Alef Logo
دراسات
              

لو لم يكن اسمها فاطمة للسوري خيري الذهبي

محمد برادة

2008-03-04

"لو لم يكن اسمها فاطمة" رائعة السوري خيري الذهبي الأخيرة سيرة بلاد في حاجة إلى من يزيل الغبار عنها
"تنطوي رواية «لو لم يكن اسمها فاطمة>للكاتب السوري الكبير خيري الذهبي على مفارقة سردية لافتة، يسعى عبرها صاحب «التحولات» إلى مقاربة منطقة روائية مختلفة عما أنجزه قبلاًً، إذ طالما اهتم هذا الروائي السوري بتخوم التاريخ وتحولاته وعبوره إلى ضفاف شخصيات مأسورة في مصائرها الأكيدة.
في روايته «لو لم يكن اسمها فاطمة » (روايات الهلال)، يستنجد خيري الذهبي بمعجم آخر أقل بذخاًً وخشونة، وبجملة روائية بسيطة تواكب اليومي ومفرداته، في مشهدية تستمد عناصرها من مهنة الشخصية المحورية «سلمان»: مخرج سينمائي عاطل من العمل بعد تخرجه في أحد معاهد السينما الأوروبية، توقفت أحلامه منذ زمن في إنجاز فيلمه الروائي الأول، فلجأ إلى كتابة سيناريوات مؤجلة، ومشاريع لم تر النور، ومتابعات نقدية لأفلام الآخرين، وقصص حب محبطة، كادت تطيح به، لو لم ينل أخيراً فرصة استثنائية، تتعلق بتحقيق مجموعة من الأفلام التسجيلية عن «المدن الميتة» في الشمال السوري، بتكليف من قناة سينمائية فرنسية.
هكذا يغادر دمشق إلى تخوم الصحراء، لتصوير مجموعة أفلام تسجيلية عن مدن كانت يوماً ما، رمزاًً وملتقى لثقافات المتوسط، قبل أن تدمر وتتحول مجرد أعمدة رخامية وحجارة مهدمة، بعدما هيمنت على البلاد ثقافة الطيف الواحد والتي يشبهها الراوي بالبيزنطية الجديدة.
فور وصول فريق العمل إلى إحدى الاستراحات على ضفاف نهر الفرات، تهب عاصفة رملية تنتهي بأمطار غزيرة، لينكشف المكان عن الطين والغبار والصمت والظلام. وفي هذا العماء اللوني، يجد سلمان نفسه أمام امتحان آخر، وسط أركان السلطة المحلية، هؤلاء الطفيليين الذين ينهشون المدينة بلا رأفة وكأنها أحد الجمال المعلقة للشواء في ليالي الصحراء.
لكن سلمان لا يلبث أن يدخل عالماً سحرياً، يحمله إليه شخص مجهول يدعى غسان، إذ يجد نفسه في متاهة صحراوية غرائبية، حين يقوده إلى منزل لا يشبه بقية بيوت المدينة الكالحة والقبيحة. وهناك يواجه مصيراً من نوع آخر، يضعه على محك تجربة جديدة، حين يقترح عليه قراءة سيناريو سينمائي عن المدن الميتة بعنوان «لو لم يكن اسمها فاطمة ». في ذلك المنزل يكتشف لوحات مرسومة بحنان لغزلان جريحة تحمل توقيع فاطمة .
من هي فاطمة ؟ أليست هي أمه ذاتها، وقد كانت رسامة عاشت حقبة من حياتها في هذه المدينة قبل أن تتحول ركاماً، ولكن من هو غسان وما علاقته بأمه؟
أسئلة لن يجد سلمان اجوبة نهائية عنها إلى آخر الرواية، وآخر السيناريو الذي وضعه غسان أمامه ثم اختفى.
كان السيناريو يحكي قصة فاطمةأو «فاتيما» كما كان الجنود السنغاليون يرددون اسمها في شوارع دمشق، حين تعبر امرأة ما بجوارهم. لكن فاطمة هذه، أحست بإهانة كبيرة من تصرفات الجنود، فأقسمت ألا تخرج من بيتها ما دام في المدينة جنود سنغاليون. وهذا القسم سكون «مانشيتاً» صحافياً ساخناً في إحدى الصحف المحلية، قبل أن ينتقل إلى الصحف الفرنسية زمن الانتداب الفرنسي على سورية، وهو تحريض غير مقبول ضد الانتداب، مما يجعل اسم فاطمة بمثابة فضيحة لدولة الانتداب.
سلمان من جهته، لم يكن يعرف إلا وجهاً واحداً من وجوه أمه، فاطمة التي تداعب شعره في حضنها بحنان، وتغني بصوت خفيض «حوّل يا غنام حوّل». أما هذا السيناريو الغرائبي، المكتوب بخط فارسي أنيق، فإنه ينبش تفاصيل مثيرة عن هذه المرأة الشامية التي أحبها ثم تزوجها موظف صغير يعمل في البادية، قبل أن يصبح مديراً للمال في إحدى المدن الصحراوية.
ما يثير سلمان وهو يتوغل في قراءة المخطوط، ثراء حياة هذه المرأة وتعدد المرايا التي تعكس صورتها، وهكذا يجد نفسه حائراً بين التلصص على حياة امرأة هي أمه، يعرفها جيداً، وحياة امرأة أخرى، امرأة متخيلة على الورق، ثم على الشاشة في حال حقق شريطاً عنها، فهي شخصية سينمائية بامتياز، خصوصاً حين يكتشف أن والده «ركني البندقدار» ذا الأصول التركية، شغف بها لأنها تشبه غريتا غاربو معشوقته في صالات السينما، تلك التي بحث عنها في مواخير دمشق وحلب وبيروت من دون أن يلتقيها أبداً، إلى أن ساقت الأقدار إليه فاطمة في كل بهائها وطغيانها وسحرها. شغف الحكاية يقود الراوي إلى شغف السرد الروائي واللعب في الأزمنة وتعدد الأصوات. فالمخطوط لم يكتب من وجهة نظر واحدة، إذ تتناوب أصوات عدة في تأثيث حياة فاطمة ، مما يجعل المخرج يقع في حيرة والتباس إضافيين. وتتصاعد حدة اللعبة، حين يكتشف أن المخطوط يتغير باستمرار كلما غادر الغرفة، فمرة يجده مكتوباً بالخط الفارسي، وتارة أخرى بالخط النسخي، ثم الديواني، من دون أن يعلم من يقف على الضفة الأخرى للحكاية.
فها هي شخصية جديدة تدخل على الخط لتطيح بطمأنينته، شخصية ضابط فرنسي يدعى فيليب أوغستان (الحاكم العسكري) للمدينة الميتة، هذا الرجل الصارم والغرائبي، هو من سيضيء ما خفي عن الابن من سيرة الأم، حين يروي في مخطوطه الخاص، أنه هو من علمها الرسم، وهو أول من أهداها القماش والألوان، وسيبحث سلمان بعينين تنهبان السطور نهباً، عن لحظة تعارفهما، وهل سبق أن نشأت علاقة حب بين فاطمة والضابط المهووس بالرسم والموسيقى والقتل؟
سيرة فاطمة لا تتوقف عند حدود الدوائر الضيقة للشك، إنما تزداد اتساعاً بالتوازي مع توغل المخرج السينمائي في قراءة المخطوط، وتحولاته السردية بين الأنا والآخر. ففاطمة هي أول امرأة شامية تخرج سافرة أمام الغرباء، وهي أول من أعلن الاعتصام في وجه الاحتلال الفرنسي، وهي كذلك أول امرأة تتحدى الأعراف المحلية وتقود سيارة، فيما تتوضح صورة «ركني البندقدار» عن شخصية مهزوزة في مرآة الرواة، صورة الرجل الانتهازي والشهواني المتواطئ مع الظروف في سبيل صعوده في السلم الوظيفي. وستتجلى ارتباك سلمان ودماره الداخلي في محاولة الفصل بين الوقائع وبين التخييل في هذا المخطوط الغريب الذي لا يحمل اسماً صريحاً لمؤلفه، من دون أن يتخلى عن موقعه كصاحب كاميرا من جهة، وصاحب خيال روائي من جهة أخرى. موقعان يتشابكان للوصول إلى حقيقة مستحيلة لتأكيد هويته الشخصية مرة، ولتصور بصري لأحداث فيلمه المحتمل مرة أخرى، حيث تتناوب حالتا الحب والكراهية لشخصية فاطمة بما يشبه المأساة الأوديبية، تبعاً للضمائر السردية المتبدلة، والتي بدت أقرب إلى لعبة عبثية، تحركها أصابع مؤلف رواية بوليسية بحبكة متقنة. وهذه الحبكة هي أحد وجوه السرد المتناوب التي سعى خيري الذهبي للاشتغال عليها كخط مواز لتشكلات الحكاية الروائية، بما فيها أسئلة الكتابة ذاتها. ففاطمة في واحدة من تجلياتها، هي النسخة الشرقية من «غريتا غاربو» في مدينة التماثيل والأعمدة المحطمة، والسؤال المؤجل لغواية الحكي، قبل أن تتكشف الحقائق دفعة واحدة، عندما يكتشف سلمان متأخراً، أن غسان هو من اخترع هذه التجربة، وأن المحطة الفرنسية لإنتاج الأفلام، ليست أكثر من وهم، صنعه غسان نفسه، وأن الحقيقة الوحيدة، هي أن المدن الميتة، ليست هي تلك المدن الأثرية، والأوابد القديمة، إنما هي مدن اليوم التي غطاها رمل الفساد وحولها إلى حجارة قبيحة، ورماد، بعد أن نهشها طفيليو المرحلة بكل غطرسة وعنف.
صورة فاطمة كما يرسمها خيري الذهبي كراو إضافي لمجموعة رواة المخطوط، هي الوجه الآخر للوحات التي كانت ترسمها هذه المرأة: غزالة تسعى للطيران لحظة القنص، غزالة جريحة في خاصرتها، مثلها مثل المدن الميتة، وما السيناريوات المتبدلة التي يقترحها الراوي المجهول على عدسة المخرج، إلا إشارات للحال التي وصلت إليها البلاد اليوم، وفي معنى آخر هي صورة لمخطوط في حاجة إلى تنقيح وتصحيح، وإلى من يعيد كتابته على نحو مختلف.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

لو لم يكن اسمها فاطمة للسوري خيري الذهبي

04-آذار-2008

مدام بوفاري» تبلغ سنتها المئة والخمسين وسحرها ما زال مشعاً

07-تشرين الأول-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow