Alef Logo
يوميات
              

أنفي والجيرُ المبتّل

فاطمة ناعوت

2008-03-31

: "عزيزي الله، لماذا أنت مُختفٍ؟ هل هذه خدعةٌ مثلا أو لعبة ما؟"
هكذا يُقرُّ المعلمون في وعي الأطفال أن الله ساديّ متفرّغٌ لتعذيب الأطفال.

"عزيزي الله، مَن رسمَ الخطوطَ حول الدول؟" عنوان مقال كتبتُه مؤخرا بعمودي الأسبوعي بجريدة "الوقت" البحرينية. صحيحٌ أن المحررَ اختصر العنوانَ في السؤال وحسب، دون المخاطَب: "عزيزي الله"، وصحيحٌ أنه استبدل بلفظ الجلالة، في بقية المقال، كلمة "الرب"، لكنني، الحقُّ أقول، امتننتُ أن المقال نُشر وقد حدستُ أن يُحجب ويطلبوا سواه. فرِحتُ لأن نشره يعني أن ثمة بلدانًا عربية، عدا لبنان، لا يقصفون الأقلام ولا يُحجّمون الخيالات مهما شطحت. ذاك أن لا قانون ثمة يمنع التفكير والخيال، وبالتالي لا محلّ لقانون، سواء فعليّ أو عرفي، يمنعُ الجهرَ به. فرِحتُ!
والحقُّ أن المقال لا يخصّني إلا بقدر جهد الترجمة وبعض التقديم. وبالتالي هو شرفٌ لا أدعيه، وإن كانت تهمةً لا أُنكرها. بل تمنيتُ أن أكون فاعلتَها. سوى أن الفاعلَ الحقيقيّ شخصٌ أكثر مني جرأةً وحريّة وتحليقا. لأنه بعدُ لم يتعلم ثقافة قصّ اللسان وتهذيب الأظافر. الفاعلُ مجموعة من الأطفال الأمريكان طُلب إليهم توجيه رسائل إلى الله! نعم. ليس هنا العجب. العجيب هو أن المدرسة هي صاحبة هذا الطلب الجميل الشاعر. ثم، وهو الأعجب، أن يقوموا بنشر هذه الرسائل في الصحف. لم يُصفع الطفلُ الذي قال: "عزيزي الله، لماذا أنت مُختفٍ؟ هل هذه خدعةٌ مثلا أو لعبة ما؟" ولم يُتهم بالبله مَن سأل: "عزيزي الله، مَن يقوم بمهامك يوم إجازتك؟" ولم تُقم دعوى حسبة بتهمة الاستهانة بالمقدس على نورما إذ سألت: "هل فعلا كنت تقصد أن تكون الزرافة هكذا، أم حدث ذلك نتيجة خطأ ما؟" أو على من قال: "من فضلك أرسلْ لي حصانا صغيرا. ولاحظ أنني لم أسألك أيّ شيء من قبل، يمكنك التأكد من ذلك بالرجوع إلى دفاترك." ولم تُنهر التي سألت بكل براءة وعمق: عزيزي الله، مَن رسم هذه الخطوط حول الدول على الخريطة؟ فالبنتُ جميلةٌ بقدر جهلها بالسير سيكس والمسيو بيكو. وجميلةٌ طالما لم تقرأ عن آرثر بلفور ووعوده.
عديد من الإيميلات والمهاتفات وصلتني بعد نشر المقال. أصحابها معجبون بعمق الأطفال الغربيين وجرأتهم مقارنةً بأطفالنا. وكانت إجابتي: الأطفالُ في كل العالم متشابهون. عميقون وبعيدو النظر. ذاك أنهم بعد لم يُلوثوا بالمعرفة التي تحدُّ سقف الخيال وتؤطر المشهد بحدود الممكن والقانون والمنطق. الأطفالُ هُم هُم، هنا وهناك. سوى أن أطفالنا يتعلمون الصمتَ الأبديّ بعد أول صفعة أو زجرة من الأم أو المعلمة بمجرد طرح مثل هذا السؤال. ليتقن بقية حياته، لا أن يصمتَ عن السؤال وحسب، بل عن التفكير أيضا. ذاك أننا الأمة التي تعاقب على التفكير وسعة الخيال. امّةٌ تجيد قصقصة أجنحةَ الصغار إن هم حاولوا الطيران. حكى لي الروائي جمال مقار أن صديقا له سأل في طفولته: أين الله مادمنا لا نراه؟ فما كان من المعلمة إلا أن ضربته واستدعوا والده الذي أكمل عقابه المطوّل في البيت. وفي الزمن. فشبّ الفتى يخاف أن يفكر، يُطرق برأسه دائما حتى لا يضبطه أحدهم وهو يفكر!
حادثة مشابهة وقعت لي. كنت في مدرسة قبطية. معظم طلابها ومدرسيها مسيحيون. فكانوا في حصة الدين يعزلوننا، نحن الأقلية المسلمة، في فصل مجاور. لتعلّمنا المعلمةُ أن الله سوف يحرقنا إن نحن كذبنا، أو شتمنا، أو نظرنا في كراسة زميل، وسيقطع أوصالنا إن نحن خالفنا أوامر الماما، أو شردنا في الحصّة أو لعبنا ولم نذاكر. تقريبا كل ما يفعله الأطفال كان على قائمة عذاب الله. هكذا يُقرُّ المعلمون في وعي الأطفال أن الله ساديّ متفرّغٌ لتعذيب الأطفال. وحين يكبرون قليلا سوف يتساءلون: إذا كان الله سيحرق الأطفال إن لعبوا وتماكروا ولم يذاكروا الدرس، فماذا سيفعل إذن مع السفاحين ومبيدي الشعوب! ماذا سيفعل حيال الهولوكوست الصهيوني الراهن حيال أطفال فلسطين!!
أما حكاية أنفي والجير فلأنني حين سمعت كلام المعلمة وقفتُ وصرخت فيها: بس أنا عاوزه أقرا ميكي وألعب من غير ما يحرقني ربنا، حعمل كده من وراه! ومازالت رائحة الجير المبتّل والعشب الرطب تملأ رئتي حتى الآن. ذاك أنهم أوقفوني في الفناء تحت المطر حتى نهاية اليوم الدراسي. وجهي إلى الحائط الجيريّ، وذراعاي مشرعتان لأعلى!

بالاتفاق مع الكاتبة
بعد نشرها في جريدة المصري اليوم

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

يا الله، من رسم الخطوط حول الدول؟ ترجمة:

07-تشرين الأول-2017

«الشاعر» هاني عازر

20-تموز-2014

نوبل السلام لأقباط مصر

28-حزيران-2014

هنركب عجل

18-حزيران-2014

النور يعيد السيدة العجوز

11-حزيران-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow