Alef Logo
يوميات
              

عيد ميلاد الشهيدة مريم، وأمها

فاطمة ناعوت

2011-04-15

"أم الشهيدة مريم". هكذا أحفظ رقمها في هاتفي. أقرأ اسمَها على شاشتي، فأعرفُ أنني على وشك تجرّع شحنة عالية من الشجن، والشعور بالذنب. هو الذنب الذي يشعر به كل مصريّ حينما يشاهد صور شهداء الثورة الذين بذلوا دماءهم لكي يهبونا مصرَ حرةً، بعد عقود من الأسر في جبّة السلطان وحاشيته. لكن الشهداء فرحون إذْ طاروا إلى حيث تطير الأرواح الطيبة إلى ملكوت الله، غير آسفين على مبارحة أرضنا الموبوءة بالآثام والدموية، فطوبى لهم وهنيئًا. أما أمهاتهم، فهن اللواتي يتجرعن الوجع الأبديّ، فاستحققن بهذا أن نقبّل أياديهن وأقدامهن، فيما نتذكر أنهنّ جُدْنَ بفلذاتهن راضياتٍ صابرات، من أجلنا، ومن أجل مصر الطيبة. يجول في خلدي كل هذا بمجرد أن أرى اسمها على شاشة هاتفي. بدأت صداقتنا حين ظهر شهداء جدد لم تذكرهم "المصري اليوم" في صفحات "الورد اللي فتّح في جناين مصر". كلمتُ الأستاذ مجدي الجلاد فطلب إليّ مهاتفة أسرهم وجلب معلومات. بدأتُ بالفتاة الوحيدة بينهم: "مريم مكرم"، وما أن حدّثتُ أمَّها وسمعتُ نشيجها، لم أستطع إكمال المهمة، وتولّتها الزميلة مروة ياسين التي صنعت لهم صفحة جميلة بالجريدة.
30 أبريل عيدُ ميلاد مريم السادس عشر، التي ضاعت في لحظة، أمام عيني أمها يوم جمعة الغضب 28 يناير. التقطتها رصاصةُ أحد القناصة العميان فاخترقت صدغها وخرجت من رأسها الجميل. هرع بها أبوها إلى "مستشفى اليوم الواحد" فوجد 28 مصابًا، وطبيبًا واحدًا! لم يستطع سوى تضميد وجهها النازف، وأمر بعملية فورية. وفي "الدمرداش" انتظروا ساعات حتى تفرغ غرفةٌ، بسبب الأعداد المهولة للمصابين والقتلى، وبعد دس فوطة في حلقها لوقف النزيف الهادر بدأت رحلة العذاب بين الأقسام: أنف وأذن وحنجرة، جراحة، طوابق عالية صعودًا وهبوطًا يحملون الصغيرة المحتضرة، طرقات طوال، بين العنابر والأقسام ثم اشتد النزيف جراء كسر الفك وتهتك شرايين الوجه، وعند الصباح، أسلمتِ الصغيرةُ روحَها لبارئها لتبدأ مأساةُ أسرتها البسيطة رقيقة الحال. في انتظار تصريح الدفن كان ثمة أربعون شهيدًا ينتظرون تصاريحهم. ولما عيل صبر أبيها انتظارًا لوكيل نيابة لا يأتي، قرر أن يستخرج لها شهادة وفاة طبيعية. نصحوه: "سيضيع حق ابنتك!" فأجابهم: "أريد ستر ابنتي، وحقُّها عند الله لا عند البشر،." تلك هي الأسرة النبيلة التي أنجبت وربّت الطفلة مريم، حتى أسلمتها إلى مصر شهيدةً في عمر الزهور.
لم تكن مريم الابنةَ الكبرى لأمها، وفقط، بل صديقتها الوحيدة وحُلم عمرها. في الصف الأول الثانوي، لكن أمها سارعت بخطبتها وشرعت في تجهيزها لتفرح بذريتها التي لن تأتي أبدًا. ماذا تفعل أمُّ مريم الآن؟ تدخل غرفة ابنتها لتتفقد أشياءها البسيطة التي جلبتها من أجل زفافها، وتبكي. تدخل الشرفة في الصباح، فترى زميلات مريم في طريقهن للمدرسة، يرفعن رءوسهن إلى حيث شرفة مريم، فلا يشاهدن إلا دموع الأم تطفر عليهن في وجع. فابنتها لم تعد بينهن في زيها المدرسي تحمل حقيبتها وتلوح لها. هي حتى لم تحظ بكلمة وداع من ابنتها التي اقتنصتها الرصاصةُ أمام عجزها عن لهفتها. كل ما تذكره منها تلك الصرخة المبتورة، والعينان تغفوان غفوةَ الموت.
أمُّ مريم لا تقدر أن تواصل حياتها في البيت الذي يحمل رائحة الشهيدة بين أرجائه. تريد أن تنتقل إلى بيت آخر علّها تنسى، فتقدر على تربية طفليها المتبقيين. لكن القرش شحيحٌ يضنُّ بالقليل من الكثير الذي في جيوب مَن أهدروا دمَ ابنتها. كل ما تتمناه الآن هو الانتقال إلى شقة في بيت أهل زوجها. لكن عشرين ألف جنيه تحول دون ذلك! فهل أطمع أن يكون هذا هديةَ عيد ميلاد مريم، يقدمها أحدُ شرفاء مصر لتحقيق هذا الحلم البسيط؟ علّه يكون جزءًا ضئيلاً من دَيننا الضخم تجاه تلك الأمِّ، وكل أمهات وآباء شهداء مصر.
عن المصري اليوم

الكترونيا خاص ألف

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

يا الله، من رسم الخطوط حول الدول؟ ترجمة:

07-تشرين الأول-2017

«الشاعر» هاني عازر

20-تموز-2014

نوبل السلام لأقباط مصر

28-حزيران-2014

هنركب عجل

18-حزيران-2014

النور يعيد السيدة العجوز

11-حزيران-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow