Alef Logo
يوميات
              

سيرة رجل عادي جداً

جهاد أسعد محمد

خاص ألف

2011-12-03

"أحمد. ع" هو شخص سوري عادي جداً، اضطر منذ ستة أشهر للتواري عن الأنظار بعد أن بات مطلوباً لعدة جهات "تنفيذية" بتهم مختلفة، ولم يعد يظهر للعلن إلا بصورة مفاجئة في مظاهرة هنا أو تشييع هناك، أو لدقائق قليلة في مجالس عزاء الشهداء، ثم يعود ويختفي فجأة كأنه لم يظهر أبداً...
هكذا، تحول العازب المخضرم "أحمد. ع"، الرجل الأربعيني الساهم غالباً، ذو الوجه البني المطبوخ واللحية الشعثاء الرمادية، من إنسان هامشي لا يرد اسمه في الأحاديث والثرثرات إلا للتساؤل الخبيث عن سبب عزوبيته والغمز من "فحولته"، إلى علَم تتناقل سيرته ألسن الرجال في السهرات باعتباره أحد أبطال المرحلة، كما أصبح حديثاً شهياً للنساء فيما بينهن مع قهوة الصباحات على سبيل الثرثرة، وأسطورة عند الأطفال واليافعين ورمزاً للثائر الشجاع.. وقد رسّخ كل ذلك في الأذهان أنه أصبح منذ عدة أشهر سبباً في غارات متكررة ومداهمات مباغتة تُشن على حيه في جميع الأوقات، وخاصة قبيل الفجر..
تعرفتُ على "أحمد. ع" في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وكان لافتاً بالنسبة لي ولعه بإفساد الصور الفوتوغرافية.. حينها لم يكن يقع في يديه كتاب أو مجلة أو جريدة إلا وكان يفسد كل الوجوه المتبسمة للكاميرات فيها خلال دقائق قليلة وبلمسات عبقرية.. وجوه الزعماء والرؤساء والوزراء والمدراء والمخاتير والفنانين والرياضيين والأدباء وأبطال الإعلانات...إلخ، كانت أهدافه الدائمة.. وكان يتفنن في وضع الإضافات أو محو الزوائد بحسب الوجه المستهدف وما ينقضه أو يفيض عنه من وجهة نظره: هذا يضع له نظارة، وآخر يزرع له لحية، وتلك يطيل لها أنفها ويحلق لها شعرها، وذاك يضع في فمه سيجارة أو سيجاراً أو يخفي له صلعته، أو يلبسه قبعة أو طربوشاً، أو يخلع عنه "اللفة" ويطيل له شعره... وهكذا... ولم تقتصر "تحسيناته" أو تعديلاته للوجوه على كتبه الخاصة، بل كانت تقدّم له كتب الصف كلها والمجلات الرياضية والفنية عن طيب خاطر ليمارس هوايته على صفحاتها.
أما الفرحة الكبرى عنده، فكانت في أوقات الحملات الدعائية لانتخابات الإدارة المحلية أو "مجلس الشعب"، حيث كان يقضي أوقاتاً طويلة في الشوارع يعيد تكوين ملامح وجوه المرشحين بالصورة التي يشاء، وكثيراً ما كنا نرافقه في جولاته فنقدم له الاقتراحات ونحصل على بعض الترفيه والتندر والضحك، وأحياناً كنا نضطر لرفعه على أكتافنا ليتمكن من مطاولة الصور العالية.
لم يكن يثني "أحمد" عن ممارسة هوايته أي شيء، لا تهديدات المعلمين، ولا إنذارات إدارة المدرسة، ولا غضب مرشحي الحي للانتخابات البلدية ووعيدهم له ولأهله.. حتى حين جاءت سيارة "استيشن" ذات مرة، وأخذته من المدرسة بسبب "تعديه على صورة الرئيس" ولم ترجعه إلا بعد ثلاثة أيام بملامح جديدة وألوان متعددة في وجهه وجسده، لم تمنعه من الانتقام من الرئيس في اليوم ذاته، بطريقته وألوانه وأفكاره الخاصة..
لكن اللافت في تلك الأيام المليئة بالخوف والصنمية والشعارات الكبرى، أن أحمد لم يكن يقرب وجوه الشهداء وقادة الثورات.. كنا نتصفح كتاب التاريخ الخاص به أو بنا فنجد اللوردات والجنرالات وقادة الجيوش والسياسيين والعلماء والمفكرين والزعماء التاريخيين... وقد أصبحوا يمتلكون وجوهاً أخرى، أما الثائرون والمجاهدون فكانت عيونهم الخاصة وجباههم الخاصة على حالها، لم يمسها تشويه أو تغيير.. سألته مرة: "وشو مشان هدول؟ ليش مانك فلتان عليهم؟، فأجابني دون تفكير: "هدول أبطال أحرار.. الله خلقهم على أحسن تقويم!".. والحقيقة أنني لن أعرف بدقة أبداً سبب إعجابه، وربما تقديسه، لـ"حسن الخراط" و"عبد الكريم الخطابي" على وجه الخصوص، فالجميع أبطال من وجهة نظره، "بس هدول غير شكل!!".
هواية أحمد كانت مفيدة لبعض من حوله، فكثيراً ما كان الأصدقاء والمعارف، بمن في ذلك الشباب الأكبر سناً منه بكثير، يقدمون له صور خصومهم أو "صاحباتهم الخائنات" لكي يشوهها لهم، وكان يرفض أن يأخذ مقابل ذلك شيئاً، فـ"الناس لبعضها"، و"اللي بيصير ع رفقاتي بيصير عليي".. وحتى حين ترك المدرسة مطروداً ليعمل دهاناً، ومن ثم خطاطاً، لم يتوقف عن تقديم خدماته لأصدقاء الدراسة مجاناً، لأن "العشرة لا تهون إلا على ابن الحرام"..
لكن حكاية طرده من المدرسة تبقى هي المنعطف الحاسم في سيرته، فقد تطورت هوايته مع مرور الزمن من إفساد الصور، إلى تشكيلها، فراح يرسم الناس بطريقة خاصة على جدران المدرسة: فالمدير هو رأس كبير ووجه أجرب وله ذيل حمار، والموجه وجه يتكون من أنف كبير حاد وفم واسع يتسع لأربعة "كوسايات" وجسد كلب، ولمدرب الفتوة رأس كبير ووجه كشر وجسد بغل طنبر، ومعلمة "القومية" وجه نصفه شفتان غليظتان ونصفه عينان بقريتان داعرتان وجسد يتكون من طيز ونهدين فقط!، وكان يكتب تحت كل صورة شرحاً ساخراً بلغة مكسرة مليئة بالبذاءة، ولكن بخط رائع..
طُرد أحمد من المدرسة بعد افتضاح أمره، ولم نعد نشاهده إلا لماماً لالتهائه بالعمل، لكن كثيراً ما كنا نرى آثاره على أشجار الحور قرب النهر موقعاً بالحروف الأولى لاسمه واسم حبيبته (د) التي لم نعرف يوماً من تكون، أو على صورة مشوهة لأحدهم، أو من خلال عبارة حب أو شتم على أحد الجدران.. أو لاحقاً، من خلال حكمة مخطوطة على واجهة بقالية أو مطعم.. بعدها مر زمان طويل، مر على نحو مرعب وشديد القسوة والغطرسة ومفرط بالعبث، وكبر الفتيان، وشاخ الرجال، وضاعت الذكريات أو أغلبها مع تغير ملامح الحي ووجوه قاطنيه، وغاب أحمد عن اللوحة الاجتماعية ولم يفطن إليه أحد..
بدءاً من أواخر آذار الماضي، عاد "أحمد. ع" من أغوار الذاكرة البعيدة إلى مسرح الواقع الراغب بالانقلاب على نفسه، عاد ليمارس هوايته التي لم يستطع يوماً الإفلات من براثن إغواءاتها، وعدنا نجد بصماته على الجدران واللافتات، تارة على شكل رسوم، وتارة على شكل حروف، وأغلب الأحيان على شكل كلمة واحدة لم يترك نوعاً من الخطوط المعروفة إلا وخطّها بها: "حرية".. وكان يسير في النسق الأول في كل مظاهرات الحي، بصدر عار وعينين تشعان فرحاً مؤجلاً من عقود، وقلما كانت تنفض مظاهرة دون أن يصاب بضربة هراوة أو بلكمة من "شبّيح".. حتى انتهى أوان الهراوات القصير وجاء وقت الرصاص الحي، وأصبح اسمه في رأس قائمة المطلوبين بتهم متعددة تبدأ من "التحقير" و"التحريض" وصولاً إلى "عضو في عصابة مسلحة"، فقرر التواري، وعدم الظهور إلا حين يكون للظهور فائدة..
في حيّه، حيّنا، حيّكم، ما يزال أصحاب الخوذ والجعب والقطع المعدنية يحتلون الصباحات، ويسارعون لملء الجدران بالشعارات الكلاسيكية وكلمات العبودية المجانية، أما في الليل فيظهر أحمد من مكان ما، ويمحو ما غصت به النهارات المخادعة من هراء، ويعيد للشوارع بهائها بتسطيره كلمة "حرية" على كل جدار، وعند كل منعطف، وفي واجهة كل دكان.. بعض الأطفال يؤكدون أنه أصيب حتى الآن بألف رصاصة في الكمائن التي نصبت له، لكنه لم يمت.. ويصرون أنه لن يموت أبداً.. وذات نهار قريب ستكون كلمة "حرية" منقوشة على كل الجدران، ولن يجرؤ أحد على محوها حتى الأبد...

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

"ميسّي".. قلب هجوم الثورة السورية!

08-أيار-2012

البطة الفوسفورية السمينة

07-نيسان-2012

الحراك الجماهيري.. وأزمة النظام والمعارضة

02-نيسان-2012

مؤامرة.. مؤامرة!

31-آذار-2012

قصة حذاء

25-آذار-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow