Alef Logo
دراسات
              

العلويون والسلطة في سورية (1/2)

سمير سليمان

خاص ألف

2012-11-17


العلويون والسلطة
سمير سليمان / خاص ألف /
نجاح البدايات
تفردت الطائفة العلوية عن بقية الطوائف الدينية ـــ الإسلامية منها وغير الإسلامية ــــ بافتقادها لمؤسسة دينية تؤطرها. مؤسسة تأخذ دور المرجعية الروحية والدينية لهذه الطائفة، وتعمل على صياغة وتشكيل العلاقة مع بقية الطوائف الدينية الأخرى، ومع الكل الاجتماعي السوري. مؤسسة يتعرف أفراد الطائفة من خلالها على أنفسهم كذوات بدلالة هويتهم الدينية، وعلى بعضهم البعض بدلالة التعاليم والتعاريف المعطاة لهم من قبل تلك المرجعية. مؤسسة تعيد باستمرار، صياغة سرديتهم الخاصة، وتاريخهم الخاص، ضمن رواية عامة لنشوئهم، في زمن ما، وتطورهم التاريخي. وتعطيهم أيضاً، الصورة النمطية التي يستطيعون، من خلالها، تقديم أنفسهم للآخر المختلف عنهم دينيآ. إضافة للأدوار الأخرى والعديدة التي تؤديها كأية مؤسسة دينية أخرى. تتكلم باسم رعاياها، وتنوب عنهم، وتمثلهم في معظم الأحيان.
تحتكر المرجعية الدينية لأية طائفة أو جماعة دينية، على العموم، التمثيل الديني لتلك الطائفة، وتحصرها بذاتها، ولاتقبل أية شراكة في هذا الأمر،ولو أدى ذلك إلى انشقاق الطائفة أو الجماعة التي تمثلها. فانشقاق أية طائفة دينية، غالباً مايستتبع انشقاق مرجعيتها الدينية السابق لانشقاقها،والمكرس له. ولذا يندر وجود طائفة ذات وزن في أي مجتمع دون مرجعية تمثلها كطائفة، والعكس صحيح، فلا وجود لهيكلية قيادية دينية - إيديولوجية على العموم - دون رعايا، يمثلون طائفة خاصة تتبع لها.
وإضافة لاحتكار التمثيل الديني، وباعتبارها سلطة، تجهد المؤسسة الدينية إلى احتلال، واحتكار، كل أشكال ومستويات التمثيل لجماعتها الدينية، وصولآ، إن أمكنها ذلك، إلى الإستقلال عن تلك الجماعة، واستتباعها لها، ومن ثم قيادتها استبدادياً.
ولأن المجتمع الحديث، بمستوى التطور الحقوقي والثقافي الذي أنجزه، لم يعد يسمح للمؤسسات الدينية أن تحل محل الدولة، فقد تراجعت سلطة تلك المؤسسات ودورها التمثيلي إلى المستوى الذي يفرضه هذا التطور، وتحدد هذا الإنكماش في حده الأدنى بالبعد الروحي وطقوسه الملحقة به عند الرعايا المخلصين، وذلك في المجتمعات التي أنجزت حداثتها الشاملة. أما في المجتمعات التي لم تحقق هذه الحداثة سوى جزئياً، كالمجتمع السوري، فقد بقيت المؤسسة الدينية،على العموم، تشارك السلطات السياسية القائمة، سلماً أم عنفاً، في صياغة وتشكيل البنى الاجتماعية، سياسياً وثقافياً، عبر الحضور الدائم في حراكها الاجتماعي والسياسي، وتجاذباته.
والسؤال المراد طرحه الآن هو : كيف أمكن لطائفة صغيرة في سورية، خرجت من أسفل القاع الاجتماعي السوري، طائفة بلا مرجعية وبلا تاريخ، طائفة تبدو منقوصة أو عرجاء، أن تستجمع ذاتها من هامشية الوجود، وضحالية الفعالية،لتطفو على سطح المجتمع السوري بكليته، وتستولي في لحظة غفلة وانشغال، على الدولة ومؤسستها العسكرية، لتساهم بعد ذلك في بناء سلطة استبدادية شمولية استطاعت ابتلاع الدولة والمجتمع وهضمهما لأكثر من نصف قرن ؟ وماهي العملية التاريخية التي تناغمت مع خصوصية الطائفة العلوية لتحقيق هذا النجاح الباهر، في تلك الفترة القياسية ؟ وأيضاً، لماذا لم تعمل تلك الطائفة على بناء مرجعيتها الدينية التي يكثر الكلام حولها هذه الأيام، خلال تلك السنوات الطوال، وخصوصاً أن الموقع الذي احتلته في قمة السلطة يتطلب ذلك ؟.
الجواب الوافي لهذا السؤال أصعب من امكانيةكاتب هذه المقالة، الذي لايطمح إلا إلى "فتح الحديث " في موضوع يحاذره الكثيرون. والحذر هنا، ليس بداعي التطير من " الحديث الطائفي " فحسب، بل بسبب الموضوع ذاته، وصعوبة الخوض فيه. وتأتي أولى الصعوبات، من موضوع الحديث : الطائفة العلوية. فهذه الطائفة لاتملك تاريخاً مكتوباً خاصاً بها، ومعتمداً من قبلها كطائفة، بحيث يمكن للدارس أن يفصل بين المرويات التي تقبلها الطائفة وتعتمدها، وبين تلك التي تنكرها أو ترفضها. هذا أولآ. وتأتي الصعوبة، ثانياً، من خصوصية العقيدة الدينية لهذه الطائفة، بشكلها ومضمونها. فهذه العقيدة تطبعها سرية غير مبررة إسلامياً، وغير مفهومة شعبيآ، إضافة لطابعها الصوفي الذي لايولي طقوس العبادة ومظاهر التدين قدسية واضحة كما عند بقية الطوائف الإسلامية، مما يعيق من قبول الطائفة العلوية كطائفة مختلفة يؤطرها الإسلام، ويضفي الشك والريبة على شرعيتها " الإسلامية "، وشرعية وجودها الإجتماعي بالتالي، من وجهة نظر المجتمع الديني المسلم طبعا. ويعزز هذا الشك، وتلك الريبة، عجز رجال الدين العلويون عن الدفاع عن عقيدتهم،بمنطق " إسلامي " مقبول من الطائفة الإسلامية الكبرى في سورية، الطائفة السنية. فالبنية الفلسفية لتلك العقيدة، الغير مقبولة إسلامياً، والمشتقة عموماً من فلسفات فارسية شرقية ويونانية ماقبل إسلامية، شكلت الهيكل الفلسفي لتفسير مفهوم العلويين الخاص - إن صح التعبير - " للإسلام " ول " تاريخ الإسلام "، أي إسلامهم وتاريخهم. كما فعلت كل الطوائف الإسلامية الأخرى، في ادعاء أن روايتها عن الإسلام والتاريخ الإسلامي، هي الحقيقة الوحيدة.
من ناحية أخرى، كان العائق الرئيسي لتناول موضوع الطائفة العلوية في الكلام العلني، أو الدراسات المنشورة، عائقآ من طبيعة مختلفة، لايتعلق بالطائفة ذاتها ولا بالعقيدة، بل عائقاً يتعلق بسياسة النظام السوري المضمرة تجاه هذا الموضوع، ومخططاته الخاصة باستعمال هذه الطائفة كأداة ثمينة لتأبيد سيطرته. فإذا كان تحريم الكلام في الطوائف قد ابتدأ على أسس من " ثورية " و " علمانية " الفكر والنظام البعثي في مرحلة ماقبل حافظ الأسد، النظام الذي كان قائماً على إيديولجية متشددة تستبعد الدين عن الحياة السياسية، فإن حافظ الأسد قد حرص على الاحتفاظ بهذا التحريم لأسباب إضافية غير معلنة، ليس أهمها أنه ينتمي لأقلية طائفية، وإنما لمنع الطائفة العلوية من بلورة هويتها الخاصة والمستقلة، عبر تشكيل مرجعيتها الدينية الناطقة باسمها، والموجهة لسياساتها، تجاه النظام أم تجاه بقية المجتمع. ودفعها، عوضاً عن ذلك، باتجاهه هو لاعتماده ممثلاً لها،وبالتالي تماهيها معه كطائفة، أي تماهي ليس في الواقع، بل في العقيدة،ويكون التماهي تالياً، تماهياً سياسياً. وذلك في ذات الوقت الذي عمل فيه على تحطيم الإنتماء الوطني عند السوريين، ودفعهم باتجاه طوائفهم وعشائرهم كانتماء بديل. وبعد أن استنفذ الطاقة الإيجابية لوطنية الشعب السوري في حرب تشرين.
وبالفعل، بعد حرب تشرين، تسارعت بنية النظام في اتخاذها لونآ طائفيآ بدأ يتضح، وتزامن ذلك مع تدفق الأموال الخليجية إلى النظام بعد الحرب، واستمر خلال الحرب اللبنانية، وكرس النظام شرعيته المتينة بعلاقاته الخارجية، واستعاض بذلك عن حاجته لشرعية داخلية مستمدة من الشعب السوري، وتواكب ذلك مع تكريس صورة طائفية لايسعى لإخفائها في الداخل، وصورة مغايرة، علمانية قومية في الخارج.
هذا فيما يتعلق بالنظام، فكيف تطور الأمر مع الطائفة العلوية لتنشبك في مآلها مع النظام الأسدي ؟ وإلى أي درجة كان هذا الإنشباك ؟ وأيضاً، مامدى صحة الفكرة القائلة أن الطائفة العلوية تعتقد، أو تتوهم، أن وجودها كطائفة، مرتبط بوجود نظام الأسد ؟
***
لايمكن الحديث، بدرجة يقين مقبولة، عن العلويين كشريحة من المجتمع السوري الراهن، إلا بدءآ من العهد العثماني صعودآ حتى هذه اللحظة. فما قبل ذلك، لاشيء يعتمد عليه. فالعلويون لايملكون تاريخآ مكتوبآ، ولا أرشيفآ،وذاكرتهم الجمعية لاتغوص بعيدآ في الماضي، فهم لم يعيشوا في تجمعات بشرية كبيرة في مدن تخصهم، وكلامهم العمومي عن علاقتهم بالدولة الحمدانية لايفيد في إلقاء الضوء على حقيقة هذه العلاقة، ولايفيد كذلك في الكشف عن مآلاتهم في المراحل اللاحقة لنهاية تلك الدولة، ومرويات الطوائف الأخرى عنهم شحيحة وغير موثوقة، فهي توصيفات صدرت من موقع الإدانة والاتهام الديني والتلفيق. ومن ناحيتهم، لايقول العلويون شيئآ عن ماضيهم، ليس لأنهم لايريدون، بل لأنهم لايملكون شيئآ يسند أقوالهم. أولأنهم لم يرغبوا، في لحظة تفاعلهم الإيجابي مع المجتمع، وخروجهم من تقوقعهم المزمن، أن يعيدوا سرد تاريخ طويل من الذل والفقر والتهميش، ضبابي وبلا بطولات وأمجاد.
يمكن القول، بيقين كاف، أن العلويين قد عاشوا عدة مئات من السنين ( منذ بدايات الحروب الصليبية وحتى نهاية العهد العثماني ) خارج المدن وسهولها الزراعية، وتذرروا كعائلات صغيرة، وقليلة العدد، في جبال عاصية لاتكفي لإعالتهم. وقد عمل قسم منهم عند ملاك الأراضي من أهل المدن، كأقنان، وبقي معظمهم منبوذاً في الجبال، بعيدآ عن المدينة ومجتمعها، وعن طراز الحياة فيها وطريقة عيش أهلها. ويمكن للمرء أن يفهم بسهولة، لماذا لم يشعر العلويون في تلك المرحلة، خصوصاً الحقبة العثمانية، بأية حاجة لمرجعية دينية جامعة، بل باستحالة تشكيلها، بحكم التشتت المكاني في الجبال، وصعوبة التواصل الذي توفره المدينة، وبحكم وجود رجال دين محليين، استطاعوا إدارة الشؤون الروحية والدينية للرعايا المحليين دونما صعوبة،مع وجود " تميز خاص " لرجل الدين، تميز لم يكن من مصلحته التخلي عنه لجهة أخرى. وإذا أخذنا بالإعتبار، سرية التعاليم الدينية وصوفيتها، وخلوها من الطقوس التعبدية الشاملة لجميع الأفراد البالغين، وأضفنا على ذلك،انقطاع أي شكل من أشكال الاحتكاك والتفاعل مع بقية الطوائف الدينية الأخرى، أدركنا السبب في انتفاء الحاجة لمرجعية دينية تلعب دورآ تمثيليآ للطائفة العلوية ككل.
استمرت الطائفة العلوية على حالها تلك مابقيت على هامش المجتمع الرسمي، أي حتى تفكك الأمبراطورية العثمانية، وبداية " اليقظة العربية ". وابتدأت شروط الحياة القديمة للعلويين بالتحلل مع دخول الحداثة برفقة الاستعمار الغربي للمنطقة، وإحيائها بالطريقة الاستعمارية القديمة، والمعهودة : التقسيم، والتمزيق. تقسيم الأرض، كشرط أولي لتمزيق المجتمع.
***
عمل الفرنسيون منذ بدء استعمارهم لسورية، على إحياء وبلورة مفهوم الأقليات الدينية، ومنحوا تلك الأقليات الأمل في استقلالها الذاتي،واستكمال شرعيتهاالمنقوصة تاريخيآ، عبر وعودهم لتلك الأقليات بإقامة دولهم الخاصة في مناطق انتشارهم. وكان واضحآ أن ذلك جزءآ من الخطة الفرنسية لاستكمال السيطرة الاستعمارية. وبالترافق مع الرفض الشديد من قبل الطائفة السنية للخطة الاستعمارية الفرنسية، وبالتوافق معها أيضآ، رفضت الأقليات الدينية الإغراء الإستعماري في نهاية المطاف، واختارت الوقوف كجبهة موحدة ضده، وانخرطت جميعها بالنضال في سبيل الاستقلال، على أرضية الخيبة العربية العامة بالغرب، في افتضاح اتفاقية سايكس -بيكو لتقسيم المنطقة العربية المتحررة حديثآ من العثمانيين، ووعد بلفور في إقامة دولة يهودية في فلسطين. ولكن، وبالترافق مع ذلك، أنجز الفرنسيون أهم انجازاتهم فيما يتعلق بالطائفة العلوية، فقد أخرج الفرنسيون العلويين من غياهب النسيان، ليسجلوا حضورهم رسمياً في التاريخ السوري بدءاً من تلك المرحلة.
استمر الاستعمار الفرنسي لسورية ربع قرن، لم ينشغل خلاله السوريون، بما فيهم العلويون، بالمسألة الدينية، بل على العكس، ففي خضم الصراع مع الفرنسيين، تعرف المجتمع السوري على نفسه أكثر، وترققت قليلاً الجدران الطائفية العازلة بين السوريين، وارتفع منسوب الانتماء الوطني على حساب الانتماءات الأخرى، في هذه الفترة أيضآ، نزل العلويون من جبالهم ليتعرفوا على المدن ومجتمعاتها، وغادر بعضهم القرية بشكل نهائي ليستقر بالمدينة ويندمج ببيئتها، وعمل بعضهم في المؤسسات والشركات الفرنسية، وتطوع البعض الآخر في الجيش الفرنسي. في هذه الفترة، بدأ العلويون يدركون، ويشعرون، أنهم مواطنون سوريون.
لم يغادر الفرنسيون الأرض السورية، إلا وكانت النخبة السياسية السورية جاهزة لبناء دولتها المنشودة، وقد تطبع فكرها السياسي بالطابع الديموقراطي الليبرالي تأثرآ بالغربيين وانجازاتهم المحققة على الأرض. وانعكس ذلك على تصورهم لشكل الدولة الفتية البرلماني، ولتداول السلطة. ولن تطول تلك الفترة لسوء الحظ، فقد أجهضتها الانقلابات المتوالية الناجمة عن تدخل المؤسسة العسكرية في السياسة، بفعل الإغراء الناجم عن استيلاء العسكر على السلطة في مصر. وانتهت تلك المرحلة الرجراجة والقصيرة من الصراع السياسي في سورية، وعليها، بثلاثة انقلابات عسكرية تخللها هزيمة وطنية شاملة. انقلاب البعث في آذارمن العام 1963 الذي أنهى الملامح والأشكال الديموقراطية للمرحلة السابقة له، وانقلاب ثان داخل نفس المجموعة، في شباط من العام 1966 أبقى في السلطة اليسار المتشدد من البعثيين، ثم انقلاب حافظ الأسد على رفاقه الانقلابيين السابقين، منهياً معهم إيديولوجيا استبدادية لم يتح لها، لحسن الحظ، أن تهنأ في السلطة وتستكمل هيمنتها. أما الحرب التي شنتها إسرائيل على الدول العربية المحيطة بها، بعد الانقلاب البعثي الثاني بعام ونيف، فقد أنزلت بتلك الدول هزيمة شاملة، وأنهت تمامآ المرحلة السابقة لها، ومهدت للإنقلاب البعثي الثالث، الانقلاب الأسدي، وافتتحت عهداً جديدآ لنشوء أنظمة الإستبداد " القومي والوطني "، وانبعاث الفكر الديني في المجتمع، على التعاقب مع نشوء تلك الإنظمة، وبتشجيع منها، بموجب علاقات التبرير والتشريع المتبادل بين الاستبداد السياسي والارتداد الديني.
حتى اللحظة التي استولى فيها حافظ الأسد على السلطة، لم يكن العلويون ينظرون لعلاقتهم الإيجابية بالسلطة القائمة، من زاوية دينية، بل نظروا إليها من زاوية سياسية واجتماعية. فبعد الإستقلال، انخرط المجتمع السوري بكليته في حراك سياسي محموم. ومن باب السياسة، والطموح بالأفضل، غادر طلائع الجيل الشاب من العلويين قراهم، ليدخلوا في هياكل الدولة الناشئة، وخصوصأ الجيش الذي فتح لهم آفاقآ لم يحلم بها أباؤهم، ومنحهم فرصة الهروب من بيئة فقيرة تكاد لاتعيلهم، إلى بيئة جديدة أفضل وأيسر، بيئة تعطيهم الطعام والكساء بوفرة، وتعطيهم، خصوصآ، حصانة دولة، وسلطة. وتزيح عنهم القلق الوجودي الملازم تاريخياً للأقليات الدينية.
إن النجاح الباهر الذي حققه العلويون باندماجهم في الدولة والمجتمع، حققوه كمواطنين وليس كعلويين، فوصلوا الأحزاب كسياسيين، وانخرطوا بالجيش كجنود وطنيين، وشاركوا بالحراك السياسي كسوريين، كما هو الحال وقتئذ عند جميع السوريين، من مختلف الطوائف والأقليات.في هذه البيئة الجديدة، كان العلويون أكثر تجاوباً مع متطلبات تلك البيئة، السياسية والايديولوجية. فإضافة لبزوغ فرصة تاريخية لهم للخروج من تقوقع وانعزال دام مئات السنين، وإضافة لفرصة التخلص من بيئة فقيرة ثقافياً وقاحلة اقتصادياً ومهمشة اجتماعياً، وجد العلويون أنفسهم أكثر تحررأ في خيارهم الايديولوجي، فمذهبهم الصوفي لايدعي أنه دين ودنياً، كما تقول عن نفسها معظم الطوائف الأخرى. والعلوي لايجد في نفسه حرجاً مع دينه إن أراد أن يكون مع أي دعوة سياسية أو ايديولوجية للتغيير، وهذا ماسهل عليهم الانخراط في التيارات والأحزاب السياسية بتنويعاتها، في فترة، بدا فيها وكأن السياسة قد أقصت الدين إلى غير رجعة. واكتسحت الأحزاب " العلمانية " الساحة السياسية والثقافية للمجتمع السوري، واكتسب مفهوم " العلمانية " ذاته معنى في الوعي العام أقرب إلى طريقة العيش العادية للعلوي المتعلم والأمي على السواء ( من حيث علاقة الرجل بالمرأة، وشكل ظهور المرأة في المجتمع، والاختلاط الذي يفرضه العمل الزراعي، والتخفف من القيود الدينية وطقوس العبادات، وانتفاء أماكن العبادة كالمساجد ….. الخ )، وبدأ العلويون سباقين في تمثل أحزاب الثورة " العلمانية " ذات البنية والمنشأ الريفيين، فهم الفلاحون الذين تعدهم الثورة بالأرض، وهم الفقراء الموعودون بالعدالة، وهم جماهير تلك الأحزاب، والكثير منهم أعضاء فاعلين في صفوفها، و" العلمانية "- كمفهوم سياسي - كانت لهم أنسب عنوان " وتبرير " لغياب طقوس دينية لمذهبهم الصوفي، وأكثر ملاءمة لمزاجهم الديني والثقافي.
وراء هذا الوجه " العلماني والثوري " للعلويين العاملين في الجيش والدولة، والمنخرطين خصوصأ في الأحزاب السياسية المنادية بالتغيير كحزب البعث، توارت بنيتهم الثقافية ذات الأصول الريفية المتخلفة، والكارهة للثقافة المدينية ولطريقة عيش أبناء المدن، ولن تظهر هذه البنية وآثارها إلا فيما بعد، في العهد الأسدي الأول، عهد تعميم تلك الثقافة على المجتمع ككل، وحقنها بأخلاق الفساد والنهب. أما قبل ذلك فقد كانوا مندفعين، تحت تأثير مكاسبهم المتزايدة، في التفاعل إيجابياً مع بقية الشرائح الاجتماعية التي تغلي سياسياً تحت تأثير الحرب الباردة، وإسرائيل. وفي هكذا ظروف موضوعية كان التفكير في مسألة المرجعية الدينية أبعد مايكون عن الذهن. ( كان حزب البعثفي المرحلة السابقة لحافظ الأسد، ينظر " بشبهة " إلى الأعضاء الذين يثبت عليهم ممارسة الطقوس الدينية).
من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بعلاقة الطائفة العلوية بالنظام، لم ينظر العلويون لتلك العلاقة باعتبارهم علويين، بل باعتبارهم جزأ من المجتمع السوري و مستفيدأ من التغيير، ولم ينظروا للنظام القائم باعتباره " حكما ًعلوياً "، بل باعتباره نظاماً ثورياً يحقق مطامحهم ويسمح لهم بمشاركة سلطته عبر الأحزاب السياسية، والجيش. وبقي الأمر كذلك حتى بعد انقلاب حافظ الأسد، الذي نقل الطائفة العلوية، والمجتمع السوري برمته، والدولة السورية، إلى مجال آخر.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

العلويون والسلطة في سورية (1/2)

17-تشرين الثاني-2012

الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية: قراءة في الظاهرة وردات الفعل

24-آذار-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow