مرّ عام على آخر مرة سمعتُ فيها هذا الدعاء الطيب، فى ختام كل محادثة تليفونية بينه وبينى. بعد كل مقال، وكل قصيدة، وأى خبر عن كتاب جديد صدر لى أو سفرة إلى مؤتمر، لابد يهاتفنى. إن تأخّر الاتصالُ، أعلمُ أن رصيده نفد، فيقترض جنيهًا من زميل المقهى ليكلمنى. عبثًا أحاول أن أقطع مكالمته وأكلمه! هنا تعلو الكبرياءُ رافضةً: انتى بنتى، أتعب عشان أكلمك زى ما تعبتى فى مقالك الجميل ده. ربنا ما يقصف لك قلم!»

العم «محمد كامل»: «أجمل قارئ فى العالم». هو اللقب الذى عرفه به مثقفو مصر وأدباؤها، بعد مقالى عنه بـ«المصرى اليوم» قبل أعوام. ومنحه «أتيلييه القاهرة» العريق درعًا بهذا الاسم، قبل رحيله بعام. عامل بسيط، رقيق الحال، لكنه «مدمنُ قراءة». لو تضوّر جوعًا، ولم يتبق معه سوى جنيه، لن يفاضلَ بين ساندويتش، وكتاب. سينتصر الأخيرُ. فينام خاوىَ المعدة، ممتلئَ الروح والعقل.

مازالت نسخته من كتابى الأخير قابعةً فى مكتبتى تحمل إهدائى له. اختفى من حياتى للأبد هذا الصوت العميق، والدعاء الطيب. ولكن الله طيبٌ. إن أغلق بابًا، فتح عشرين، تحمل الحبّ والفرح.

نحن الكتّاب والشعراء، لا شكّ محظوظون بمحبة القرّاء. شىء مدهش أن يستوقفك شخصٌ فى الطريق ويقول لك: «أنا بحبك قوى، وماما بتدعى لك فى صلواتها، ربنا يحميكِ». أو تطلب أسرةٌ أن تلتقط لك صورة مع أطفالها. إنه الكنز الأكبر الذى يحصده كاتبٌ، فيعوّضه عمّا يلاقى من سخافات وخواءات اللجان الإلكترونية التى يطلقها مكتب الإرشاد فى أروقة الإنترنت كالضوارى المسعورة تنهشُ فى الأعراض وتلوك لحومَ الناس بألسنها اللاهثة.

إنها يدُ الله الرؤوم تتجسّدُ فى قارئ جميل، يصنع فيديو بديعًا يحمل صورى فى بلاد الله، على خلفية موسيقى «نوستالجيا». وآخر يجمع مقتطفات من مقالاتى وقصائدى فى صفحة ويب. وعشرات البورتريهات يرسمها قراء فنانون تعبيرًا عن محبتهم. إنه الفرحُ الذى يملأ حياتك حين تأتيك كل يومٍ، إشاراتٌ بأن قارئًا هنا أو هناك، لا تعرفه ولم تلتق به يومًا، لكنك تعنى الكثيرَ، بالنسبة له.
عن المصري اليوم
إنها يدُ الله تتجسد فى ملاك طيب، يرفع اسمَك عاليًا من حيث لا تعرف. ويسهر الليلَ ليعيد نشر مقالاتك القديمة التى نسيتها أنت، ليصدَّ عنك سهام الذين لا يقرأون، ويتطاولون بالباطل، شأن الجهلاء. شكرًا لك أيها الملاك الحارس، الذى اختلس الوقتَ من رصيد راحته، وتلامذته، وعمله، لكى يستعيدَ لى إيميلى المسروق. شكرًا لله الذى لا يضيعُ أجرَ من أحسنَ عملا.