Alef Logo
يوميات
              

قال لي الأحدبُ: تعاليْ فأنا أحبُّك أيضا!

فاطمة ناعوت

2008-01-17

جيرانُنا في الدور السابع بإحدى عمارات حي العباسية العريق بالقاهرة قرروا الانتقال إلى بيت آخر. حمّالون يصعدون وآخرون ينزلون على ظهورهم قطع أثاث وحقائب وصناديق ممتلئة أغراضا وأدوات
سفرة. وكتب. أنا، في السادسة من عمري، أقف جوار المصعد أتأمل المشهد وأتساءل: لماذا يترك الناس بيوتهم؟ وإلى أين يمضون؟ وكيف يحمل هذا الرجل على ظهره هذه الخزانة؟ وماذا داخل الخزانة؟ تاريخٌ طويل من البشر، وحكايات لا تنتهي للثياب والملابس ورابطات العنق. أبادر بدخول المصعد فألمح كتابا صغيرا يسقط من صندوق فوق ظهر أحد العمال. أفكر للحظة أن أركض وراءه لأنبهه، لكن "الشرير" داخلي يجعلني أسرق الكتاب وأصعد إلى شقتنا في الدور الثالث. سأخبئ الكتاب ليومين في مكان سري من خزانتي اعتدت أن أخفي داخله كنوزي الصغيرة. "أحدب نوتردام"! ما معنى "أُحْدُب"؟ هكذا كنت ألفظها. وما معنى نوتردام؟ يبدو أنه شيءٌ طلسمي مما اعتدت أن أراه في مكتبتنا! لكن سرًّا ما سيدفعني للقراءة لتكون أول عمل أدبي أقرأه بعد سنوات من قراءة ألغاز "المغامرين الخمسة" لمحمود سالم، فضلا عن المكتبة الخضراء وميكي وتان تان وغيرها من قصص الأطفال.
كوازيمودو وأزميرالدا. الأول رمزٌ للقبح الشكلي والتشوّه الخَلقيّ، فيما الثانيةُ رمزٌ للجمال الجسدي الفاتن. لكن كليهما يجتمعان في جمال الإنسان ورقيّ الروح. أحدبُ، يحمل فوق ظهره نتوءًا شاذا سيجعل منه أضحوكة باريس القرن الثاني عشر، له عين واحدة فيما الثانية ضامرة مقفلة. لا يجيد الكلام إلا بلعثمة مرتبكة. مما سيحدو بأهالي باريس لانتخابه "أميرا للحمقى" في احتفالهم السنوي. لم يكن كوازيمودو سوى لقيط وجده قس كنيسة نوتردام على بابها في فجر أحد الصباحات الباريسية القارسة. تركته أمه بليل ربما لدمامته وبشاعة تكوينه. يلتقطه القس ويربيه ليجعل منه أداةً طيعة ينفذ أوامره دون تفكير أو إرادة. ثم يغدو قارع الأجراس الضخمة في الكنيسة مما يفقده السمع، لتكتمل عاهاته. أزميرالدا، يعني زمردة، البنت الغجرية التي ترقص في احتفال الحمقى في صحبة عنزتها التي تجيد السحر. سمراء ممشوقة ذات شعر جعد فاتن. تسلب ألباب كل الحضور ومنهم قس الكنيسة الذي يحاول أن ينالها دون جدوى فيخطفها ويسجنها في غرفة بأحد أبراج الكنيسة تمهيدا لحرقها بتهمة السحر والشعوذة وفقا لعادة أوروبا القروسطية. يدخل عليها الأحدب محاولا استرضائها لكنها تجفل من بشاعته. أحبها لأنها الوحيدة التي لم تسخر من عاهاته وسقته جرعة ماء حين كبّله القس بالأغلال في ساحة الميدان عقابا على مخالفته أمره وخروجه من الكنيسة استجابة لنشوة الفرح بلقب "أمير الحمقى" جاهلا بكمّ السخريات التي يضمرها الباريسيون فيما يتوجونه بالتاج الورقي. أحبها، وأشفقت عليه. كان في وجودها حيّةً دليلٌ له على وجود الجمال الإنساني المكتمل. الروح والجسد. لذلك حارب البشر جميعا من أجل البقاء عليها، صد بجسده المعوّق بوابة الكاتدرائية الضخمة فيما الباريسيون يحطمونها بجذوع الأشجار ملوحين بشعلات النيران طلبا للساحرة الملعونة. ولما قتلها القسُّ في الأخير، لم يتمالك كوازيمودو نفسه فقذف بربيبه وسيده الأوحد القسّ من أعلى برج الكنيسة الشاهق ثم جثا على ركبتيه يبكيهما معا قائلا: هؤلاء كل من أحببت! ثم يدفن نفسه معهما حيًّا ليحفر الناس القبر بعد شهور فيجدوا هيكلين عظميين متعانقيْن، أحدهما لفتاة، والآخر لمسخ بشري أحدب الظهر. حين حاولوا فصل الهيكلين يتفتتان عظاما صغيرة.
قرأتها أكثر من خمس مرات. وجعلني الافتتان بها أبحث عنها في لغات أخرى فقرأتها في ترجمات عن الفرنسية بالإنجليزية والعربية. نحن لا ننسى أول رواية قرأناها ولو بعد مائة عام. سيما إذا كان الكاتب فيكتور إيجو. عرفت تفاصيل الكاتدرائية غرفةً غرفة وبرجا برجا وجرسا جرسا. وحين أدخل كلية الهندسة قسم العمارة سأدرس الكنيسة في مساقطها الأفقية والرأسية كأحد أجمل القطع الفنية التي أفرزتها المدرسة القوطية Gothic Architecture في القرن الثاني عشر. شيء يشبه الحلم وأنا أتتبع بقلمي الرصاص كل خطوط الكنيسة. النوافذ الدائرية بزجاجها الملون المعشق، الأبراج الشاهقة، المنمنمات والحفائر والمنحوتات بالغة الدقة والجمال، الأجنحة الطائرة، تماثيل الملائكة التي تعدُ الخطّاءين بالمغفرة. حتى الأرشيدوق فرولو وكوازيمودو رأيتهما في بعض أروقة الكنيسة وعند المحراب. كأنني أسير داخلها في صحبة الأحدب الذي لم أره يوما إلا وسيما ساحرا. وحين أزور باريس لأول مرة يسألني الرفاق أين تريدين أن تذهبي؟ فأقول أحلم بزيارة نوتردام، فهي بيتي الأول. أقف على ضفة نهر السين وأتأمل البناية الشاهقة، وألمح كوازيمودو يلوح لي من أحد أبراجها هاتفا: تعالي يا ناعوتة، فأنا أحبك أيضا!
جريدة "النهار"- بيروت
بالاتفاق مع المؤلفة




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

يا الله، من رسم الخطوط حول الدول؟ ترجمة:

07-تشرين الأول-2017

«الشاعر» هاني عازر

20-تموز-2014

نوبل السلام لأقباط مصر

28-حزيران-2014

هنركب عجل

18-حزيران-2014

النور يعيد السيدة العجوز

11-حزيران-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow