Alef Logo
يوميات
              

البطة الفوسفورية السمينة

جهاد أسعد محمد

خاص ألف

2012-04-07

إهداء إلى أبطال حي "برزة" الدمشقي.. لا أحد يشبههم أبداً!
أخذ منهم النقود وأعطاهم البطة السمينة التي انتقوها، وقبل أن يمضوا في سبيلهم استوقفهم وتوسّل إليهم: "اسمعوا يا شباب، كرمى لله والنبي لا تقولوا إنكم اشتريتم البطة من عندي.. يعني فكركم خرطت بمشطي قصة إنكم رايحين سيران وبدكم تذبحوها وتشووها؟ مفكرين إني حمار وما عرفت على شو ناويين". اكتفوا بالتبسّم له دون وجل أو تأثّر بالغ، وغادروا المزرعة الصغيرة وهم يتهامسون بخبث، بينما بقي هو بعقوده السبعة متجمّداً في مكانه شبه نادم، يتابع خطواتهم المسرعة وقلبه يخفق بشدة، ثم، دون وعي أو تعمّد، وجد نفسه يتمتم: "الله يحميكم.. الله يحميكم".
بعض فتية "برزة" أولئك، الذين ما انفكوا منذ أكثر من عام يبتكرون في كل مظاهرة شيئاً جديداً يخفف عنهم وطأة وآلام تتالي سقوط أقرانهم وإخوتهم وآبائهم شهداء أو جرحى أو أسرى، ويدفعهم للانخراط بفاعلية أكبر في انتفاضة الحرية العظيمة، ويزجهم أكثر في حلقة الموت التي تحاصرها.. قرروا هذه المرة أن تكون البطة السمينة نجمة المظاهرة التالية!
في ظهيرة اليوم التالي، تعالت صيحات التكبير من كل الأزقة بالرغم من الحصار الأمني والعسكري الخانق، وما هي إلا دقائق حتى احتشد الآلاف من أبناء الحي وضيوفهم في مكان واحد واسع نسبياً غير مكشوف للحواجز والقناصين، فنظموا صفوفهم استعداداً لجوب الشوارع الخلفية للحي وراحوا يهتفون للحرية.. في هذه الأثناء ظهر الفتية وهم يحملون البطة السمينة التي طلوها بالفوسفوري، فوقفوا قبالة المتظاهرين، وأطلقوها أمامهم، فتحلّق الجميع حولها على غير اتفاق، وهم يضحكون ويتندرون.. بعدها أصبحت للمظاهرة نكهة مختلفة، فالغناء كله للبطة، والهتافات كلها للبطة، واختلطت شعارات "الإسقاط" بمواصفات البطة، وترافقت شعارات "الإعدام" بتاريخ ومستقبل البطة، أما البطة ذاتها، فبدت مندهشة في البداية، لكنها شيئاً فشيئاً ألفت ما يجري، فراحت توقوق وتبطبط تارة، وتصفق بجناحيها تارة، وتخبّ بين الأرجل بتثاقل الأميرات تارات..
أكثر من ساعة والحناجر تهدر، إلى أن حضر أحد الكشافين مستعجلاً، حاملاً خبر تقدّم سيارات الأمن وآليات الجيش باتجاه المظاهرة.
استعد الجميع نفسياً للمواجهة المعتادة التي لم تتوقف طوال أكثر من خمسين جمعة: صدور عارية في مواجهة رصاص حي وفوهات بمناظير مخفية، والتي حصدت عشرات الشهداء، وأوقعت مئات الجرحى، بعضهم باتوا أصحاب إعاقات دائمة..
دقائق ترقّب قليلة ثم يظهر المدججون.. يثبت المتظاهرون في مكان احتشادهم ويعلو هتافهم أكثر ليتغلبوا على خوفهم وضجيج نبضهم المتزايد. يتقدم ركب الموت منهم.. يتقدم ببطء بينما هم ثابتون، ثم يلعلع الرصاص.. يتطاير في الأفق ترهيباً فلا يرهبهم، ثم لا يلبث أن يصيب بعض الجدران والأبواب حولهم تلويحاً بمجزرة جديدة.. حينئذ يطلب قادة المظاهرة من الناس أن يتفرقوا.. يتفرقون هرباً من الموت الذي بات وشيكاً.. تخلو الساحة منهم، وتبتلعهم الأزقة التي امتلأت بسيارات الأمن التي راحت تطاردهم وتحشر من تصيدتهم بشكل عشوائي في الباصات المسيجة المعدة لابتلاع أعداد جديدة منهم في كل جولة..
تبقى البطة الفوسفورية السمينة وحيدة في المكان الذي لم يسقط فيه شهداء أو جرحى هذا اليوم بشكل استثنائي.. لم يفكر أحد بها وسط الجلبة، وربما لم يجرؤ أيّ من البرزاويين، المتظاهرين وغير المتظاهرين، أن يحملها لبيته الذي سيتعرض حتماً للمداهمة كما جرت العادة، فهي تهمة خطيرة بحد ذاتها! حتى رجال الأمن وعناصر الجيش الذين عجّ بهم المكان تعاموا عن وجودها، وأخفى كل منهم ابتسامته عن زملائه لكي لا تُحسب عليه فيدفع ثمنها غالياً!
تدخل برزة في ذلك اليوم، كما في معظم الأيام، بما يشبه حظر تجول. يختفي الناس من الشوارع والأزقة، وتُغلق المحال، وتوصد الأبواب والشبابيك، وتُرخى جميع الأباجورات خوفاً من الرصاص المتطاير، ولا يبقى يغطي الإسفلت إلا جنازير الآليات الثقيلة وإطارات السيارات ذات اللوحات الخضراء وبساطير العسكر والطلقات الفارغة.. بالإضافة إلى البطة الفوسفورية السمينة التي راحت تنازع القطط المشردة على تقاسم طعام الحاويات وهي تصيح بأعلى صوتها، الذي يقال إنه لا صدى له..
من خلف النوافذ، ظل سكان برزة يسمعون صوت بطبطة البطة لساعات.. ثم انقطع كلياً لأسباب مجهولة..
يؤكد البعض أن بعض عناصر الجيش الذين ذبحهم الجوع وسوء التغذية والأكل الرديء ذبحوها وشووها في تلك الليلة نكاية بعناصر الأمن الذين ما انفكوا يحصلون على أفضل الوجبات..
ويؤكد البعض الآخر أنهم شاهدوها على مدار أيام تالية تتصارع مع القطط على التهام الفضلات إلى أن يصيبها رصاص قنّاص فتسقط في حاوية مكتوب عليها: "حديقة ومطعم الشبيحة"..
ويزعم آخرون أن الفتية الذين اشتروها من المزرعة أعادوها للمزارع العجوز ورفضوا استعادة ثمنها، لأنهم استثمروها بالشكل والمدة التي يريدون..
حدث هذا في أواخر آذار الماضي.. لكن حتى الآن ما يزال مصير البطة مجهولاً!.
[email protected]

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

"ميسّي".. قلب هجوم الثورة السورية!

08-أيار-2012

البطة الفوسفورية السمينة

07-نيسان-2012

الحراك الجماهيري.. وأزمة النظام والمعارضة

02-نيسان-2012

مؤامرة.. مؤامرة!

31-آذار-2012

قصة حذاء

25-آذار-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow