Alef Logo
يوميات
              

إخوة الدم!

جهاد أسعد محمد

خاص ألف

2012-02-04

عاد النقيب عدنان إلى قريته الجبلية الصغيرة.. عاد إليها صامتاً تماماً، وهادئاً تماماً على غير العادة.. عبرت السيارة التي تقله من ساحة البلدية دون أن يوقفها ليسلّم على خاله "أبو سلمان" صاحب البقالية الوحيدة الموجودة في القرية، ثم تجاوزت "رعش الجوزة" دون أن يترجل منها ليلقي نظرة إلى البحر البعيد ويلوّح لعمه "أبو نزار" الرابض منذ الأزل في "الحاكورة" الغربية.. بل إنها لم تطلق "الزمور" أمام بيت أخته الأرملة "حوا" ليخرج بِكرُها "علي" ويتناول منه كيسي الفاكهة واللحوم.. السيارة التي تقله، وهي غير سيارة "الجيب واظ" التي كان يحضر فيها عادة، تابعت سيرها صعوداً، ولم تتوقف إلا أمام بيت ذويه الغائص في الغيم.
لكن أحداً لن يستاء منه اليوم، أو يكنّ له كرهاً عميقاً أو عابراً، فالظرف مختلف، ولا يشبه بشيء ظرف الإجازة الأخيرة قبل ثلاثة أشهر، التي أمضاها النقيب عدنان في القرية وعدّ أيامها الأربعة أسوأ أيام حياته.. اليوم، القرية كلها في مزاج خاص!.
في تلك الإجازة التشرينية القصيرة، اضطر النقيب عدنان للقيام بأشياء لم يتصور لحظة قبل ذلك أنه سيقوم بها.
في عصر اليوم الأول، بعد وصوله بساعتين فقط، ربط أخويه اليافعين التوأم "حسام" و"وسام" على جذع سنديانة البيت، وقام بجلدهما خمسين جلدة على مرأى الجيران بعد أن عرف أنهما يعملان مع متعهد التشبيح "أبو حكمت الحرامي"، وأنهما لم يتوقفا عن النزول إلى "جبلة" كل جمعة للمشاركة في قمع مظاهراتها، ولم يعتقهما إلا بعد أن أقسما بالهم والأولياء أن يكفّا عن ذلك.
وفي صبيحة اليوم التالي، اضطر إلى طرد أمين الفرقة الحزبية في القرية "أبو سليم" حين لم يتوقف عن شتم "الكلاب والعرصات والخونة" أبناء معظم المدن والأرياف السورية العملاء لأميركا وإسرائيل.
وفي السهرة الشهيرة في اليوم ذاته، تصادم مع نصف الجيران والأقرباء والأصحاب الذي جاؤوا للسلام عليه، لأنهم راحوا يشككون بوطنيته صراحة بعد أن سمعوا منه كلاماً مختلفاً عن كل ما سمعوه من بقية ضباط وصف ضباط القرية المتطوعين في الأمن والجيش.. لم يرضهم أنه رفض تخوين المتظاهرين، واستنكروا تأكيده عدم وجود أمراء سلفيين ومخربين مندسين في معظم مناطق الاحتجاج، وأغضبهم إصراره على أن بعض الضباط الذين يعرفهم أعطوا أوامر بقتل العزّل والنساء والأطفال، وبعضهم شريك أو متواطئ في عمليات الخطف، ووصل حنقهم منه إلى أقصاه عندما اتّهم بعضهم بالطائفية.
وفي اليوم الثالث، كاد يتعارك مع شقيقه الملازم أول "غسان" الذي يخدم في حمص، حين علم أنه سيطلّق زوجته "الكردية" التي لم تكف عن التوسل إليه للتوسط في إطلاق سراح أخيها "الخائن العرعوري"، الذي اعتقل في إحدى مظاهرات "ركن الدين" وسيق إلى أحد فروع الأمن بدمشق..
أخيراً، وقبل سفره بساعة عائداً إلى قطعته العسكرية بحماة، دخل في حوار عقيم مع ابن عمه المساعد أول المتقاعد "نزار"، الذي ظل يلف ويدور حول فكرة واحدة: "إذا خربت الأمور، بنعمل دولة هون وخلصت السيرة!"، ولولا أن زوجة نزار "المدللة" نادته ليبدل لها جرة الغاز لأدى الجدال معه إلى معركة!.
لم يخفف من وطأة تلك الإجازة المنحوسة على النقيب عدنان سوى وقوف أبيه "الشيخ يوسف" وعمه "أبو نزار" وبعض العقلاء إلى جانبه في أغلب ما يقول، ودعاء أمه والعجائز: "الله يفرجها ويحمي هالبلد وأولاد هالبلد"، والنقاش الهادئ مع بعض الأصدقاء القدامى حول ما يجري في البلاد ودور الإعلام الرسمي والعربي والرصاص الأعمى في تفعيل النزعات البدائية بين أبناء الوطن الواحد..
لم يستطع النقيب عدنان حينها أن يتفوه بكلمة واحدة عن الضغوط التي يواجهها أثناء خدمته.. لم يستطع أن يبوح لأحد بما شهده في درعا، ثم في حمص، ثم في حماة.. لم يجد لغة تعبّر عن خوف الناس من زيّه المبرقع ومن لهجته الجبلية في المدن الغاضبة التي تنقل بينها.. لم يجد متسعاً من الإنصات ليشتم الضباب والغبار وانعدام الرؤية والأوامر المريبة والاختلاطات الفظيعة أمام أحد.. حتى زوجته وولده اليافع "مضر" لم يسمعا منه طوال عشرة أشهر إلا تنهيدات خرساء لا فكّ لطلاسمها.
الآن، وبعد ثلاثة أشهر على تلك الزيارة الخريفية، ها هو النقيب عدنان يعود إلى مسقط رأسه برأس مثقوب من الخلف.. ها هو يعود جثة باردة بملامح كئيبة هامدة.. ها هما عيناه المطفأتان تغلقان الطريق أمام أجوبة الأسئلة المتأخرة.. ها هما يداه لا تستطيعان جلد ضالّ أو نهرَ غبي أو التلويح لقريب يعمل في "حاكورة" مقابل البحر.. ها هي القرية، كل القرية، تصعد إلى بيت ذويه الغائص في الغيم.. تصعد ببطء وهي متشحة بالسواد والحسرة والخوف.. ها هو نحيب النساء يمتزج بالغيم ويصعد إلى السماء ثم يهوي مع البرَد..
ها هو صوت الأم المبحوح يصرخ معترضاً: "أولادهم للقصور.. وأولادنا للقبور"، لكن لا يسمعه أحد وسط أزيز الرصاص.. الرصاص الذي يحتفي بالشهيد الذي قُتل برصاصة من الخلف.. رصاصة قريبة غادرة في أسفل الرأس!.
[email protected]

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

"ميسّي".. قلب هجوم الثورة السورية!

08-أيار-2012

البطة الفوسفورية السمينة

07-نيسان-2012

الحراك الجماهيري.. وأزمة النظام والمعارضة

02-نيسان-2012

مؤامرة.. مؤامرة!

31-آذار-2012

قصة حذاء

25-آذار-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow