ألواح أرضه الخشبية المثبتة بالمسامير المضلعة التي تعود بتاريخها إلى فترة سبقت الحرب الأهلية ، و أيضا بسبب تلك البركة المخصصة للسباحة.
في عام 1968 انتقلنا مجددا ، و في هذه المرة إلى كوخ قرب بحيرة في ماساشوسيتس – على حدود نيو هامبشير. كنت أبلغ التاسعة من العمر ، و هكذا كان يبدو لي البيت أيضا ، و لكنه في الواقع أشبه بمعسكر استجمام صيفي. في الطابق الأرضي تجد المطبخ و الأرض المغطاة بالموكيت ، و غرفة المعيشة الصغيرة المزودة بجهاز تلفزيون أبيض و أسود حيث سمعنا نبأ اغتيال مارتن لوثر كينغ الابن ؛ و هناك رأينا صور أشعة إكس لدماغ روبيرت كينيدي الذي تلقى طلقات نارية من مسدس كاليبر عيار 22 ، و هناك كذلك ، في الصيف اللاحق ، رأينا كيف هبط الإنسان على سطح القمر ، كانت والدتي تجلس على ذراع الكنبة و هي بالشورت و بقميص الوالد المزرور حتى الأسفل ، و تقول حول ذلك : " لقد وصلنا إلى القمر أيها الفتيان. لقد وصلنا إلى القمر اللعين".
كان والدي آنذاك بعمر إثنتين و أربعين سنة ، و يكسب من التدريس سبعة آلاف دولارا في العام. و له لحية شقراء مشذبة على الدوام ، و يعدو بمعدل خمسة أميال يوميا ، و هذا الطقس بدأه في مارين كوربس ( 1 ) منذ خمس سنوات مضت. و نادرا ما كانت والدتي مع والدي يحتفظان بالنقود الكافية لتناول الغذاء في المطاعم ، و مع ذلك لم يتوقفا عن استضافة الكثير من الاحتفالات في بيتنا ، و بالعادة في أمسيات السبت أو الأحد ، و أحيانا في كلا الأمسيتين ؛ و كانت الوالدة تجهز المكسرات و الموالح المجروشة و توابعها و الجبنة المفرومة و الخيار و الجزر و قوارير النبيذ المفتوحة و إلى جانبها علبة الثلج ثم إنهما ينتظران الأصدقاء لإحضار ما تبقى : المزيد من النبيذ و قوارير الجين و البوربون. و كان معظم أصدقائهما من الجامعات حيث كان الوالد يدرس : من هؤلاء أستاذ مختص بالفن ، و هو رجل ضخم يرتدي الزي الأسود و له وجه نظيف و محلوق و أنيق ، و يضحك بصوت مرتفع و يبدو بنظري أشبه بممثل في فيلم ؛ و منهم شعراء ملتحون و فنانون تشكيليون صلعان و سيدات تدرسن الخزف أو الأدب أو الرقص. و هناك أيضا عدد من التلاميذ و لا سيما من الإناث ، و جميعهن جميلات ، على ما أذكر ، و بشعور براقة و طويلة و أسنان مستقيمة و بيضاء ، و عادة ترتدين بلوزات بلا أكمام أو بياقة السلحفاة و لكنهن لا ترتدين حمالات الأثداء ، و مؤخراتهن التي تشبه الأجراس تميل على أفخاذهن و تتمايل مع كل خطوة بالبوط المصنوع من الشامواه.
و كان البيت يمتلئ بالكلام و الضحك ، و بمعزوفات الجاز التي تأتي من مسجل الإسطوانات و هو يدور – و لا سيما ألحان بروبيك ( 2 ) و غيري موليغان ( 3 ) و بودي ريش ( 4 ). و كنت من مكاني في الطابق الثاني و أنا أرقد في الفراش أشم رائحة الحشيش و دخان السجائر ، و أسمع صوت الموسيقا و لكنة صوت أمي و أبي و وراء ذلك أصوات الأصدقاء المرتفعة و هي تحتدم بالنقاش و المعارضة. و أحيانا تنبعث صرخات ، و مفردات مثل سايغون و الفايتكونغ و ابن العاهرة نيكسون.
و ذات أمسية عرضت الأخبار نبأ رجال بحرية ماتوا بمعركة.
كنت أرقد على الأرض تحت طاولة القهوة بينما الكاميرا تمر فوق أجساد الجنود المستلقين على الأرض ، و معظمهم كان على بطنه ، و أذرعهم ممدودة على أطرافهم. جلس الوالد منتصب القامة على الكنبة ، و يداه على ركبتيه ، و كانت عيناه تلمعان. و قال : " آه يا بات ، هؤلاء مجرد أولاد. آخ ، اللعنة ، هؤلاء أولاد بعمر ثمانية عشر عاما".
في وقت لاحق بينما كنت راقدا في الفراش مع شقيقي ، هبط ثقل على صدري فاستيقظت و كان الوالد يحضنني ، و يبكي على الوسادة التي هي بجانب أذني. و يقول : " آه يا بني ، أه يا بني ". كانت له رائحة البوربون و العرق ، و كان من الصعب أن أتنفس. و لم أتمكن من انتزاع يدي من الملاءات لأرتمي في أحضانه. ثم إنه ابتعد عني ، و تابع البكاء فوق سرير جيب ، ثم إن والدتي شرعت تهمس من قرب الباب ، و ظلها القاتم هناك. و مدت ذراعيها إلى الوالد ، فنهض و نظر إلينا لفترة مطولة ، ثم اختفى. عم الهدوء في أرجاء البيت ، و خيم الصمت المطبق و الظلام على غرفتي. فاستلقيت مفتوح العينين و فكرت بكل الرجال الطيبين الذين رأيتهم في التلفزيون و الذين أطلقت عليهم النار في رؤوسهم.
ثم شاهدت مجددا الجنود الموتى و هم على الأرض ، و لم يكف الوالد عن البكاء و هو يقف بكامل قامته فوقنا ، غير أنني لم أفكر كثيرا بضرورة أن أشترك أنا و جيب بالمعركة مع الآخرين. و خلال تسع سنوات فقط كنت أشعر أنني عجوز مثل من قضوا نحبهم ، و سوف يحين دوري ، أليس كذلك؟.
و لكن على الجنود أن يكونوا جسورين ، و أنا لا أتحلى بهذه الصفة. كنت طفلا مستجدا في المدرسة ، و هذا سيستمر لعدة سنوات ، و كنت دائما أحاول أن أبحث عن مقعد منعزل بعيدا عن الآخرين ، دون أن تفارقني الخشية من العزلة ، بينما كان الجميع يعرفون بعضهم ، و كانوا يلعبون بالكرة و يطاردون أنفسهم و يلقون القبض على أنفسهم و هم يضحكون ، و لكن لم أمتلك الجرأة لأشترك معهم. ثم جاء أحد الأولاد ليتعرف علي و هو يقول بصوت مرتفع : " علام تنظر ؟ هل لديك مشكلة؟".
أحيانا كنت أتلقى الدفع بالمناكب و الضربات المؤلمة حتى أسقط على الأرض. و لا زلت أفكر ماذات فعلت لأثير غضبهم ، و حتى الآن لا أدرك أن الفظاظة هي الفظاظة و حسب و لا يمكن أن تستفسر عن السبب ، و عليك أن تبادر بالضرب أولا و أن تكون ضرباتك قاسية.
و كان هناك المزيد من الخلافات في البيت. و كم حاول والدي و والدتي إخفاء هذا عن عيوننا و على ما يبدو أن المشاجرات كانت تقع في أوقات متأخرة من الليل ، حيث يتبادل كلاهما الشتائم و الصياح و أحيانا يلقي أحدهما على الآخر الأشياء الصلبة – القدور أو المقلاة ، الأطباق أو الأكواب أو نفاضات السجائر ، أي شيء يتصادف أنه قريب منهما. و عندما ينخرطان بالشجار ، كان من السهل عليك أن تسمع لهجتهما الجنوبية ، و لا سيما لكنة لسان أمي و هي تقول : " اللعنة عليك ، يا ابن الحرام ". و كان صوت والدي يأتي من أغوار صدره فيصيح ردا عليها و كأنها عسكري في البحرية و هي تحت أمرته.
و في عدة أمسيات كنت أنا و شقيقي و الشقيقتان أيضا نختلس السمع من السلالم و نحن بالبيجاما ، ليس لأننا نستمتع بما يجري و لكن لأنه من الأسهل أن نحتمل ذلك ، بالمقارنة مع حالة الاستماع الإجباري و نحن في الأسرة كل على حدة.
و لكن صباحا ، مع بزوغ الشمس و هي تشرق من بين أغصان الأشجار لا نشاهد الأطباق الملقاة أو المهشمة في غرفة المعيشة ، و تكون للمطبخ رائحة اللحوم و البيض و السمن و الخبز المحمص و القهوة ، و هكذا يتراجع حلم الليلة السابق السيء إلى النسيان حيث يجب أن يكون.
و ذات أمسية مضيئة من بواكير الخريف جلس والدانا معنا في غرفة المعيشة و أخبرانا أنهما على وشك الانفصال. وقف والدي في فتحة باب المطبخ. و استندت الوالدة على جدار الطرف المعاكس من الغرفة. سينفصلان. هذه كلمة لم تخطر لي على بال من قبل ، و لكن حاليا أتخيلهما كأنهما رغيف واحد قطعته سكين حادة و كبيرة. جلست في كرسي الوالد ، و لم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء.
ثم غادر الوالد لعدة أسابيع. و ذات ليلة ، و بعد أن أخلدت سوزان و جيب و نيكول للنوم ، استلقيت في فراشي و سمعت صوت أمي و هي تبكي في غرفتها. و كان يبدو كما لو أنها دفنت وجهها في الوسادة ، و مع ذلك كان بمقدوري أن أسمعها ، فنهضت و تقدمت فوق ألواح الخشب التي تصر على طول الممر و طرقت باب غرفتها. كان المصباح الجانبي يشتعل قرب السرير. رفعت رأسها ، و مسحت عينيها ، و ابتسمت لي. سألتها هل هي على ما يرام. انتصبت في سريرها و قاستني بنظراتها و قالت : " سأبيح لك بالأمر لأنك كبير بما فيه الكفاية لتفهم. والدك انفصل عني و ذهب إلى بيتسي أرمسترونغ. و هو هناك حاليا ، يعيش معها".
كانت بيتسي إحدى أغنى البنات في الجامعة. و لها شعر طويل و أملس و وجه فاتن. و أتذكر أنني سمعتها مرة و هي تضحك في المطبخ حين كانت مع أمي. و عند هذه المرحلة من الذكريات غادرت الوالدة فراشها و احتضنتني ، فأحطت ظهرها بذراعي.
عاد الوالد إلى البيت مجددا.
استيقظت ذات صباح و سمعت صوته في الطابق الأرضي. فأسرعت إلى هناك ، حيث إنه عانقني. في وقت لاحق من نفس اليوم و بينما كان في الحمام يحلق ، اقتربت منه لأراقبه يفعل ذلك. كنت في العاشرة من عمري ، و كان هو في الثالثة و الثلاثين. التفت من أمام المرآة و قال : " إذا لقد عرفت بحكاية بيتسي ؟".
و شعرت أن هواء الغرفة أصبح خانقا و قلت " نعم".
مد يده إلى حافظته و سحب منها صورة فوتوغرافية صغيرة ، و قدمها لي بيده و قال : " هذه هي ".
كانت الصورة لبنت بالكاد أتذكر أنني رأيتها من قبل ، و هي ليست الأخرى التي أراها في ذهني. قلت له : " يا لها من فاتنة ".
قال والدي و هو يأخذ مني الصورة و يعيدها إلى حافظته : " نعم ، هي كذلك". غادرت الحمام و ذهبت مباشرة إلى المطبخ حيث وقفت أمي عند المغسلة لتنظف الأطباق. نظرت إلى وجهها ، فابتسمت لي بالخفاء.
قلت لها : " صديقة الوالد أجمل منك يا أمي ". و في الحال تلاشت ابتسامتها و ركزت بصرها في الأطباق و تابعت الحك و التنظيف. ذهبت عائدا إلى الحمام و أخبرت والدي بما قلت.
كان يمسح رغوة صابون الحلاقة من وجهه بالمنشفة. فتوقف عن ذلك ، و تابع بتمرير المنشفة على وجهه و قال : " كلا ، هيا اذهب و اعتذر لها. اذهب فورا ، و أخبرها أنك آسف ".
و لكن أسرعت بالركض و اتجهت إلى الغابة.
لا أذكر أنني اعتذرت من الوالدة على الإطلاق ، فقد عاد الوالد إلى البيت ، دون أن أعلم هل احتفظ بالعلاقة مع صديقته أم أنه قاطعها ، و لكن لفترة من الوقت كانت الأمور تبدو و كأنها تجري على ما يرام كما هو الحال في السابق. و انحسرت المشاجرات بالمقارنة مع الوقت الماضي . و في كل أمسية عندما يأتي الوالد من التعليم ، تكون الوالدة مشغولة بالطهي في المطبخ ، ثم يلتقي الشمل في ساعة كاملة لشرب الكوكتيل ، و هذا يعني أنه غير مسموح لنا نحن الأولاد بالانضمام لهما ، كانا يشربان جيم بيم و يتخلى الوالد عن عقدة أسراره و يخبر الوالدة بمجريات اليوم المنصرم ، و هي بالمثل تفك عقدة لسانها و تبلغه بتفاصيل يومها.
و سريعا ما تنتهي الساعة ، و نجلس نحن الستة حول الطاولة المتعبة في المطبخ الصغير و الحار و نتناول طعامنا. لقد أمضينا حياتنا في نيو إنغلاند ، و لكن في أوقات العشاء تغمر بيتنا رائحة تذكرنا بجنوب لويزيانا : دجاج الوالدة المقلي ، أو شرائح العجل و ربما شرائح الخنزير الرخيصة التي تقلى و تحضر للإفطار ، و كلها تقدم مع الأرز و دقيق البسكويت الناعم و المعجون ، و على الجوانب باقة من الخضار أو البندورة المفرومة و الخيار و البصل و المعكرونة و الجبنة ، أو حساء الخضار الذي تطبخه لساعات مع لحم الدجاج ، ثم تصبه على خبز رقيق و مجوف أو على خبز فرنسي ، و فوقه طبقة من الجبنة السائلة التي يتصاعد منها البخار الحار.
و لكن مع أن الطعام رائع ، بالكاد يتبادل الوالد و الوالدة النظرات ، و على العكس إنهما يركزان انتباههما علينا ، و يتساءلان عن الوضع في المدرسة ، و عن حصن الأشجار الذي كنت أنا و جيب نبنيه في الغابة ، و عن ألبوم الخنافس الذي تحب سوزان أن تصغي له ، و عن رسوم نيكول التي تشغل أوقات المساء . و نادرا ما كنا نترك المنضدة قبل أن نشبع ، و لكن كان هناك فراغ في الجو ، هدوء صامت و قاتم لا نتطرق إليه ، و هو الموضوع الشائك الذي سوف ينهمك به الوالد رغما عنه ، ثم يستحوذ عليه.
ثم وقعت الأحداث التالية في باكورة يوم الأحد من شهر تشرين الثاني.
كان الوالد أطول منا نحن الأربعة ، و كنا نتبعه على سلالم الشرفة و على طول الممر ، سوزان وراءه برداء النوم القطني ، ثم أنا و جيب بالبيجاما ، و أخيرا نيكول ، بشعرها الأحمر الطويل و الغزير و بوجهها المحدود. و كانت أعمارنا تبلغ أحد عشر ، عشر ، تسع ، و ست أعوام. و أمامنا كنت ترى بريقا للجليد فوق حصى الممشى و فوق سيارتنا ، و هي من نوع لانسير القديم ، و كانت أشياء الوالدة مزدحمة فيها : ثيابه ، كتبه ، و جعبة أدوات الحلاقة. و كان البيت محاصرا بأشجار الصنوبر الطويلة و لكن بسبب البرد الشديد لا يمكن لنا أن نشم رائحتها ، و كان الجو صافيا و مشرقا. و في داخل البيت كانت الوالدة تبكي كما لو أن آلامها جسمانية ، و كما لو أن أحدا يكتم أنفاسها و يلحق بها الضرر.
يا والدي ! أسرعت نيكول تركض فوق الحصى ، ثم قفزت فالتفت الوالد ، و كانت عيناه تذرفان نبعا من الدموع ، فاحتضنها ، و هي وضعت كلتا ذراعيها حول عنقه ، و دفنت رأسها تحت ذقنه. حاولت أن أتناسى بكاء والدتي القادم من البيت. و هنا نظر لي والدي من فوق كتف نيكول الصغير ، فاضطررت للوقوف بهدوء بقدر ما أستطيع ، و تمنيت لو كانت نظراتي قوية و ثابتة.
قبّل الوالد رأس نيكول بشعره الأحمر ، و وضعها فوق الحصى. كانت لحيته غزيرة و داكنة ، و كانت وجنتاه و بلعومه محلوقين بإتقان. و كان يرتدي قميصا يشبه البلوزة و سراوالا من المخمل ، ثم ألقى نظرة عابرة على بيتنا. لم يكن هناك غير بكاء الوالدة ، و خطر لي : ربما هذا سيدفعه إلى تبديل قراره. ربما لا يرحل.
و لكن نظر إلينا و قال : " أراكم عما قريب. قد نذهب معا لتناول الطعام في الخارج".
ثم عانق سوزان ، و عصر كتفي ، و داعب شعر جيب ، ثم جلس في سيارته ليقودها و يبتعد من الهضبة و يمر من بين أشجار الصنوبر ، و أنبوبة السيارة تسعل بدخان أزرق محترق. حمل جيب حفنة من الحصى و تبعه سريعا و قال : " أنت ، بم ! أنت ، بم ، ! أنت ، بم ". و قذف كل شيء دفعة واحدة ، و تناثرت الأحجار الصغيرة فوق الشارع و وصلت إلى الغابة كأنها شظايا.
تابع الوالد قيادة السيارة فوق الجسر القصير ، ثم مر من بين مزيد من الأشجار المرتفعة. و هنا كانت الوالدة و نيكول أيضا بحاجة لمن يواسيهما. خطرت لي : مسألة الطعام التي يجب أن نهتم بها. كيف نحضره بلا سيارة. و لكن حاولت أن أستمر واقفا و منتصب القامة بقدر ما أستطيع.
- هذه القصة هي مقتطفات من مذكرات الكاتب الصادرة عام 2011 عن دار نشر نورتون .
أندريه ديوبس III : ابن كاتب القصص المعروف أندريه ديوبس . عاش خلال بواكير حياته في قرى حدودية بين ماساشوسيتس و نيو هامبشير ، و منها استوحى جو مذكراته الصادرة عام 2011 بعنوان بلدتي. و هو مؤلف لثلاث روايات أهمها بيت من الغبار و الضباب ، و التي وصلت إلى تصفيات جائزة الكتاب الوطني ، و تحولت إلى فيلم سينمائي حاز على ترشيح الجائزة الأكاديمية. و له مجموعة قصص بعنوان حارس القفص . قام بتدريس الأدب الإبداعي في هارفارد و تافتس و إيميرسون و في جامعة ماساشوسيتس لويل حيث هو الآن عضو في الهيئة التدريسية. يعيش في ماساشوسيتس مع زوجته و أولاده الثلاث.
هامش :
* - III : يضع الكاتب هذا الرمز لمنع الالتباس بين نصوصه و نصوص أبيه الذي يحمل نفس الاسم.
1 – مارين كوربس : قاعدة بحرية أمريكية لتدريب رجال القوات المسلحة على الأعمال العسكرية البرمائية ( في البر و البحر ).
2 – هو دايف بروبيك الملحن و عازف البيانو الأمريكي المولود عام 1920 . اشتهر في فترة الخمسينات و الستينات .
3 - ملحن و عازف ساكسوفون أمريكي ولد عام 1927 و توفي 1996 .
4 – موسيقي من لاس فيغاس. اشتهر في الستينات.
المصدر :
My Father Was a Writer , A Memoir .BY Andre Dubus III. Narrative Magazine. Issue : 8 Feb. , 2011.
2011

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow