Alef Logo
يوميات
              

لا شيء يحدث هنا

جهاد أسعد محمد

خاص ألف

2012-02-18

أفاق السكان صبيحة الأربعاء 15/2/2012 ولم يجدوا حاجزاً واحداً من عشرات الحواجز التي كانت تفصل بين أحياء وأزقة بلدتهم "الغوطانية" المحاصرة.. المتاريس اختفت، والدُّشم أزيلتْ، والآليات العسكرية الخفيفة والثقيلة سُحبتْ، والقمامة المتراكمة بين الحارات كُشطت ورُفعت.. حتى جدران الشوارع الرئيسية المليئة بالشعارات والعبارات المؤلهة والموحِّدة والمهددة بحرق البلاد وإهلاك أهلها طُليت.. وهكذا، فجأة، لم تبق ملامح نافرة جداً يمكن أن تفضح الحصار الخانق الذي ضُرب على هذه البلدة طوال نحو شهر، والدم الذي سال فيها طوال نحو عام، إلا بعض الحواجز الثابتة الرابضة على مداخلها وعبّاراتها، وإلا وجوه الناس.. الناس الذي لم يُعتقلوا، أو يُقتلوا، أو يهجّروا قسراً من بيوتهم.. حتى ذلك اليوم على الأقل.
الغريب أن كل ذلك لم يدفع معظم الأهالي للاستبشار، بل إنهم، في الوقت القصير الذي سبق تكشّف السبب، توجّسوا ريبة وتوقّعوا الأسوأ، واختفى الكثيرون منهم من الشوارع، وأغلق عدد من أصحاب المهن التجارية دكاكينهم وورشاتهم ومحلاتهم التي أمسوا لا يفتحون أبوابها إلا ما ندر منذ بدء الانتفاضة. فـ"أبو مصطفى" الحلاّق، وبعد أن فتح محله لدقائق، عاد وأغلقه وقفل عائداً بسرعة إلى بيته، فأنزل زوجته وأطفاله إلى قبو البناية تحسّباً لاحتمال أن تتعرض البلدة للقصف بالطيران! وكذلك فعل جاره النجّار المفلس "أبو مسعود"، وأخوه السمّان "أبو عصام"، أما "أم ابراهيم" التي استشهد أصغر أبنائها أثناء قمع إحدى المظاهرات واعتقل أخوته الثلاثة الباقون لأنهم شيعوه بمظاهرة حاشدة، دون أن تنهار، فقد غادرت بيتها العربي الكبير برفقة أحفادها الخمسة وكنّتيها إلى بيت أخيها بدمشق، خشية أن يتم انتهاك أعراض البلدة وحرمات بيوتها، وهي التي لم ترفع الراية البيضاء على الرغم من الحصار الشديد لها وحملات الدهم والاعتقال التي لم تتوقف فيها أبداً..
في حوالي الساعة الحادية عشر قبيل الظهر، ظهرت بعض ملامح الخديعة.. عدة باصات صينية خضراء مليئة بـ"الشبيحة" وعناصر أمنية باللباس المدني دخلت إلى البلدة، وتوقفت في إحدى ساحاتها وترجل منها مَن فيها، ثم غادرت بسرعة، أما المترجّلون فراحوا يتجولون في الشوارع وهم يحملون أكياساً مليئة بالخضار والفاكهة، وأخذوا ينهرون من تبقى من الناس فيها: "على بيوتكم.. يالله.. يالله ولاه.. تضرب منك إلو.. يالله أحسن ما نشحطكم عالفرع..."، لكنهم في الوقت نفسه منعوا أصحاب المحال المفتوحة من الإغلاق.. وحين خلت الشوارع تقريباً من المارة وسط دهشة الأهالي المتوارين خلف نوافذ البيوت المعتمة، تبادلوا نظرات الاطمئنان وراحوا يتلفتون حولهم مترقبين..
بعدها بدقائق قليلة ظهر موكب طويل من السيارات يرافقه بعض درّاجي شرطة المرور، فعبروا جميعاً من شارع البلدة الرئيسي، وتوقفوا في الساحة ذاتها، وترجّل منها لأول مرة منذ ما قبل اشتعال الاحتجاجات، عدد من حملة الكاميرات التلفزيونية والفنيين والمراسلين وانتشروا في الأنحاء القريبة، وراحوا يصورون بناء على إيماءات دليل خبيث بملامح صارمة يرافقهم..
ليس عن جهل يقيناً، ولا عن غباء أو استغباء طرف لطرف، بل عن تواطؤ سافر من الجميع غالباً، لم يجد إعلاميو "الدنيا" و"وروسيا اليوم" و"المنار" و"شينخوا" و"العالم".. والتلفزيون الرسمي "الوطني" بأفرعه، في الشوارع إلا من أعدوا أنفسهم لاستقبالهم.. وعليه فقد أجروا اللقاءات معهم، فراحت الشهادات المصورة تنهال من "الشبيحة" الذين رسموا على وجوههم الوداعة والمسكنة، لتؤكد أن كل شيء طبيعي في البلدة: الأسواق عامرة، والبضائع متوفرة وليست غالية كثيراً، ولا أحد غاضب أو خائف.. وجميع الأهالي يريدون القضاء على "العصابات المسلحة" الآثمة التي تعيث فساداً وترويعاً وإجراماً، ليعود الأمن والأمان للبلاد، وأن القلوب كلها هنا تلهج بحب القيادة الحكيمة الرؤوم والجيش الوطني الباسل..
نصف ساعة في الساحة كانت كافية ليشاهد أبناء البلدة في المساء بلدتهم على بعض الشاشات الفضائية "الوطنية" و"الصديقة" وهي تحمد وتشكر وتبجّل وتندد بالمتآمرين على سلامة "الوطن" ووحدة "الشعب".. لا رصاص هنا، ولا انتهاكات ولا كهرباء مقطوعة أو اتصالات محجوبة أو شوارع مغلقة، وليست هناك مطالب بتسليم جثث بضعة شهداء، وكشف مصير عشرات المفقودين، وإطلاق سراح مئات المعتقلين.. كل شيء على أفضل ما يكون.. أما قبل ذلك، فما إن خرج الوفد الإعلامي، حتى رجعت الباصات الصينية الخضراء وازدحمت مجدداً بمن أقلتهم إلى هنا، وانطلقت بهم قافلة من حيث قدمت، ثم عادت الحواجز العسكرية والأمنية، والآليات الخفيفة والثقيلة، والدشم، والمتاريس، والشعارات المؤكدة: "(هو) أو لا أحد.. (هو) أو نحرق البلد".. عادت لتملأ الشوارع والأزقة والساحات.. وعاد القهر ليتراكم في الصدور بانتظار أن يتفجر في جولة جديدة قادمة لا محالة..
هنا، في هذه البلاد، لا شيء بخير.. إلا الأمل...
[email protected]

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

"ميسّي".. قلب هجوم الثورة السورية!

08-أيار-2012

البطة الفوسفورية السمينة

07-نيسان-2012

الحراك الجماهيري.. وأزمة النظام والمعارضة

02-نيسان-2012

مؤامرة.. مؤامرة!

31-آذار-2012

قصة حذاء

25-آذار-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow