Alef Logo
ضفـاف
              

مذكراتُ سدرةٍ في حديقةِ الأُمة / مونودراما

صباح الأنباري

خاص ألف

2013-01-28

يهيمن نصب الحرية لجواد سليم على واجهة المسرح الأمامية كلها، ومن خلال النصب وقائمتيه نشاهد على أسفل يمين المسرح تمثال الأم لخالد الرحال، وعلى يساره في العمق جدارية فائق حسن.. تتوسط الخشبة شجرة سدر ضخمة جدا تهيمن أغصانها وفروعها على فضاء المسرح والى جانبيها شجرتا نخيل بسعف متيبس وبضع سعفات خضر في قمتيهما.. يظهر خلف السدرة على جدار السايكوراما ظل امرأة بحجم الشجرة.. يتحرك الظل قليلا فيصغر حجمه رويدا رويدا حتى يبلغ حجم امرأة حقيقيةٍ،وحين يندمج الظل بالأصل تتقدم المرأة من جمهور النظارة بثقة لتوجه كلامها إليه مباشرة):
أنا شجرة السدر هذه (تشير الى الشجرة الضخمة).. عام 1937 غرزت هنا في هذه الحديقة الغناء.. (تتوقف مستدركة) أقصد التي كانت غناء.. بأمر من الملك غازي الذي سميتالحديقة باسمه.. وبعد أن ساح على هذه الأرض دم إبنه فيصل الثاني ـــ وهو ثالث ملك للعراق ـــ صارت تعرف بـاسم (حديقة الأمة)(1).. كان الملك غازي يحبني كثيرا، ويؤثرني على بقية الشجر، وربما بسبب انتمائي للصحراء العربية آثر زرعي هنا في هذه الحديقة فقد كان رحمه الله يحب الأشجار العربية كما يحب الخيول الأصيلة، وهو يعرف حق المعرفة أن آدم ـــ أول البشر ـــكان قد أكل من ثماري بعد هبوطه من الجنة مباشرة.. ويوم قتل الملك غازي بحادث سيارة مزعوم جاء أحدهم، وتبول على ساقي ربما نكاية بي أو ربما كرها للملك الذي أحبني وكره الانگليز، ولم يعد يطيق وجودهم هنا (بتقزز) آه لو تعرفون كم كانت رائحة ذلك السكير كريهةومقززة.. قال لي وهو في ذروة نشوته (تقلد صوت السكير) أعرفتبموته يا بنت الـ.... نعم.. أعرفُ أنك عرفتِ.. ولكن جئت لأمنحك بركات غيابه الأبدي.. املئي جوفك بهذا الماء القَراح.. هه هه هه هه هااااه.. (تعود لشخصيتها) غادرني مترنحاً وعلى مبعدة بضعة أمتار رأيت جندياً أدى له التحية العسكرية، وفتح له باب سيارة ليحشر نفسه فيها.. لم اعرف اسم ذلك السكير، ولم أتبين ملامحه بسبب ضعف الإضاءة ورداءتها.. وحين غادر ظننت أنني سأنام ليلتي بهدوء لكنني فوجئت بمجموعة من السكارى وهم يتندرون على موت الملك،ويضحكون ما شاء لهم الضحك، ويصفونه بالعميل.. قال أحدهم (تلقد صوته) مات عميل الألمان.. وقال آخر (تقلد صوت الآخر) فاليسقط العملاء جميعا.. ثم ازددت خوفا باقترابهم مني لأني توجست خيفة وأنا أرى الشرر المتطاير من عيونهم المصوبة نحوي باصرار.. قال الرجل الأكثر سكرا موجها كلامه الي مباشرة (تقلد صوته وترنحه) من يزرع العمالة لا يحصد إلا ثمارها.. وأنت من غرز عميل سقط، وعليك أن تسقطي أيضاً أيتها العميلة (ترجع لشخصيتها السابقة) وراح يكيل لي رفسات لولا سكره الشديد لترك على ساقي نَدَباً وقُروحاً.. في تلك الليلة السوداء حسب تعرفت على قسوة الناس ـــ للمرة الأولى ـــ وميلهم الشديد للعنف ولم اعرف أن هذه القسوة ستطولني أنا أيضا (تتحرك صوب الشجرة.. تقف وراءها) ففي صباح اليوم المشؤوم الثاني حضر رجل متوسط العمر وأنقض علي ضربا ببلطته الجارحة حتى كادت انفاسي تتوقف بشكل نهائي.. صرخت بوجهه بأعلى ما أستطيع (تخرج نصف جسمها من وراء الشجرة): اغْرُبْ عن وجهي أيها السادي.. فتوقف عن الضرب، وسأل نفسه باستغراب (تواجه الشجرة مقلدة شخصيته) ممكن يكونأحدهنا!؟ (يتفحصها)لا لا ممكن (بتردد) بس آني سمعت الصوت جاي منّا( يشير الى المكان ثم يتحرك صوب الجمهور)يجوز تكون مسكونهمثل ما يگولونلو آني داأتوهم؟.. وشنو يعنى سادي!؟(يتحرك صوب الجمهور بصمت مستغربا.. تعود لشخصيتها)قلت والدموع تنهال من عيني (تلتفت الى المكان الذي أقبل منه) هذا هو صوتي أيها السادي، وهذه أنا سدرة حديقة الأمة.. من قطع جزءًا مني قطع الله فردا من أفراد عائلته.. ألا تعرف أيها الغبي أنني من الأشجار التي بارك الله فيها؟!.. يا لك من مجرم تافه حقود (تلتفت لجمهور النظارة ثم) ظل الرجل واجماًلا يريم وقد عقدت لسانَهُ الدهشةُ، وشلَّت يدَهُ المفاجأةُ، وأصابه الذهول.. لا أعرف حقيقة لماذا ينسى الناس في لحظة من اللحظات كل ما تقدمه لهم من علاج، وثمر، ومذاق مميز، ويتذكرون فقط أنك غرز عميل لا لشيء إلا لكونك عشت هنا بينهم بأمر من الملك الذي زعموا بعمالتهوأصرّوا على تسمية تحالفه عمالة؟ لقد كان الملك فيصل الأول عميلاً في نظرهم أيضا! ولهذا دسوا له السم في الإبر التي أوصى الطبيب بزرقها في جسمه ليعلنوا عن موته في الوقت الذي أكدت التقارير الطبية ـــ قبل موته بيومين فقط ـــ أنه بحالة صحية جيدة.. قلت مطمئنة نفسي لا بأس عليك سيعلم الناس حقيقة الأمر وسيعيدون النظر في مسألة العمالة لكنني فوجئت صبيحة الرابع عشر من تموز(2) بقتل الملك الثالث ووصيه على العرش وأفراد عائلته جميعا بتهمة العمالة أيضا..بينما تم سحل رئيس الوزراء بسيارة طافت به شوارع بغداد الحزينة (بنفور واستنكار) ياالله.. ما أشد هذا العنف، وما أقساه.. أنا شجرة معمرة قوية جداً ولكنني أمام هذه القسوة أكاد أسقط، ويغمى عليَّ إلى أبد الآبدين فكيف بهؤلاء البشر؟ هل قدت قلوبهم من نار؟ (بتصاعد أكثر) هل وضعوا بين جوانحهم حجراً أصماً؟ (بتصاعد أشد) هل فقدوا في لحظة هياج إنسانيتهم؟.. هل.....(تتوقف فجأة ثم بقرار هاديء) ما نفع أن نسأل أنفسنا وما من جواب.
حسنا.. سقطت المملكة، وسقط ملوكها الهاشميون، وحلت الجمهورية، وزعماؤها الوطنيون، واستبشر الناس خيراً، وراح الزعيم يقدم للناس ما لم يقدمه لهم غيره حتى قدَّسوه، وأللهوه، وظهرت لهم صورته على وجه القمر.. تصوروا أننا معشر الشجر صدقنا ذلك أيضا ورحنا ننظر الى القمر طواعية وفضولاً علَّنا نرى عليه ما رآه الراؤون.. لم أكن أطول شجرة في حديقة الأمة لهذا استنجدت بالنخلة التي تقف قريباً مني قلت لها(توجه كلامها للنخلة) هيه أنت أيتها العيطة(3) هل ترين صورة الزعيم على وجه القمر؟.. كركرت النخلة حتى كاد يغمى عليها من شدة الكركرة (تتوجه متحركة صوب النخلة) وبعد أن هدأت قليلا قالت بصوت حزين (تقلد صوت النخلة) آه لوتدرين كم أشعر بالمرارة وأنا أسمع ما يتفوه به هؤلاء البشرمن تُرَّهات.. يكذبون على أنفسهم.. ثم يصدقون كذبهم.. ويؤمنون به كواقع حال.. حتى أن شجرة عاقلة مثلك تتأثر بتلك الأكاذيب وتستفسر عنها.. آآآآآآآه ما أشد بؤسنا ونحن نلوك أوهامنا كل يوم..(تعود لشخصيتها) أذهلتني إجابتها، وأعادتني الى وعيي (تسأل الجمهور) هل فقدت قدراتي العقلية وأنا أطرح على النخلة مثل هذا السؤال الغبي؟ أظن أنني فقدت عقلي فعلاً بسبب الإيحاء الجمعي (كما لو انها سمعت صوتا قادما من جمهور النظارة فتكرر ما سمعته) ماذا يعني الإيحاء الجمعي؟حسنا دعوني أروي لكم هذه الحكاية التي قرأتها في ريبورتاج صحفيتحت عنوان (ركضة الباب الشرقي)(4)
(تقترب من احدى قائمتي النصب) عندما زعزع الساسة الأمان، والإطمئنان، والسلام،وزرعوا الخوف بين الناس كثر اللصوص والسرّاق الذين اتخذوا من حديقة الأمة مكانا لتجمعهم.. كانوا يجلسون بقربي ويتباحثون بوسائل سرقاتهم، وتجديد تلك الوسائل..اتفقوا ولم اعرف على ماذا اتفقوا لكنهم في اليوم الثاني نفذوا الإتفاق إذ ركض بعضهم متصنعاً الهرب من كل حدب وصوب وكأن وحشا ما يطاردهم فامتد الذعر الى الناس وراحوا يهربون من المجهول الذي يطاردهم تاركين وراءهم كل شيء.. الچنابر(5) والبسطيات وأشياءهم الثمينة وغير الثمينة.. وبعد أن توقفوا عن الركض، وعادوا الى اماكنهم بدأ الصراخ يعلو من كل جانب.. صرخ أحدهم: لقد سرقت بضاعتي، وصرخ آخر: لقد سرقت نقودي..وصرخ ثالث: لقد سرقت بسطيتي وما عليها.. ثم تبين للجميع أن عصابة من السراق ابتكرت وسيلة جديدة تتلخص بركض مجموعة تطالب الناس بالهرب بينما تسرق مجموعة ثانية ما تركه الباعة من الثمين وغير الثمين على أرصفة حديقة الأمة..طبعا لم يفكر أحد قبل هذه العصابة بهذه الوسيلة التي استثمرت خوف الناس من أي شيء يلحق بهم الأذى أو يخطف منهم الأرواح.. لقد استجاب الناس لهذه الركضة بعد أن أوحى لهم اللصوص بذلك فأنت تقلد أحيانا ما تقوم به الجماعة من دون أن تكون ثمة فسحة كافية لشحذ افكارك المضادة.
لم يكن الزعيم الجديد عميلا لأحدٍ ما أو قوة ما.. ولم يكن تابعا لأحد.. كان نزيهاً جداً ووطنياً جداً.. ولم تكن له ثمة عداوات أو ثارات شخصية أو سياسية.. ومع هذا تمت تصفيته جسديا في مبنى الإذاعة والتلفزيون الذي بث صورة له بعد موته وكانواحد من انضباط العسكر ماسكا شعره،وجاذبا إياه الى الخلف ليبصق عليه.. آه كم شعرت بالخزي لمرأى تلك البصقة المستهترة وكأنهم لم يكتفوا منه إلا بها.
(تحاول الإستذكار) أتذكر أنه كان يزور بعض الأماكن هنا أو هناك ليلا بسيارته من دون رتل حماية أو رتل أبهة تليق به كزعيم للعراق.. وفي ليلة لا أتذكر تاريخها حضر الى هنا (تقف في المكان الذي حددته) وقف أمامي بالضبط وهو يتأمل شيئا ما هكذا (تقلد طريقة تأمله بحركة متقنة ثم تتوقف) أردت أن أسأل عنه لكنني اعتبرت ذلك فضولا مني فسكتُّ.. وفي اليوم الثاني بدأوا ببناء هذا النصب (تقف الى جوار نصب الحرية) ثم وضعوا هذا التمثال هنا بلونه الكلسي الأبيض (تقف الى جانب تمثال الأم) وبعد ذلك بقليل شيّدوا ذلك الجدار (تشير إليه) ليرسم عليه الفنان العراقي فائق حسن جدارية السلام.
مات الملك الأول مسموماً، والثاني بحادث مروري مزعوم، والثالث رمياً بالرصاص..ومات الزعيم برصاص صديق ليصعد الى دست الحكم رئيس وحدوي مجايل للزعيم.. مرة رأيتهما في استعراض عام وكل واحد منهما على متن ناقلة يشيران للمتظاهرين اشارتين مختلفتين.. كان الزعيم يرفع سبابته معقوفة (على هيئة منجل) ليجامل بها هتاف الشيوعيين.. وكان عارف يرفع سبابته مستقيمة (على هيئة الرقم واحد) ليرد على هتاف القوميين الوحدويين.. من يومها توقعت مصيراً واحداً للطرفين.. تسلَّم عارف الحكم الذي شارك فيه القوميون والبعثيون الى أن حدثت مهزلة كبرى حين قام عارف ـــ كرئيس للجمهورية ـــ بانقلاب على نفسه لاستبعاد خصومه فما كان منهم إلا أن دبروا له حادث طائرة مزعوم فسقط محترقاً.. قال أحد السكارى وهو يتبوَّل عليَّ ليلاً(تقلد شخصيته) تعرفين يا بنت الـ..... منو اللي "صعد لحم وسقط فحم"؟ آني أگلچ منو.. النذل اللي گال على نصب الحرية: شنوهالعگاريك، وليش ما تخلصتو منها لحد الآن (يحييها بيده متشفياً) سلام (تعود لشخصيتها) ابتعدَ عني مكتفياً بشخة طويلة أغرقت جذوري بزفرتها القاتلة، وأصابتني بحرقة شديدة، وبقرف تجاوز حدود تحملي كشجرة معمرة قوية.. تمنيت حينها لو تغلق الدولة بارات الباب الشرقي كلها لأتخلص من قرف السكارى في آخر الليل..على أية حال رحل عارف ليحل محله عارف آخر لم يدم له الحكم إلا بضعة أشهر حين خلعوه، ونفوه، ونصبوا البكر رئيسا بديلا، وراحوا يعيثون في العراق فسادا ودمارا.. وكما قام عارف بالإنقلاب على نفسه انقلبوا على أنفسهم زاعمين أن ثمة دخلاء اغتصبوا عروس الثورات(6) وتركوها تنزف حتى الموت.. قتلوا حلفاءهم وتابعوا البقية خارج البلاد وأردوهم قتلى فصفت لهم الأجواء وتفرغوا لقتل البكر بدس سم الفئران في أقداح الشاي الذي تعود على شربها كل يوم حتى وهنت قواه وصار نائبه يدير شؤون البلاد والعباد كما يحلو له حتى جاءت اللحظة المنتظرة فأجبر البكر على الظهور في التلفاز ليعلن تنحيه عن السلطة لأسباب صحية، وتسليم مقاليد الأمور الى نائبه.. ثم غادر القصر الجمهوري ليموت بعد ذلك بوقت قصير.
قتل الملك الأول، وقتل الثاني والثالث.. قتل الزعيم قاسم، والرئيس عارف، وأخيراً وليس آخراً قتل البكر.. قلت لصديقتي النخلة أليس هذا ما حدث فعلا؟ أجابتني والدموع ملء عينيها (تلقد صوت النخلة) نعم.. هذا ما حدث بالضبط ولم يتعظ أحد.. ما يزال الناس يطبِّلون، ويزمَّرون، ويصنعون من القادة أبطالاً وهميين وآلهةً من تمر.. ثم يصدق القادة أنهم آلهة فعلاً فيقتلون، ويزهقون الأرواح فراداً وأفواجاً، ويلتذون بمرأى سيول الدم حتى تجري من تحتهم أنهارا (تعود لشخصيتها) ثم أجهشت النخلة ببكاء شديد.. تمنيت لو أنني لم أطرح عليها مثل هذا السؤال المؤثر.. لو لم أسق إليها تلك الحقيقة المرة كالعلقم..لو لم أذكِّرْها بما يجري للناس (تتوقف عن الكلام) يلله.. "ما كل ما يتمناه المرء يدركه"(7).. ولربما تتغيير الأمور ويشذ النائب الذي صار رئيسا للبلاد والعباد عن قاعدة القتل فيفوز بالراحة الأبدية.. ولربما...(تتوقف فجأة) لكنه فاز بها فعلا، وما عاد له من الخصوم غير اؤلئك القابعين تحت خيمته الخضراء الذين تفرغ لهم فألقى بهم الى الجحيم.
في تلك الفترة من حياتي شعرت بالأمان المبطن،والسلام المدجن، وتخلصت من السكارى، ومن الذين يناصبونني العداء حين قاد الحملة الأيمانية التي أفضت الى غلق البارات، وقتل العاهرات (مستدركا) عفواً.. أردت أن أقول القوّادات وليس العاهرات فاغفروا لي زلَّة لساني.. وصار يتردد عليَّ رجال يرتدون البدلات الزيتونية اللون يتبعهم عدد من الرجال ذوي العيون الكبيرة المفتوحة الواسعة.. وبوجودهم حرمت من مرأى الشباب الذين يفدون الى الحديقة من أجل متعة عابرة أو من اجل التمتع بمرأى زهور الأمة.. وصار الناس يمرون من بوابة الحديقة أسفل نصب الحرية ـــ من دون أن يلتفتوا ذات اليمين أو ذات اليسار ـــ ليخرجوا من بوابة الأمة الخلفية من دون أن يلتفتوا الى الوراء.. شعرت بالأمان وفي الوقت نفسه شعرت بالجدب والخواء لكن شعوري هذا لم يدم طويلا إذ راحت الصواريختنزل على حارات بغداد، وحدائقها مانحة الخوف،والقتل الجماعي للبغداديين جميعا.
سنوات طويلة ونحن نئن ونبكي في حديقة الأمة تأسّفاً على أرواح الشباب.. فمن حرب الى حرب.. ومن جوع الى جوع، و"ما مرَّ عام والعراق ليس فيه جوع"(8).. في تلك الحروب كنت أبكي على نفسي بكاءً أشد من بكاء النخيل.. وكان جلَّ خوفي أن تنزل عليَّ النازلة فتمحي أثري أنا الوحيدة التي لا خلف لها في حديقة الأمة.. سألت مرة وزير الدفاع حين زار الحديقة بعد انفجار صاروخي: يا سيدي الكريم هل من فائز وخاسر في هذه الحرب الطويلة.. أجابني مبتسما (تقلد شخصيته) "ليس في الحرب فوز وخسارة.. الحرب كلها خسارة"(9) وبعد فترة وجيزة سمعت أنه قتل بحادث طائرة مزعوم.. أقيمت له مجالس العزاء الضخمة في كل مكان وفي المجلس الذي أقامه والده سمع الناس ذلك الوالد يقول: لقد قتله..والله لقد قتله.. حقيقة أنا لا أعرف مدى دقة هذا الكلام ولكن هذا ما شاع بين الناس وقتذاك.. أما عن نفسي فقد تنبأت له موتا كهذا حين رأيته في جلسة تلفازية مع الرئيس الذي تعود الكل مناداته بـ"سيدي الرئيس" إلا هو فقد كان يناديه بـ"سيادة الرئيس".
عندما اشتد الحال، وسار من سيء الى أسوأ، وضعفت قدرات البلد، وكادت تصل الى الحضيض فكر الرئيس بانقاذ الموقف فدخل الكويت وكان دخوله قد جلب البلاء والعزاء بدلا من العز والثراء.. انهالت علينا الصواريخ ـــ مرة أخرى ـــ حتى أضاءت مدينة بغداد المظلمة..وكان الشرر المتطاير يبدو لنا أشبه بالعاب نارية في كرنفال وطني..خسر الرئيس الحرب.. ترك الغزاة "يدخلون أفواجاً من كل فج عميق"(10)..ولاذ بحفرة آمنة.. شعرت بالأسى لمرأى أحد الغزاة وهو يتفحص فمه، وشعره الأشعث الطويل (توجه كلامها الى جمهور النظارة مباشرة) لا تظنوا بيَّ الظنون.. أنا لست معه أو مع غيره، وفقط أقول ما يمليه عليَّ ضميري كشجرة مخضرمة شريفة رأت ما لم يره غيرها.. وجايلت الحكومات واحدة بعد أخرى الى أن قُطِعَ ساقي بأمر منه، ولم أعد قادرة على الرؤية... (تسمع همسا قادما من الجمهور فتكرر ما سمعت) لماذا؟ لأنه اعتقد أن وراء كل شجرة عدو يتربص به وبزبانيته.. وهكذا بقيت بلا ساق حتى هذه اللحظة فلا يأخذن أحدكم الفضول فيبحث عني في حديقة الأمة.. أنا الآن مجرد جذور معاقة تسمع ولا ترى، وحين أود الرؤية فأنني أسأل النخلة لتنقل لي ما يحدث في الأمة بالضبط.. قالت لي النخلة ذا مساء: (تقلد صوت النخلة) تربص الغزاة به، وأخرجوه من حفرته، وسلموه لحلفائهم فحكموا عليه بالإعدام شنقا حتى الموت..مات الرئيس وشاع بين الناس أنه لم يمت، وأن بديله هو الذي تلقى الحكم بالإعدام نيابة.. وظهرت صورته على وجه القمر مثلما ظهرت صورة الزعيم من قبل فهلل الناس، وكبروا، ونقلوا رؤيتهم الى كل محبيه.. المشكلة أنهم صدقوا ما سمعوا، وعاشوا على أمل عودته يوما ما(الى الجمهور)دعوني أسألكم رجاءً.. هل يوجد بينكم من ينتظر أوبته من الموت؟ (تنظر في القاعة مفتشة) لا أحد؟.. حسنا هذا يدل على أنكم من طينة أخرى أشد نقاءً، وأكثر وعياً.. ومن الضروري ان اخبركم أنني توقفت عن البوح لأنني لم أعد أرى شيئا إلا ما تنقله صديقتي النخلة الصبور.. ولهذا ساتركها تكمل مذكراتي بالنيابة عني.. أما انا فسأمثل لكم دورها بالضبط.
(تمثل دور النخلة) دخل الغزاة بغداد بعد أن دمروها.. ساروا في شوارعها وهم يلقون التحية على الناس، وكان كثير من الناس يردون التحية موهمين أنفسهم أن الغزاة يحملون اليهم الخلاص المنتظر.. دخلوا بغداد وتركوا الحدود مفتوحة لكل من هب ودب.. أمروا بحل القوى الأمنية كلها ليسهّلوا دخول الهابين والدابين الى الوطن فدخلت أفواج الناقمين، والحاقدين، والموتورين، والارهابيين والسلفيين، والموساديين.. والوطنيين غير الشرفاء.. و..و.. إلخ..أمروا أيضاً ان تدمر الآلة الحربية تدميرا شاملا.. ثم تركوا البقية للقادمين عبر الحدودفاغتال الموتورون رجال القوة الجوية.. واغتال الموساديون رجال العلم والثقافة.. واحرق الناقمون المكتبة الوطنية، ومسرح الرشيد، وسرق الحاقدون المتحف الوطني ومركز الفنون.. أما كنوز العراق النفطية فكانت من حصتهم فقط.. وبعد أن أنهوا مهمتهم غادروا العراق مخلفين وراءهم بعض الحريصين على إكمال ما بدأوا به فتزعزع الأمان والاطمئنان وراح الفساد ينهش في بدن البلاد طولاً وعرضاً،وتشكلت المافيات السياسية والعصابت اللصوصية، وبدأ الناس يعزفون ويرقصون على ايقاع الطائفية والمذهبية حتى صاروا ينهشون لحم بعضهم بعضا بتلذذ واشتهاء عجيبين.. وتربع على رقعة الشطرنج الذهبية رجل تشبث بالديموقراطية ولكنه سرعان ما تنكر لها كبدعة محرمة وافدة لا ينبغي أن يأخذ المسلمون بها فيتحملون جرائرها الى يوم القيامة.
توقفت عن تمثيل دور النخلة عندما أعلنت النخلة عن نبوءتها ببقاء الحال على ما هو عليه الى أجل غير مسمى.. وهذا هو ما خشيت منه كشجرة معمرة معاقة، ومصابة بالتشاؤم القهري،ولم يبق لها إلا أن تعود.
أوقفت نزيف مذكراتي، وضمدت جراحي، وامتصصت المزيد من مياه دجلة وغرينها في محاولة مني لصنع جذع جديد لكنني فشلت وقررت العودة من حيث أتيت (تتصاعد الموسيقى بينما تتحرك هي الى المكان الذي بدأت بالظهور منه في بداية المسرحية.. يكبر ظلها حتى يصير بحجم الشجرة ثم يبدأ الاثنان بالاختفاء تدريجيا تستمر الموسيقى حزينة مشفوعة بالمزيد من الأسى واللوعة).
انتهت
أديلايد بداية عام 2013
...................................
إشارات احالات:
(1) حديقة الأمة تتوسط مركز العاصمة بغداد وفيها نصب العراق المهمة: نصب الحرية للفنان العراقي الراحل جواد سليم، وتمثال الأم للفنان الكبير خالد الجادر، وجدارية السلام للفنان المبدع فائق حسن، وامامها ساحة التحرير وهي من اشهر ساحات بغداد.
(2) وهو اليوم الذي أسقط فيه النظام الملكي في العراق، واستبدل بنظام جمهوري عام 1958.
(3) العيطة مفردة شعبية تعني النخلة الطويلة.
(4) عن جريدة المدى..العدد 2692 - الأحد 6 كانون الثاني 2013 ربورتاج تحت عنوانجولة في العالم السفلي لسوق الباب الشرقي!
(5) الچنبر هو عبارة عن مربعات أو مستطيلات من الخشب تعرض في خاناته البضاعة أما البسطية فهي قطعة من القماش القوي توضع عليها البضاعة لغرض البيع.
(6) عروس الثورات هي التسمية التي اطلقت على الانقلاب البعثي عام 1963.
(7) ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الريام بما لا تشتهي السفن
من قصيدة للمتنبي مطلعها: بم التعلل لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن
(8) من قصيدة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب انشودة المطر والتي يقول فيها:
وكل عام حين يعشب الثرى نجوع
ما مرَّ عام والعراق ليس فيه جوع.
(9) تصريح وزير الدفاع العراقي عدنان خير الله في لقاء تلفازي مسجل إبان الحرب العراقية الايرانية.
(10) اقتباس من القرآن الكريم.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

القاصّ، والقنّاص مونودراما :

31-كانون الأول-2013

مذكرات كرسي مونودراما:

17-شباط-2013

مذكراتُ سدرةٍ في حديقةِ الأُمة / مونودراما

28-كانون الثاني-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow