Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

فواصل زمنية قصة: غريغوري براون ترجمة:

صالح الرزوق

خاص ألف

2013-03-03

وقف على طرف الرصيف، وقبضته على كتفه، وهو يتأمل البيت. ووراءه كان الشارع فارغا، واقتضى منه ذلك دقيقة ليتذكر أن اليوم هو الأحد وهنا، بدافع الواجب أو القناعة، لا يزال الناس يتبنون روتينا معينا. كان الميناء ممتدا - الصيادون يعتنون بشباكهم، والعمال منهمكون بالتعليب، وصانعو القوارب يعرّضون الخشب للبخار لتقشيره - ولكن معظم أهل بلدة غرافتون في الكنيسة.
كان الهواء مشبعا برائحة النفايات التي يطرحها التعليب في المحيط، وكان المحيط يضرب الشاطئ كلما ارتفع المد. وقد غلف ملح الخليج حلقه، ولذلك ابتلع بمرارة، في محاولة للتخلص من الطعم. لقد مرت ثلاث سنوات، ويبدو أن التغير لم يصلهم بعد.
كان البيت في مكانه. وباللون الأصفر ذاته. وعندما فتح البوابة صرّت كما في السابق. وصدر من الممشى الصدى القاسي المألوف لضغط البلاستيك حين يحتك بالبلاط. لقد ساعد والده في نقل هذه الحجارة الرقيقة من المقلع. ثم انتظرا حتى تنحدر الشمس وراء المرتفعات، وأنفقا باكورة المساء في حفر حفرات صغيرة في الممر المعشب، وتثبيت الأحجار في الأرض، بينما أمه وأخته تراقبان من الشرفة.
وجد جايس صفحة صفراء، من دفتر ملاحظات، ملصقة على الباب الأمامي، وعليها خط أمه الأنيق بالحروف السوداء : أهلا بعودتك يا جايس. اعتقدت من الأفضل أن لا أتأخر عن العمل.
هذا أفضل. ابتعد جايس عن الشرفة وعاد الى الممشى. كانت أشجار الدردار في السابق تخيم على الممشى، وتحمي الشارع من الشمس في الصيف ومن الجليد والثلج في الشتاء. ولكن قطعت تلك الأشجار في غيابه، وتركت علامات مسننة على الرصيف، وسمحت للرياح بالتدفق على الطريق. رمى الجعبة من كتفه على الرصيف، واستند على السور. في الباحة رأى أن أوراق الدردار قد بدأت تموت وتسقط من أغصانها مع الرياح. وقريبا سيسحب الصيادون قوارب القريدس لهذا الفصل، وبعد ذلك سيهبط الثلج. عندما اقتربت سيارة وتباطأت قليلا قبل أن تتابع، أدرك جايس كم مضى عليه واقفا هناك. كانت الملاحظة لا تزال مثبتة بالباب، والشرفة فارغة. تمنى لو أن أليس أخته بانتظاره. ولكن من الحماقة أن يفكر بذلك. ومع هذا لم يتوقف عن التفكير به طوال الوقت حين مر القطار بمحاذاة الشاطئ قادما من بوسطن، وتخيلها تقف منتصبة وذراعاها معقودان على صدرها والريح ترفع ثوبها حتى خصرها.
كانت والدته قد علقت ستائر سميكة في غرفته. لأنك بحاجة للراحة، كما قالت، وفي بعض الأيام لم يكن يستيقظ قبل الظهيرة. ولم تكن توقظه في الصباح إذا غادرت للعمل، ولكنها بدأت تترك له الملاحظات: 65 ومشمس، 42 وماطر. يوم للنزهة؟. يوم للانتظار في البيت؟ هناك رغيف باللحمة في الثلاجة. والبيرة أيضا لو رغبت بها. من فضلك حافظ على هدوئك. وبعد ذلك اشترى جايس ساعة منبهة مستعملة واستخدمها حتى تأقلم بدنه مع الظروف.
ثم بدأ يستيقظ في السادسة كل صباح طوعا، القهوة تحضر والبيض يسلق في السادسة والنصف، قبل نصف ساعة من مغادرة أمه للعمل في مصنع التعليب. ومعظم الصباحات يجلس في المطبخ يتأمل النور وهو يمر من النافذة ويصبغ الجدران. وفي الأيام الصافية يتوجه للشاطئ ويراقب الصيادين وهم يأتون بقواربهم. القوارب الرقيقة والعميقة والمربوطة - قوارب جيدة التهيئة، قوارب ليست من النوع الذي يصنعه والده في ورشته قرب المارينا. مع أن زوارق والده تبدو أجمل بشكل ما من القوارب التي تصنع هنا اليوم، ولكن جايس كان أكثر شبابا يومذاك، وتعلم كيف مع التقدم بالعمر تفقد معظم الأشياء بهاءها ورونقها.
وعندما تعود والدته للبيت، باستمرار تبدل مكان الأشياء في الثلاجة وتعيد غسيل الصحون. وأحيانا تبدو مندهشة حين تنظر ويتبين لها أنها ليست وحدها. ومع ذلك لم تكن تتخلى عن روتينها أبدا. تعود من المصنع في الرابعة، وتمضي ساعة من الزمن في الحديقة، وتتحسس بيديها التراب الناعم الذي يتعرض لوابل من الإضاءة الخفيفة، ثم تحصل على الدوش. يغلق جايس عينيه ويصغي للماء وهو يمر في الأنابيب. وأحيانا يتساءل هل سينتهي حمامها. في مرحلة الصبا، كانت أمه جميلة، وكانت جميلة أيضا حينما غادر البيت مع أنها دائما مرهقة. دائما تتعب لساعات طويلة منذ وفاة والده. وكانت لا تستند على الطاولات والكراسي حينما يراقبها أحد، ورغب لو يعلم متى بدأ العمر يتقدم بها ويدب فيها.
خلال امتحان نهاية الخدمة، أخبره طبيب البحرية ويدعى إيفيريت أن أشياء محددة تحتاج لبعض الوقت لتتضح. وقال له إنه يجب أن يتصور نفسه مطاطة. وأضاف يقول بالاستطراد من هذا المجاز الأحمق:" تخيل لو تعرضت للشد المفرط. ستعتقد أنك فقدت مرونتك. ولكن لا تخش كثيرا. ستحتاج لقليل من الوقت لتعود لطولك الأصلي. ولا تشعر بالدهشة لو استغرق ذلك فترة طويلة جدا".
مال إيفيريت بظهره على مسند الكرسي في المكتب، وأشعل سيجارة، ورفع النظارات فوق أرنبة أنفه، وفهم جايس إن الرجل ذكر " فترة طويلة" ولكنه كان يعني " ربما حتى الأبد".
أنفق في البيت ثلاثة أسابيع، وفي أحد الأيام صباحا قالت له والدته:" هذا يحتاج لتصرف".
" ماذا؟".
قالت وهي تشير من المطبخ حيث كانا يجلسان على طاولة القهوة باتجاه غرفة الجلوس:" عرين جنونك". لقد صرف ساعات طويلة خلال عدة أيام وهو يستلقي على الكنبة يتصفح الكتب التي أخذها من رفوف غرفة الجلوس وتركها مكدسة على الأرض. وأكثر ما عني بقراءته من تلك الكتب لم يتجاوز عشرين صفحة. قال لها:" أنا أريح نفسي فقط".
" أرى ذلك".
" من الصعب جدا أن أركز على موضوع".
ذهبت والدته إلى الثلاجة وعادت ومعها برتقالة في صحن صغير أبيض. وقالت:" خذ. اشتريتها أمس من متجر روز". والتقطت أنفاسا عميقة وتابعت:" إنها توظف العمال هناك، في البقالية كما تعلم".
التقط جايس الفاكهة وووزنها بيده. ولم يتمكن من تذكر آخر مرة أمسك بها برتقالة. وابتسم للصورة التي استقرت بها هذه الكرة المستديرة في راحته.
قالت أمه:" أتساءل فقط أليس من الأفضل أن تعود لسيرتك السابقة الطبيعية".
ضغط بإبهامه على البرتقالة، وقشر القشرة بأظفره، وانتشر أمامه في الهواء رذاذ ضبابي من العصير. وقال:" ليس عليك أن تفعلي ذلك"،
" ماذا تعني؟ ماذا يتوجب علي أن لا أفعله يا جايس؟".
" ليس من واجبك أن تضعي لي الخطط لأنفذها. عليك أن لا تبذلي جهدا فائقا بهذا الخصوص. هذا ما قلته".
" يبدو لي على أحدنا أن يحاول".
تابع جايس تقسيم وترتيب شرائح البرتقالة على الطبق الأبيض النظيف. وفي الختام وضع شريحة بين شفتيه. كانت الفاكهة طيبة المذاق جدا حتى أنه أطبق عينيه ومضغها ببطء شديد. وسأل في النهاية:" كيف حال أليس؟".
" أليس ليست موضوعنا".
قال:" كلا . ولكنها تلومني على موت بيتر. فقد تطوع لأنني فعلت ذلك. وكما أرى هذا جوهر الموضوع".
" ستزورنا أليس حينما تكون مستعدة لذلك".
انتهى جايس من البرتقالة وسحب سيجارة من العلبة التي يحتفظ بها في جيب قميصه. وبدأ بالتدخين في الخارج. لا يوجد أمامك ما تفعله حين تكون بالانتظار في عربة لتقلك إلى الطائرة التي ستحط على المدرج وهي تزأر، وحينما تنتظر من يسحبك لغرفة المقابلات، وحينما يضعونك في فصيلتك لتنطلق بين الغيوم.
" يعجبني أنك حقا تؤمن بذلك. ولكن ليس هذا سؤالي".
نهضت أمه من الطاولة، وحملت كوبا من الخزانة، ووضعته أمامه. وقالت وهي تهز رأسها:" لو أنك ترغب بالتدخين، على الأقل تصرف بشكل حضاري. في النهاية ستكون بين أهل بلدك".
بين المواطنين الأصليين أهل البلد. ليلا، وهو يسافر لمسافة تبلغ نصف العالم، غالبا ما كان يتذكر عباراتها. وهو متكوم في قارب ضيق بين ألف رجل آخر مزدحمين حوله، تأتي لذهنه إحدى عباراتها. كان دائما يتعمد أن يخبرها ذلك في رسائله، كيف أن إحدى عباراتها جاءت لذهنه في الليلة الماضية، ولكن في الصباح، حينما يتمطى في كابينته ويستعد للكتابة، لا يستطيع أن يفعل.
وحينما تكلمت أمه مجددا، كان ظهرها يستدير له، وبصعوبة فهم جايس ماذا تقول. كان يبدو كأن صوتها يأتي من السماء، وتحمله عاصفة عاتية.
قالت له:" هذا أفضل من أن تمضي يومك وأنت تلحق القذارة بكفيك وتفسد رئتيك. أفضل من أن تجلس وأنت حزين".
قال جايس:" ولكنني لست حزينا يا أمي". وتبادر لذهنه: هذا هو جو البيت في كل حال.
كانت الساعة تقريبا حوالي الثالثة بعد الظهر، والريح عاتية، والطقس شديد البرودة. نوى أن يغادر بوقت أبكر، ولكن فيما بعد سارت الأيام على النحو التالي: أشرقت الشمس وأسرع الوقت بخطاه وأصبحت السماء داكنة فجأة.
ضربت لوحة خشبية أحد البيوت، وعصفت الريح. مر على تشرين الثاني أسبوع واحد فقط، وتمنى جايس لو تهطل الثلوج، لو تملأ الثلوج الشوارع، وتهبط عبر الفضاء الرمادي. الشيء الذي يعجبه بالثلج أنه بمقدورها أن تجعل منك شبحا، تسرق صوتك، وتطمر بصمات خطواتك، ثم تمحو كل العلامات التي تدل على مرورك. ولم يكن بمقدوره أن يقول ذلك لأحد. الناس هنا لا يحبون الثلوج. إنهم يعانون منه، ويلعنونه- يحتفظون بقواربهم على الشاطئ، ويسحبون سياراتهم من الشوارع، ويخيمون بسقوف البيوت في أمكنة بعيدة من البلاد فوق عائلات ضعيفة لا تثير الشبهات.
مر جايس بستة شوارع وتوقف أمام البيت. لونه مختلف الآن: إنه أخضر، بينما كان أبيض حين خرج منه. وفي الباحة الخلفية، من الزاوية التي يرى منها الشارع رأى امرأة تنشر الغسيل على حبل ممدود بين عمودين قديمين، والغسيل الرطب يتلوى في الريح، ويلتصق بساعدها. لم يكن عمرها يزيد على خمسة وعشرين عاما، ولها ساقان قصيرتان ونصف علوي متطاول، وخصر رفيع، وشعر يتخلله الشيب، وفكان ممطوطان لأمام مع حواف صلبة، كما لو أنها منحوتة من العظام. وكانت لقاطات الغسيل بين أسنانها، ويداها تمسكان ملاءة بيضاء ألقت بها على الحبل. وفي كل مرة تحاول إمساك لقاطة تنزلق الملاءة فتشتم الغسيل، وربما الحبل- لم يكن متأكدا لأي منهما توجه شتائمها بالضبط - ولم يحاول أن يضحك، ولكن المرأة انتبهت له، فدارت حول البيت واقتربت منه.
قالت له:" ليس الأمر سهلا كما تعتقد، لا توجد مثل هذه الرياح في المكان الذي كنت فيه. هذه عاصفة وليست رياحا، هذه ريح رعناء".
فتدبر منره ليقول:" آسف. أعرف شخصا يعيش هنا. كانوا جميعا هنا حينما رحلت".
" ما اسمها؟".
ابتسم لها وقال:" كان البيت أبيض اللون".
" ولكنه هكذا أفضل".
أومأ برأسه. فهي على صواب. الأخضر يلائم الواجهة. لا يستطيع أن يتذكر متى رأى الداخل لآخر مرة. آخر مرة وقعت عينه على ميكالا وهي تغادر من الباب الأمامي ويقابلها في الباحة. استعارا بونتياك أخيها وقادا حتى البحيرة عند الحدود مع غرافتون كاونتي. كان الوقت في أواخر أيلول. وأوراق الدردار المتساقطة تصنع طبقة على سطح البحيرة بألوان صفراء وبرتقالية وحمراء. وحول الشاطئ معظم مقصورات الاستجمام مشغولة.
قالت له: " حسنا لا شيء مضحك في ذلك". وغالبت المرأة التي تعيش الآن في البيت نفسها كي لا تبتسم وأضافت:" هذا غسيل، وهو عمل مجهد للغاية، اللعنة عليه".
قال جايس:" يبدو لي كما تقولين".
قالت له:" لا تخبرني أنك ستساعدني. لأنك لو قلت ذلك لا أريد أن أسمع".
مد كفيه في الريح وقال:" لا أجرؤ على ذلك".
وهي تترنح عادت إلى الباحة وتبعها جايس، وحينما انحنت لتحمل الملاءة بذراعيها وتحاول معها من جديد، لاحظ إنها لا ترتدي الحذاء وأن معصميها وذراعيها مصابان بالرضوض، ألقت الملاءة على الأرض وحملتها مجددا وهي تقول:" أنا على ما يرام قدر الإمكان. ولو أنني متوعكة، فلا أمل يرجى مني". استدارت للشارع وقالت:" أشعر بالإنهاك. وأتفوه بأشياء غبية. فقط أنا لست من النوع المناسب لهذه الأمور".
" لا تناسبين الغسيل".
" هذا أول شيء".
" ولكنه ليس نصف الحقيقة".
" آه لو تستطيع أن تتخيل ما أرى". وعلقت الملاءة على الحبل ونظرت للأسفل نحو اللقاطات التي تركتها تسقط على الأرض. وقالت:" هل ستأتي نحوي وتساعدني، أم لا؟".
توقف في البيت وراء الباب وهي ترتب ما حولها من أشياء على الطاولة. كان كتفاها عريضين وعضلات ظهرها مرنة وتساعدها على أداء عملها. وأحيانا كانت تلمس معدتها. لم يشاهد جايس أحدا يتحدث بهذا الصوت الرنان ويتصرف بهذه العصبية.
أخبرته باسمها وهو تيس وقالت إنها معلمة موسيقا. وتوقفت ونظرت لما حولها في المطبخ الصغير وقالت:" حسنا فعلت. أنا الآن-- متأكدة مما يفترض أن أكون عليه. أقصد، أعرف ماذا هو. ولكنني لست متأكدة ما هي طبيعته . حسنا أنا متزوجة".
قال لها:" كانت أختي تغني".
" ولكن ليس الآن؟".
" ربما حتى الآن، وأفضل أن تستمر، أحاول أن أقول إنها دائما تميل لتكون موسيقية".
قالت تيس:" فهمت ماذا تقول".
تكومت الأطباق في المغسلة ونفاضة سجائر ممتلئة كانت على كرسي قش أحمر بقرب النافذة التي تنظر منها للباحة- وهي حديقة أفسدتها الأعشاب، وفيها قناة ماء من الحجر مخصصة للعصافير ولها شكل هلال، وكوخ من ألواح غاص نصفه في الأرض. وخلف الباحة، يوجد زقاق ضيق يغطيه الحصى ويقود للبلدة.
قالت تيس:" جئت هنا بسبب رجل. جئت من أجل زوجي".
هز جايس رأسه، وهو يفكر ماذا يدفع إنسانا ليفعل ذلك. ولاحظ أنها لا تضع الخاتم. فقال:" أما أنا ولدت هنا، وترعرعت هنا".
قالت تيس:" وها أنت تعود". وقبل أن يتمكن من الجواب سألته هل هو في خدمة العلم، وقال إنه كان في الخدمة.
" على الناس أن يشكروا لك هذه التضحية طوال الوقت".
" بعضهم يفعلون".
قالت له:" زوجي من النوع الذي يشكر أمثالك دائما. قد يسرع إليك ثلاث مرات كل يوم ليصافح يدك هذه.على الأقل لك يدان ناعمتان".
كان جايس يحك ذقنه، ولاحظ أن عينيها تهتمان بشكل يديه كما لو أنه يقبض على شيء له قيمة.
أضافت تقول:" لك يدا عازف بيانو. انظر لأصابعك الطويلة".
رفع جايس يديه إلى الضوء الذي يمر من النافذة الموجودة فوق كرسي القش وفكر ماذا تعني من وراء إخباره بذلك. وتساءل هل تريد شيئا منه وفكر بتقبيلها. ثم خطر له إنها وحيدة فقط. وتذكر مرة زار فيها أحد البارات في الفيليبين. كان ذلك في نهاية فترة خدمته، بعد أسبوع أو قرابة ذلك من اشتعال السماء بالنيران فوق ناغازاكي، وكانت معه امرأة قابلها للتو. وكانت تضحك على طرائفه بشيء من التحمس، فاشترى لها شرابا، وشكرته بلمسة من مرفقه الذي استند به على طاولة البار.
كان اسمها لوان، وعوضا عن مرافقتها إلى غرفته ومشاركتها الفراش كما هو مفترض أخبرها بكل شيء يخطر على باله من وقائع حياته. فيما بعد أدرك أنه كان أبله. تبادر لذهنه : كنت وحيدا، ثم شعرت بعاطفة تجاه أحدهم ووجدت نفسك متورطا في الكشف عن كل الأمور الدفينة في حياتك. الحقائق المفزعة كلها عن الأيام المقرفة كلها.
قالت تيس:" كنت مزمعا على الرحيل لمكان ما، أليس كذلك؟".
كما يبدو كانت الغرفة تضيق، تصغر وتشتد الحرارة فيها.
قال جايس وهو ينظر في عيني تيس على نحو مباشر:" كلا. من فترة طويلة لا يوجد في ذهني مكان لأذهب إليه".
كانت الصور معلقة على جدران غرفة المعيشة، ومتزاحمة في صفوف، والإطارات يغلفها الغبار. في بعضها رجل طويل له فك رفيع وعينان واسعتان جدا تشغلان وجهه. وغالبا معه تيس بجانبه، ونادرا ما ترتسم البسمة على شفاههما.
جلست تيس أمام البيانو الصغير الموجود في زاوية الغرفة. رفعت غطاء المفاتيح وعزفت لعدة دقائق. كانت الأصوات تبدو جهورية ومهيمنة بالنسبة لغرفة صغيرة. وبين النغمات تكلمت كأنها لا تكترث بوجوده إطلاقا، وكأنها تتحدث مع الفضاء عن السلم الموسيقي الخماسي، كيف توجد خمس نبرات بين الأوكتاف، وعن السلم الثنائي، الذي ينطلق على دفعات من سبع نبرات، وكيف كل شيء خاص بالموسيقا له معنى لأنه جماليات ترتكز على مجموعة من المسافات المحسوسة. الفواصل تحدد معنى الصوت. والصوت هو ما نحن نسمعه.
قال جايس عندما توقفت عن العزف:" ألا تحنين للتدريس".
" ربما هذه هي المشكلة. أتمنى لو أنني أحن لشيء".
أفسحت تيس مكانا على كرسي البيانو، ودعته ليجلس بجوارها، وحينما لم يفعل، استعادت مكانها السابق وجلست في وسط المقعد. وقالت:" أنت لا تنظر للأمور بيسر". ثم أضافت بعد قليل:" لا يبدو عليك الاهتمام".
نظرت للصور التي تصور رجلا وقالت:" ليس الطفل الذي من المفترض أن أنجبه".
وافق جايس قائلا:" ولكنه لا يعلم ذلك".
" كلا. يمكنك بناء عالم كامل من أشياء لها علاقة بأشخاص تحبهم ولكنها أشياء لم تسمع بها". وأغلقت تيس غطاء المفاتيح وأسقطت ذراعيها على جانبيها، واختفت الرضوض بثوبها. وقالت:" في بعض الأيام المزعجة كنت أفكر بالرحيل حقا. وتقريبا أفكر بالرحيل كل يوم. ولكن هل تعلم ما هو الشيء الذي لا أستطيع حله؟. الشيء الذي لا أستطيع حله كيف أحمل معي هذا البيانو؟ وهذا شيء أحمق تماما، أنا متأكدة أن الفكرة خرقاء".
في الخارج كان الضوء رماديا فقال جايس:" الظلام يخيم. وغسيلك سيجمد". فقالت تيس:" لا تقلق على ذلك. أرهقني التفكير بأمور من هذا النوع".
استدار جايس ليغادر ثم توقف وقال:" أحيانا يخيل لي أن أختي لن تتكلم معي مجددا. لقد ذهب زوجها إلى الباسيفيك الجنوبي بعدي. ومات، أما أنا فلم أمت".
قالت تيس:" لا أعلم. ولكن أراهن أنها ستأتي".
" أتمنى لو لدي مثل قناعاتك".
ونهضت لتتبعه ، وكان بمقدوره أن يشعر بها في الغرفة وراءه، وأنفاسها تلفح مؤخرة رقبته عمليا، ولكنها لم تمد يدها لتلمسه، وهو لم يلتفت ليتأكد.
في الخارج كانت سفوح الهضاب تنحدر نحو الخليج وقد احتفظت بعدة أقواس من ضوء الشمس، والضوء ينخفض بين الأشجار ويصبح رقيقا، هشا له نوعية ضعيفة وباهتة أعلنت عن اقتراب فصل الشتاء.
في نهاية الزقاق استطاع جايس أن يرى حانوت الخضار ولوحة معلقة على الواجهة كتب عليها نحتاج لعامل. وخلف النوافذ، طاولة الغداء الطويلة، والكراسي الفارغة الآن، والأضواء العالية التي تلمع على السقف الناصع. أحيانا ينام الشباب حتى الظهيرة، ثم يستيقظون ويمشطون شعرهم، ويرتدون بذاتهم، ويحضرون للغداء في مطعم هيلين. ولكنهم سافروا إلى أوروبا والباسيفيك الجنوبي، وعادوا، وهذا هو كل ما يفعلونه في النهار: يصنعون شيئا من أجل العالم ثم يذهبون لتناول بيض مطبوخ مع القهوة الخفيفة. استدار جايس وبدأ يسير بالاتجاه الآخر.
تقريبا خيم الظلام الآن. وقريبا سيصل لنهاية الزقاق وللشوارع العريضة. من طرف الممشى يرى الأضواء التي في مطبخه، وظهر أمه للنافذة، وكتفاها منحنيان على إناء فوق الموقد. قويت ىشدة الرياح، وضغطت على ظهره، وعادت أفكاره لموضوع بيتر، ولوالده، وإلى أليس. لم يرحل رغبة بالخدمة ولكن لأن هذا هو المفروض عليك، ولم يحن لأحد من الباسيفيك الجنوبي أو من الليالي الغامضة الغريبة على الشاطئ حرا طليقا. بعد عام لن يتمكن من تذكر صوت واحد من أصواتهم. هناك أشياء يتمنى لو لم يشاهدها، أشياء تعود لغيره ولن يطرأ عليها تحسن - وبالأخص كيف تنفجر طائرة وعلى متنها الرجال، أو كيف أن المحيط المغطى بالنفط يلتهب لعدة ساعات. ولكن من عادة الناس إهمال شيء واحد، واستبداله بفكرة شاردة مشغولة بالآخرين، ثم إما النظر إلى الخلف أو أن المتابعة قدما.
بعودته من البحيرة في تلك الأمسية من شهر أيلول قبل أن يغادر المنزل، ارتبكت ميكالا ثم ابتعدت معه بصمت ورحلا بالسيارة. قالت إنها ستنتظره، ولم يرد عليها. جلس جايس قربها في المقعد الأمامي. وراقب الغابة وهي تغيب من أمامه. كانت كلها صنوبريات مسرعة، ولها ظلال عميقة، وبينها انفجارات شمسية مصبوغة باللون الأخضر. ثم دارت السيارة من حول منعطف، وهناك، قرب الطريق توفرت مساحة خالية عكف فيها ثلاثة رجال على بناء كابينة. وغابوا بنفس السرعة التي ظهروا بها، ولكن لدقيقة من الوقت تسمروا وراء النافذة ولم ينسَ جايس مرآهم، الرجال الثلاث يعملون بهدف واضح، ويرفعون جذعا من شجرة أرز تم قطعه حديثا، كل رجل من طرف، والثالث، ذراعه مرشوشة بنشارة الخشب الذهبية ويقف عاليا بمستوى الكتف ، كان يشير أين يجب وضع الحمل، فوق جدار مرتفع من الجذوع الأخرى، إلى جانب غيره.
أحكم جايس لف معطفه حوله، ومرر الأزرار في العروات المتتالية في ردائه، وحتى ذقنه، ليقي نفسه، ثم استدار للبيت، مع الريح، وكأنه من البداية كان يتحرك بقصد من هذا الدافع فقط.

غريغوري براون Gregory Brown : كاتب قصة أمريكي شاب، أمضى بداية حياته في ماين، وحصل على الماجستير في الصحافة من جامعة كولومبيا. له قصص متفرقة منشورة في الصحف والمجلات الأمريكية. رشحته مجلة ( Narrative - سرديات ) لجائزة القصة في ربيع عام 2012، يعيش حاليا في مدينة أيوا.

الترجمة من المجلة الأمريكية " سرديات"

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة :

17-نيسان-2021

قصائد مختارة لمارلين مونرو

03-تشرين الأول-2020

قصة / كانون الأول / كريستال أربوغاست

12-أيلول-2020

مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة

22-آب-2020

قصائد لهنري راسوف ترجمة :

20-حزيران-2020

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow