Alef Logo
المرصد الصحفي
              

الإنسانية التي شُلَّتْ و لم تعد تشعر بأطرافها

حمد عبود

2012-12-30

منذ فترة غير قريبة قبل أن تتلون الصورة و يصير لها أذرعا كالإخطبوط و أرجلا تسابق الريح لتصل إلى كل مكان , كانت الكلمة, حبرٌ على بياض و رمدٌ تتلمسه العيون و تسمعه الأفئدة , هكذا عرفَ الجيل السابق الأخبار و تناقلوا القصص و الأحداث من هنا إلى هناك .
و لأن "من سمع ليس كمن رأى" , كانت الساقية الإخبارية تجري و تشق طريقها كيفما تحركتْ و حيثما تلمستْ خبرا و حدثا مثيرا , تشهدُ بنزاهة الشاهد و تشحذ الرأي و تحلله و توزعه على السائلين المتعطشين لمتابعة عجلة الأوطان و الشعوب , و بهذا اكتسبتْ السلطة الرابعة سلطانها فكانت الحارس الذي لا ينام على الواجب و لا يهزم دون الحق .
لكن أين حطتْ رحال هذه المملكة -مملكة الصحافة - بجنودها اليوم ؟
هم في قلب الحدث و لا ريب في ذلك , و البقية خلف متاريسهم يسمعون دوي الأخبار بحلاوتها و مرارتها , و عليه كانت الصحافة عينٌ تسهر على نقل الخبر ببراعة الحكيم و بأدب الباحث .
إلا أن الطريق يشذ أحيانا و تتلوى قاماتنا و نحن نحاول أن نكون مرنين فلا ننكسر و لا نتأخر في الوصول إلى هدفنا , هدف المعرفة .
الربيع العربي و هو يهبط علينا بنسيمه سوف يُحرك الأوراق و يهز الغبار و ستحدث الجلبة التي تسبق الهدوء و الاستقرار, و الصحافة التي تمايلت مع هذا النسيم أيضا , مالت أكثر من اللازم و مال الشعب معها و قارب ألا يعرف قطبا لوجهته ليلحق بالركب العظيم .
لا ننكر أن الصورة التي نقلتها القنوات الإخبارية كانت ذات طابع توثيقي و ذلك بامتياز الألم الحاصل,و لكن الألم مصيره النسيان, فكيف السبيل إليه و الصورة تلاحق المتضررين كيفما التفتوا حيث تفاقمت الصورة بركانا في وجه الإنسانية التي ارتعشتْ من حرارة المصاب .
*مدونة الأخلاق الصحافية و تابوهات الصور الدموية
هذه المدونة التي تضعها نقابات الصحافة و المؤسسات الإعلامية و تقرر أخلاقيات نقل الأحداث المسيئة للذوق العام ,تمنع نقل الصور الدموية كي لا تتأذى إنسانية المشاهد في الطرف الآخر و هذا النسق العام لهذه الأخلاقيات تزحزحت أركانه في كوكبة التسابق الإعلامي , فبين جدلية حرية الصحافة و بين نقل الصورة المرعبة يقع الإنسان تحت تأثير لا يجب إغفاله .
و لا بد أنه جلي للمراقب ملاحظة تمنع القنوات الإخبارية الغربية كافة عن نشر الصور الدموية لأحداثٍ كثيرةٍ تسابقت هذه القنوات في نقلها بحذر و بحرفة مهنية خالصة فما الذي اختلف لتنقل هكذا صور دون رقيب أو محاسب في قنواتنا العربية ؟
لا بد من الإشارة أن القنوات الإخبارية العربية التي نقلت خبر مقتل القذافي بشكل مستمر متخطية الخطوط الحمراء تحت غطاء الحدث التاريخي الأهم في الثورة الليبية لم تنتبه إلى أن الصحافة الغربية امتنعت عن الانسياق في هذه الدوامة خوفا على مشاهدها و حفاظا على إنسانيته , فكان أن نقلت جزء من الصورة و بشكل موجز فقط .
على الطرف الآخر,نجد الثورة السورية التي انتهتْ إلى كونها الأكثر دموية في الثورات العربية تُغطى إخباريا من ألفها إلى يائها دون الوقوف عند الأخلاقيات الصحفية , فكثرت -منذ اليوم الأول لها-صور دموية و مقاطع فيديو لا تحتوي إلا على ما يسيء إلى البشرية و كينونتها , فهل توقفت هذا المكنة الإعلامية لتضع اعتبارات للمشاهد و تحد من ضرره ؟!
إن الإعلام السوري الذي لم يظهر دليلا على إنسانيته هو الآخر , كانت له أجندته الخاصة التي ثبتتْ عدم آدميتها في أكثر من مجزرة و أكثر من تغطية إعلامية .
و لأنه مُسير ٌمن القافلة المجرمة , كان الواجب على القنوات الإخبارية العربية ألا تنساق خلفه في نقل الدم بمثل هذه طريقة , فليس إعلاما من يتحدث مع امرأة تفارق روحها على الهوا مباشرة , و ما هكذا تكون التغطية و هو ما نتفق عليه و لكن الإعلام العربي لم يحاول الترفع عن الخطوط الحمراء .
إن الأغلبية التي ساهمتْ في توثيق هذه الجرائم -التي سوف يتضح لاحقا أنها جرائم حرب لا تحتاج إلى قضاء ليفصل فيها - اشتغلتْ في هذه العملية سعيا لإيصال الحقيقة إلى الفضاء الشاسع من دول و شعوب لتسانده في سعيه إلى الحرية و الخلاص , فإذ بها لا تصل لهدفها , لتكون هذه التوثيقات حكرا على أهل المصيبة وحدهم , فما وصلت إلى المجتمع الدولي و هم وحدهم من يحزنون .
الثورة السورية التي استنزفتْ روحها و هي تشاهِدُ دمها يُزهق في الشوارع لم يشاركهم أحد في هذه الرؤية إلا حالات فردية يستثنى منها من هم معنيون بالواقع السياسي و الحراك الإنساني , فكانت هذه الرسائل صرخاتٍ مبيتة من الذين يموتون إلى الذين يموتون أيضا , و التوثيق الذي لا أعتقد أن الشعب بحاجة إليه ليتذكر جراحه و شهداءه انقلب مخرزا في عيون المحاصرين في الداخل و المهجرين في الخارج .
و لا يلام الناشط و الثائر في سعيهم الإعلامي لإيصال الحقيقة برغم قسوتها , و لكننا الآن على مشارف انتصار الثورة نتلمس إنسانيتنا المجروحة , و نقرُّ بأن الأنظمة لم تسقط لأن صورةً لطفلة قُطِع رأسها عُرضتْ على التلفاز , بل لأن الثورة استمرت في الكر و الفر على مر عامين و لأن عزيمة الجائعين للديمقراطية لم تفتر و لأن الذي خرج للمطالبة بحريته لم ينتظر صورة تستفزه فيتشجع أو يخاف .
لا بد و أن أعظم الثورات قامت بقوة الكلمة , ركاكة كلمة الحاكم جعلت صلابة كلمة الثائر بينة و الهمس في البيوت خوفا من أن تسمع الجدران بعد أن تكاثر جعل الصدى يصل إلى الشوارع و الساحات , فهل سننسى شهداءنا إن لم نعرض صورهم بين حين و آخر ؟!
إن التابوهات المكسورة في الثورات العربية سوف تترك أثرا عميقا في نفوس الشعب السوري على الخصوص , و الدم الذي وُسِمَتْ به النفسية السورية أصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يتحول الشعب المتعب إلى وحش شرس يتعود مشاهدة الدم و هو يأكل طعامه و كأنه روتين لا مهرب منه . و سيترتب علينا قريبا أن نقوم بحملات واسعة الطيف لإصلاح الذي انكسر في نفوسنا فليتها تكون رمدا فيه الإبصار عندما يحين الوقت له .
لا بد و أن الشباب السوري سيكشف عن معدنه مرة أخرى في محاولة لتطييب خاطر أمٍ فقدت قرة عينها و لتهدئة نار متأججة في صدر ابن يتيم ,و سيهاجر الشعب السوري مرة أخرى من بيت إلى آخر و من شارع إلى آخر ليرمم أم تبقى من إنسانيته التي تمَّتْ استباحتها على شاشة يترأسها مذيع يقرأ أسماء الشهداء و هو يبتسم محافظا على واجهة جميلة للقنوات الإخبارية بينما ما تبيعه على زجاجها لا يتاجر به أرخص الناس .

*عربة بلا فرامل وقودها الانتقام
و بعيدا عن الشاشات التلفزيونية , و على الواقع الخرافي في دمويته , إن بلد المليون شهيد لم تأخذ لقبها من جراء مليون صورة و ندبة على عيون أهلها , إنما شهداء الوطن هم ذوي استحقاق لا يقرره أحد و لا يسلبه أحد . فيا حبذا لو هتفنا بأسماء شهداءنا دون أن نوازي بين قدسيتهم و بين دموية قاتلهم في حضرة قلوبنا الملتاعة , فنترفع عن سوق "الميديا" التجاري الذي لا نهاية لدهاليزه .
و لأن الإنسانية في خطرٍ كما الحرية ,و أخاف إذ غدا سقطتْ الأفعى متمثلة برمزها الخالد إلى الأبد في جهنم تفكيرنا ألا نفرح بدمها المهدور , و نقف متحلقين حول جثة الظالم لا نستدرك انتقامنا و لا نستدرك برودا لقلوبنا المحترقة .
ألا نحسب ُ حسابا ليوم لا نجد موقفا لتنتهي فيه قافلة الدم السورية ؟!
عن جريدة القاهرة

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

عقدةٌ أخيرة في حذاءِ الحياة

14-حزيران-2014

الإنسانية التي شُلَّتْ و لم تعد تشعر بأطرافها

30-كانون الأول-2012

الفرعون الذي اندثر و بقيت أذياله

26-تشرين الثاني-2012

ارتياب

06-أيار-2012

لمن بلا وطن

09-كانون الثاني-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow