إشراقة سليم سحاب وأعداء الحياة
خاص ألف
2011-06-10
أشرق «سليم سحاب» فى «دولة الأوبرا المصرية»، الخميس الماضى. أشرق المايسترو الذى نصفُه مصرىّ ونصفُه لبنانىّ، فى وسامته ونحوله وبدلته البيضاء وشعره الثلجىّ الثائر، فكأنما تشاهد عاصفةً من النغم، وتُنصتُ إلى وقع قلبك يدق مع كل حركة من عصاه، التى كأنما ريشةٌ ترسم لوحة الجمال. ربيبُ معاهد تشايكوفسكى هذا، كيف مرّن أذنيه على شجو النغمة العربية، فجمع حُسنَ الموسيقى من قُطبيه المتباعدين: الساكنِ أحدهما فى بلاد الصقيع، والمائجِ ثانيهما تحت دفء شمسنا الشرقية؟!
كلما نشدتُ الاتزانَ الروحىّ، ذهبت إلى «دولة الأوبرا»، كما أسمّيها. تدخلُ دار الأوبرا المصرية، فكأنما دخلتَ دولة مستقلة. أو كأنما دخلتَ مصرَ فى خمسينيات الزمن الجميل. وكما نحبُّ مشاهدة الجمهور الأنيق فى حفلات أم كلثوم القديمة، أحبُّ تأمل جمهور اليوم فى الأوبرا، لأتأكدَ أن الرقىَّ كامنٌ فى شعبنا، وإن تراكمت عليه طبقةٌ من غبار الصحارى، علينا أن نجلوها لنعود مصريين.
كان الاحتفالُ بذكرى محمد الموجى. وكانت الفرقةُ العربية للموسيقى. وكان المايسترو سليم سحاب. وكان الفنُّ الرفيع. وكان المسرحُ الكبير، قطعة الفن المعمارى المدهشة. وكان الجمهورُ يملأ ال١٢٠٠ مقعد، وأدوار البلكون الخمسة. الآن؟! فى هذه اللحظة المرتبكة، ثمة من يتوق إلى الموسيقى؟! نعم! بكل تأكيد.
فنحن شعبٌ خطير لا يشبهه شعبٌ آخر. يعرف كيف يصبر فى نبلٍ، وكيف يثور فى رقىّ، وكيف يسخر من المحن ويروّضها، وكيف، أثناء كل هذا، يخلق الفنَّ الرفيعَ، ثم يتذوّقه. بالرغم مما تمرُّ به مصرُ الآن من تخبّط وفوضى، بل من أجل هذا، كان لابد من الفنّ ولابد من سليم سحاب، ولابد من كل تلك الأصوات الواعدة التى يستحق كلٌٌ منها مقالاً مستقلّا، يُطمئننا أن مصرَ التى وُلِدَت قبل التاريخ، لا تنضب. ففيها، الآن، عشراتُ: «أم كلثوم» و«عبد الحليم». فقط يحتاجون إلى «الجواهرجى» الذى يكتشف أصالةَ الحجر الكريم، ويصقله. ولدينا، الشكرُ لله، هذا الجواهرجى، المايسترو، الذى يرعى تلك المواهب المدهشة، ويقدّمها.
والاحتفاءُ بالموجى، أشعر أنه احتفاءٌ بى شخصيا بدافع النوستالجيا. فقد كبرتُ على موسيقى الموجى، بحكم الجيرة التى ربطتنى بأسرته فى شارع «البرّاد» بالعباسية. ربطتِ الصداقةُ بين أمى، وبين زوجته الكريمة، «أم أمين»، رحمهما الله، مثلما جمعتنى ببعض بناته روابطُ الجيرة، والزمالة فى مدرسة كلية البنات القبطية. هو احتفاءٌ إذن بمصر المبدعة، عبر تكريم الموجى، أحد رموزها العالية، العابرة للزمن.
انظروا إلى المايسترو يصاحبُ كلَّ نغمة تطفرُ من آلات الأوركسترا، بكل عصبٍ من أعصاب جسده وعصاه. ثم يلتقطُ بأصابعه النغمةَ الأخيرة من الهواء، ويقدمها إلى المطرب أو المطربة، كإشارة لبدء الشَّدو. هنا درسٌ فى الجمال لابد ألا نضيّعه. لا أصدق أنه فى بلد واحد، ولحظة تاريخية واحدة، ثمة من يرفع عصاه فيُغرق الفضاءَ بالموسيقى والجمال، وثمة من يرفع مِعولَه فيهدم الوطن!
هل أحلم بأن تفرض الحكومةُ المصرية واجباً قومياً يُلزم المواطنين بالذهاب للموسيقى مرةً أسبوعياً؟ لو حدث، لاختفتِ الجريمة! صدقونى. هاتوا المُخرّبين الغلاظ أعداء الحياة، لحضور الأوبرات والباليه والموسيقى العربية والكلاسيكيات، وأعدكم سيخرجون على عكس ما دخلوا. لو لم تَذُب أرواحُهم حبا للوطن والناس ولخالق الناس، فلله الأمرُ من قبل ومن بعد، وإنهم لمأزومون لا شفاء لهم. فالموسيقى تُربّى الروح. تُهذِّبُها. تُشذِّبُها من النتوءات، وتُنقِّيها من الشوائب.
لذلك قال أفلاطون: «علّموا أولادَكم الفنَّ، ثم أغلقوا السجون». كان لابد أن تكون الموسيقى أمَّ الفنون وأباها، وليست العمارة والمسرح. مع احترامى لفكرة التقسيم الإغريقى للفنون. دعنا نقل إنها تاجُ الفنون. أنصتنا فى محراب الجمال بدولة الأوبرا، إلى اثنتى عشرة قطعةً من إبداعات الموجى المدهشة، كان لابد أن يختتمها المايسترو برائعة: «يا أغلى اسم فى الوجود»، التى انفجرت معها وطنيةُ الحضور، فغنّينا مع الفرقة، بصوت واحد قوامه الحبُّ لهذا الاسم الشريف: مصر.
[email protected]
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |