Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

موكب الموت – من مذكرات أليستير إيركهارت ترجمة :

صالح الرزوق

خاص ألف

2011-08-06

لم أرقد و لو للحظة في تلك الليلة. و أغلقت عيني بإحكام لأمنع بعض الصور المرعبة من الوضوح . و لم يتبق غير خيالات و هم يقودوننا إلى الإعدام. و تصورت أنهم يقودوننا إلى حقل ليطلقوا علينا النار من الخلف ، أو ليقتلونا بنيران الرشاشات على الشاطئ ، أو ليطعنونا بالحراب و ربما ليقطعوا رؤوسنا فوق ظهر سفينة يابانية حربية.
و في اليوم اللاحق ، ألقيت تحية الوداع على الصغار . كنت أشعر كأنني أغادر عائلتي و إلى الأبد و من جديد. و لم يحاول أحد أن يعترض طريقي ، فهم يعلمون أن هذا تصرف غير مثمر ، و لكن عيونهم فضحنت مقدار الخوف و الاهتمام. و عندما شرعت بالمغادرة قبض فريدي على ذراعي و بعينين مخضلتين بالدموع قال : " سوف نلتقي مرة أخرى أيها الوغد".
ذهبت إلى ميدان الفوج ، و حاولت قدر المستطاع أن أتماسك. و على الرغم من القلق توجب علي أن أركز بما ينتظرني. و انضم لي عشرون أو ثلاثون من مغاوير غوردون الذين يبلغ تعدادهم خمسمائة أو ستمائة تمركزوا قرب شانغي في ذلك الوقت. و بفطنة من اليابانيين لم يرسلوا باقة كبيرة من الرجال من نفس الفوج و في وقت واحد. كانوا يتوخون الحذر دائما و يحتفظون بنا منفلصين عن بعضنا البعض. و لم يتم اختيار أحد من متطوعي ماليزيا ممن كان في معسكر سيلارانغ من أجل هذه المهمة الغامضة مهما كانت.
و بدأ الضابط الياباني المسؤول يصيح بلغة سريعة ، و بواسطة المترجم سمعنا بالأخبار " المبشرة ". قال لنا " لقد وقع عليكم الاختيار لأنكم أفضل الرجال لهذا الواجب. سوف تذهبون إلى معسكر استجمام ، و هناك ستقومون بالعمل لثلاثة أيام ، و تحصلون بالمقابل على أربعة أيام استراحة ، و تتناولون الطعام الوفير ، و تعيشون في ظل ظروف ممتازة و شتشعرون جميعا بالسعادة لو أديتم العمل بمهارة ".
وصلت الأخبار لضباطنا أننا سننتقل إلى " معسكرات استجمام " خاصة حيث الطعام هناك أكثر مما هو في سنغافورة. في هذه المعسكرات المنصوبة على الهضاب سوف نتلقى البطانيات و الثياب و شبكات الحماية من البعوض ، حتى أن الغراموفونات موجودة في المعسكر الجديد مع اللوازم الطبية التي يجهز بها المستشفى الجديد. و لن يطلب منا القيام بمسير ما عدا لمسافات قصيرة من القطارات و حتى المعسكرات المجاورة ، و المواصلات متوفرة أيضا من أجل المرضى و المعسورين و لنقل الحقائب. و سيكون هناك مجال أوسع للمرضى حتى يتماثلوا للشفاء في " مكان أخاذ و مرتفع و لا تنقصه كل مستلزمات السعادة".
على بعد آلاف الأميال كان حليف اليابانيين في أوروبا و هو ألمانيا النازية يطلق نفس الوعود الوردية حول " إعادة تأهيل " عوائل اليهود في الشرق. و قد اقتنع بذلك بعض الرجال الذين هم بأمس الحاجة للإيمان بحظهم الذي حان أوان تبديله ، و شعروا بالغبطة لأن الفرصة مفتوحة أخيرا لملء البطون و للهرب من العبودية على المرافئ. و على الفور انطلقت صيحات التهليل و الفرح الغامر قائلة : " هيا بنا إذا " و " يا لها من حياة كسل و سعادة !". و لكن شخصيا شعرت أننا على وشك التعرض لمذبحة. و مع ذلك تمسكت بحبال الصمت ، و أطبقت فمي بإحكام. لقد رأيت بأم عيني قدرة اليابانيين و استعدادهم على الغدر و الخشونة و لم أصدق حكاية الديك و الثور هذه... حكاية " معسكرات الاستجمام ". و كم من المدهش أن عددا كبيرا من المعتقلين آمن بها.
و أخيرا ذهبنا إلى سنغافورة على ظهور الشاحنات ، و هذه أول مرة يتسنى لي فيها رؤية العالم منذ إلقاء القبض علينا قبل سبعة شهور. و لكن لم أتمكن من استيعاب ما يجري.. فالحياة تجري بمسارها المعتاد في سينغافورة مع أن المباني محروقة و مهدمة بالقنابل ، لقد عاد الصينيون لنشاطهم الطبيعي : الاهتمام بالطعام و الحركة بصوت مرتفع و قتل الوقت بلعبة المربعات الصينية و المقامرة و قيادة الدراجات الهوائية و هم يحملون الصيصان في أقفاص مربوطة بقضبان للتوازن. كان كل شيء يمر بشكل شريط من الضوضاء و الألوان الكامدة. فركزت اهتمامي على المكان الذي يقودوننا إليه . و بهذا الخصوص كان ضباطنا يعلمون أننا سنرحل في النهاية بالقطار ، أما نحن فلم نكن نعلم ذلك.
و في لحظة الوصول إلى المحطة ، رأينا مفرزة من السجناء البريطانيين. تعرفت على الثياب النظامية الخاصة بمغاوير أرغيل و ساذيرلاند و على ثياب المدفعية الملكية. و غمرتني رؤية هذا العدد الكبير منهم بالطمأنينة. فهم لن يقدموا على قتلمنا جميعا. كان مئات الرجال يتسكعون من حولنا ، بحركات بطيئة و ينظرون شزرا لرشاشات اليابانيين. بعض السجناء حشر في شاحنات معدنية صغيرة تصلح لنقل البضائع ، و هم بشكل مجموعات عشوائية من خمسة و ولاثين إلى أربعين نفرا.. و دمج اليابانيون الجميع في زمرة واحدة ، و فصلوهم عن مفرزة حراسهم. أما بعض المعارف و الأصدقاء الذين تعرضوا للتباعد حاولوا أن يبذلوا ما بوسعهم كي لا يحصل ذلك.
كانت هذه الشاحنات تستخدم في السابق لنقل البضائع كالرز و السكر و المطاط. و هي تبدو أشبه بكانتينات معدة للإبحار غير أنها صغيرة و بأبواب جانبية ضخمة. و أولئك المحشورون و المعصورون في الشاحنات توسلوا و هم يحملون الحقائب القماشية ، و يختنقون بسبب من كان على متن السيارات قبلهم ، قائلين : " لا يوجد متسع لكل ذلك. بالكاد نستطيع أن نقف على أقدامنا".
و هنا التفت عريف شاب من مغاوير غوردون و كان يقف بجانبي في الشاحنة و قد انتقل معي من شانغي ، و قال : " أتمنى لو نحصل على عربة مجهزة بالمقاعد".
و صاح عريف آخر بتهكم : " إي. ربما سيارة بنافذة . أو ربما بترولي لتقديم المشروبات الروحية. لا شك أن الحرارة الآن تسعون درجة. و الله يعلم كم ستبلغ في داخل تلك الشاحنات".
ثم تحركنا من الجزء الخلفي من الشاحنات لننضم إلى أسراب السجناء الذين تجمعوا في القطارات. و شعرت بالدوار و الاختناق. و خيم علي جو من الرعب القاتل. كان الرجال يتراقصون في أماكنهم و يبدلون القدم التي يقفون عليها دون أي بريق بفكرة عما يجب أن يصنعوا بأنفسهم. و انتاب الرعب مغاوير غوردون الذين كانوا منذ قليل مبتهجين لأننا في الطريق إلى معسكر استراحة. قال بعضهم : " أخبرونا أننا سنكون في ظروف تشبه بولتنز. هذا لا يبدو لي أشبه بعطلة. نحن في طريقنا إلى الموت".
و مع اقترابنا من القطار استطعت أن أسمع صوت قبضات تدق و صيحات مرعوبة تأتي من العربات المقفلة : " افتحوا الأبواب. افتحوا الأبواب. لا نستطيع أن نتنفس. افتحوها. افتحوا ".
أمسكني ياباني و فصلني عن معظم أفراد غوردون الآخرين ، و رماني في عربة لا على التعيين و كان يصفعني على رأسي. طلبت منه أن يذهب إلى الجحيم. ثم دخلت في العربة التي تبلغ مساحتها ثمانية عشر بعشر أقدام. و فيها حوالي ثلاثون رجلا آخر. وقفت قرب الباب لأنه ليس بوسعي أن أشق طريقي. كانت مزدحمة على نحو خرافي و لا توجد أية مساحة للجلوس. صاح الياباني و أشهر أمامنا الحربة. و كان علينا عمليا أن نتنفس بشكل جماعي لنؤمن مساحة مناسبة حتى يمكن إغلاق الأبواب. و عندما أقفلوا الأبواب سمعت بانتباه لصوت رنين السلاسل و القفل و هي تمسك بقبضات الباب ، و هو صوت ممرض أصبح معروفا لملايين الرجال و النساء طوال الحرب العالمية الثانية. يا له من صوت يبعث على الكآبة في كل الظروف. إنك تتلقاه كعقوبة بالموت و أنت في ذلك الصندوق الفولاذي الضيق.
خطر لي إنه لا يمكن حتى للحيوانات أن تنقل بهذه الصورة. و حتى يزداد سوء الوضع كانت جوانب العربة المعدنية ملتهبة بالحرارة. و هي تحرق الجلد الذي يحتك مباشرة معها و لو باللمس ، و هذا جعل الحياة مهمة شاقة. و بالأخص أنه لا تتوفر مساحة كافية . لم أعرف أحدا من الموجودين في العربة. و كانت العتمة مطبقة حتى أنه ليس بمقدورك أن تشاهد ملامح الوجوه و لكن فقط الخطوط العامة و الأشكال. و شعرت بالعزلة المطلقة. حينها كان متاعي كله يتكون من بذة مهترئة أرتديها و قبعة صغيرة مضمومة حول رأسي و علبة قديمة و صور عزيزة حملتها من الوطن و أودعتها في طيات جيبي الخلفي.
وقفنا هناك لساعات قبل أن يبدأ القطار بالحركة. و الحرارة تنذر بالشر المستطير. لقد تعرضت للجفاف السريع و اقترن هذا مع الملاريا التي أعاني منها و شعرت من جراء ما يحصل بإعياء مفرط. و لم يكن لدى أحد فكرة كم ستطول بنا هذه الرحلة و ما هو نوعها ، و لكن شعرت أنه لم يعد أمامي لحظة واحدة. عدا اليأس و الكآبة كنت أعاني من الرهاب.. فقد كان الوضع كالمدفون على قيد الحياة.
فجأة شرع القطار يتقدم و بدأ يقرقع و يزمجر و سريعا ما زادت سرعته. و ما أن تحركنا حتى حاول بعض الرجال فتح الأبواب.
جمعوا قواهم ، و تكاتفوا بطريقة ما ، و هم يلعنون هذه الحفلة و الروح السادية التي يتحلى بها السجانون. و في نقطة التقاء مصاريع الباب توفر فراغ بمقدار بوصة من السقف حتى الأرض و على الأطراف بمقدار نصف بوصة ، و سمح ذلك لبعض الضوء بالدخول ، و الآن و نحن نتحرك ببطء شديد توفرت لنا نسمة عليلة. و مع إدراكنا أن الاقتراب من الباب ميزة مهمة ، بدأنا نتناوب عليه كل نصف ساعة. المشكلة أننا لم نكن نعرف الوقت و لا سيما في الظلام لأن اليابانيين استولوا على ساعاتنا ، و لكن فعلنا ما بوسعنا. و كانت الفجوة في الباب تقدم لنا خلاصا ضئيلا من مصيبة العربة.
و أصبحت الرائحة في العربة لا تطاق . من غير دورات مياه توجب على الرجال أن يرتاحوا في أماكنهم حيث يقفون. و عدد منهم كان مصابا بالملاريا و الدزنتريا و الإسهال. و هكذا أغمي على عدد منا ، و اضطر آخرون للإقياء. و كان الغبار يطير من حول العربة و يلسع عيوننا و يفاقم من العطش غير المقبول.
و أخيرا و بعد ساعات من الدوران بالمكان مثل زومبي ، مع جهد مضاعف أبذله كي لا أصاب بالجنون ، حان دوري لأستمتع بالفجوة . وضعت أنفي خارج الضريح المعدني و الذي نتعرض فيه للسلق و استنشقت الأنفاس بعمق. يا للسماء. كان الهواء مشبعا بالحرارة الدافئة و معطرا برطوبة الأدغال. كان طازجا . لذلك تفانيت لأحمل معي مقدارا كبيرا منه يصلح للتنفس. و للأسف لم تستمر هذه السعادة إلا لفترة وجيزة. و بمجرد أن انتهت فرصتي دفعتني الأكتاف من قرب الفجوة ، لأعود إلى سلطان الظلام و إلى الرائحة المتعفنة التي انتشرت في مقصورة العذاب التي تسير على دواليب.
و لم تكن لديما فكرة عن هدفنا و لكن لأن جزيرة سنغافورة عند النهاية الجنوبية من مقاطعة ماليزيا و المياه تحيط بنا من كل جانب علمت أننا نتجه إلى الشمال .
و هو كل ما نما له علمي.
المرجع :
The Forgotten Highlander , by : Alistair Urquhart. Little brown 2011.
الترجمة صيف 2011

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow