اِعتبِرُوا يا أُولِيَ الألبابِ.!.
2011-01-28
لا يمكنُ لأحدٍ أنْ ينكرَ وجودَ الطَّوائفِ الدِّينيةِ في المنطقةِ، وأيضاً لا يمكنُ إنكارُ وجودُ تجمُّعٍ هامٍّ للدِّياناتِ السَّماويةِ الثَّلاثِ أيضاً؛ ولكنَّ ما يمكنُ إنكارُه هوَ عدمُ قدرتِهم على التَّعايشِ بسلامٍ، وتسليمِهم بأحقيَّةِ كلِّ دينٍ بممارسةِ طقوسِه بصمتٍ، ودونَ جعجعةٍ، تريدُ أنْ تفرضَ نفسَها على المنتمِينَ إلى الدِّياناتِ الأخرى.
يتعايشُ في سوريةَ، وعبرَ التَّاريخِ المتوسِّطِ والحديثِ، أيْ منذُ بدأَتْ تتشكَّلُ الطَّوائفُ الدِّينيةُ المنبثقةُ منَ الإسلامِ كالدّرزيةِ والإسماعيليَّةِ والعلويَّةِ، والمرشديَّةِ وغيرِها. إلى جانبِ فرعَيِّ الإسلامِ الأساسيَّينِ، السنَّةِ والشِّيعةِ.
كما تتعايشُ الدِّيانةُ المسيحيَّةُ جنباً إلى جنبٍ معَ الدِّيانةِ الإسلاميَّةِ، بعدَ هجرةِ اليهودِ الَّذينَ كانُوا، حتَّى فترةٍ قريبةٍ، يعيشونَ بينَنا، نتعاملُ معهُمْ، ويتعاملُونَ معَنا.
ولسْنا نبتعدُ عنِ الحقيقةِ، حينَ نقولُ إنَّهُ - وإلى فترةٍ قريبةٍ - كانَ التَّعاملُ بينَ هذهِ الأديانِ والطَّوائفِ تعاملاً فيهِ الكثيرُ منَ الكياسةِ، والحفاظِ على معتقَدِ الآخرِ؛ بالتَّأكيدِ كانَتْ هناكَ استثناءاتٌ لا تُذكَرُ.
ما نلحظُه ،في الآونةِ الأخيرةِ، رغبةُ المسلمينَ السنَّةُ في السَّيطرةِ على الشَّارعِ، وعدمِ تركِ الحريَّةِ للمواطنِ في أنْ يقتنعَ بما يريدُ، وأيضاً التَّأكيدُ على وجودِهِم القويِّ عبرَ بناءِ مساجدَ جديدةٍ، بمآذنَ تحملُ مكبِّراتِ صوتٍ، يُسمَعُ صوتُها في مسافاتٍ، قد تصلُ إلى عشرِ كيلومتراتٍ تقريباً.
وحينَ يحينُ موعدُ الأذانُ، والَّذي كانَ أيَّامَ الرَّسولِ بصوتِ "بلالِ الحبشيِّ" ينادي للصَّلاةِ بشكلٍ محبَّبٍ، أصبحَ في أيَّامِنا هذهِ مبارزةً بينَ المساجدِ ومؤذِّنِيها وخطبائِها، فيمَنْ يعلُو صوتُه على صوتِ الآخرِ؛ ورغمَ أنَّ وقتَ الآذانِ واحدٌ، ومحدَّدٌ بالثَّانيةِ والدَّقيقةِ، إِلاَّ أنَّ المساجدَ تتقصَّدُ، أوْ يتقصَّدُ القائمُونَ عليها، باتِّفاقٍ معلنٍ أوْ مخفِيٍّ، أنْ يكونَ هناكَ فارقٌ ما بينَ دقيقةٍ أوْ دقيقتَيْنِ، بينَ إطلاقِ أوَّلِ أذانٍ، والَّذي يليهِ، لتستمرَّ أصواتُ الأذانِ تلعلعُ في سماءِ المدينةِ أطولَ فترةٍ ممكنةٍ، غيرَ عابئةٍ بجيرانِها منَ الدِّياناتِ الأخرى والطَّوائفِ الأخرى؛ ناهيكَ عنْ خطبةِ الجمعةِ الَّتي تلعلعُ بأصواتِ خطبائِها أيضاً في سماءِ المدينةِ؛ فيختلطُ الحابلُ بالنَّابلِ، ولا تكادُ تسمعُ سوى صراخٍ أو بكاءٍ منْ شدَّةِ الإيمانِ، وكلُّ ذلكَ يشكِّلُ ضجيجاً، المقصودُ منهُ القولُ إنَّنا الأقوى، وإنَّنا القادرونَ، وليسَ لكُمْ إِلاَّ الخضوعُ لمشيئتِنا.
تقولُ الآيةُ: "لكُمْ دينُكُمْ، ولِي ديني."، ويفسِّرُها المفسِّرونَ بأنَّ لكُمْ دينَكم الفاسدَ، ولي ديني الصَّحيحَ، وحقيقةُ الأمرِ ألاَّ شيءَ يشيرُ إلى الفسادِ، وإنَّما الإقرارُ بواقعِ أنَّ لمفاوضي النبيِّ دينَهم الَّذي يؤمنُونَ بهِ، وأنَّ لَه دينَهُ الَّذي جاءَ ليبشِّرَ بهِ.
منْ هذا المنطلقِ، لِنَقْتَدِ، أوْ لِنُعْطِ الحقَّ للآخرينَ في حقِّهم ممارسةَ شعائرِهِم الدينيَّةِ، وإيمانَهم أوْ عدمَ إيمانِهم، حتَّى في إلحادِهم، أو في كونِهم لا دينيِّينَ؛ ودعُونا منْ هذهِ المزايداتِ الطُّفوليَّةِ الَّتي يقومُ بها خطباءُ المساجدِ، والمؤذِّنونَ، وَلْيحترِمُوا وجودَ جيرانٍ لهُمْ، لا يرغبُون في سماعِ خطبةِ الجمعةِ بهذا الضَّجيجِ، وَلْيُخَفَّفْ عددُ مكبِّراتِ الصَّوتِ، بحيثُ تُسمِعُ مَنْ هُمْ قريبونَ منَ المسجدِ فقطْ؛ لأنَّ هناكَ مآذنَ أخرى، تُسمِعُ مَنْ هُمْ قربَها، وبهذا نكونُ قدْ أعطينَا الآخرينَ حقَّ الجيرةِ المصانَةِ بآياتٍ قرآنيةٍ وأحاديثَ نبويَّةٍ.
"وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) (النساء 36)". قالَ ابنُ القَيِّمِ رحِمَهُ اللهُ تعالَى: "وكلُّ مَنْ ذُكِرَ في هذهِ الآيةِ، فحقُّهُ واجبٌ، وإِنْ كانَ كافراً .ا.هـ([1])، وروى جابرُ بنُ عَبْدِالله (رضِيَ اللهُ عنهُ، عنِ النبيِّ (صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ) إنَّهُ قالَ: "الجِيرانُ ثَلاثَةٌ: جَارٌ لهُ حَقٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الجيرانِ حقّاً، وجارٌ له حقَّانِ، وجَارٌ له ثلاثةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ أفضلُ الجيرانِ حقّاً، فأمَّا الَّذي لهُ حقٌّ واحدٌ، فجارٌ مُشْرِكٌ لا رَحِمَ لَهُ، لَهُ حقُّ الجِوارِ، وأمَّا الَّذِي لَهُ حقانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ، لهُ حقُّ الإسلامِ وحقُّ الْجِوارِ، وأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاثةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ، لَهُ حقُّ الجِوارِ، وحقُّ الإسلامِ، وحَقُّ الرَّحِمِ.).([2]). قالَ الحافظُ بنُ حجرٍ، رحِمَهُ اللهُ تعالى: "واسمُ الجارِ يشملُ المسلمَ والكافرَ، والعابدَ والفاسقَ والصَّديقَ والعدوَّ، والغريبَ والبلديَّ والنَّافعَ، الضارَّ والقريبَّ والأجنبيَّ والأقربَ داراً، والأبعدُ لَهُ مراتبُ بعضُها أعلى منْ بعضٍ، فأعلاها مَنِ اجتمعَتْ فيهِ الصِّفاتِ الأُوَلُ كلُّها، ثمَّ أكثرُها، وهلُمَّ جرّاً إلى الواحدِ، وعكسُهُ مَنِ اجتمعَتْ فيهِ الصِّفاتُ الأخرى، كذلكَ فيُعْطَى كلٌّ حقَّهُ بِحَسَبِ حالِهِ، وقدْ تتعارضُ صفتانِ فأكثرُ، فيُرَجَّحُ أو يُساوي ا.هـ([3])
ومِنْ لوازمِ الإكرامِ والإحسانِ، تَرْكُ أذيَّةِ الجارِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضيَ الله عنهُ)، قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ.)([7]). هُنا رغبَ النبيُّ (صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ) في تركِ أذيَّةِ الجارِ، وعدَّها منْ أماراتِ صِدْقِ الإيمانِ .
مِمَّا سبقَ، وتأكيداً على تفسيرِ ابنِ القيِّمِ (رحمهُ اللهُ تعالى): "وكلُّ مَنْ ذُكِرَ في هذهِ الآيةِ، فحقُّهُ واجبٌ، وإنْ كانَ كافراً."؛ فهذا يعني أنَّ احترامَ الجارِ أوَّلاً، والآخرينَ ثانياً، واجبٌ منْ واجباتِ المسلمينَ.
مشكلتُنا أنَّنا كبشرٍ نختارُ ما يناسبُنا، حتَّى لوْ كانَ كلامَ اللهِ، ونتركُ ما لا يناسبُنا، بلْ ونتجاهلُه في سبيلِ أبرازِ عضلاتِنا، والتَّفاخُرِ في أنَّنا الأقوى.!.
يقيمُونَ الدُّنيا، ولا يقعدُونَها، حينَ يُعامَلُ المسلمُونَ في الغربِ معاملةً يعتبرونَها سيِّئةَ، ولا ينتبهُونَ لأنفسهِمْ، وما يفعلُونَ همْ بالآخرينَ، منْ غيرِ المسلمينِ، بمختلفِ تصنيفاتِهم. وهذا مخالفٌ لأوامرِ دينِهم.
ليسَ مهمّاً، أيُّها المسلمُ، أنْ تكونَ قويّاً في مواجهةِ مَنْ لا حولَ لهمْ ولا قوَّةَ، بلْ إذا أردْتَ استعراضَ عضلاتِكَ، فاستعرِضْها أمامَ مَنْ همْ في مثلِ قوَّتِكَ، أو أقوى منكَ؛ هنا تظهرُ الشَّجاعةُ الحقيقيَّةُ.!.
فلِلجارِ المسيحيِّ، ولِلجيرانِ منَ الطَّوائفِ الأخرى، حقوقٌ علينا مراعاتُها، هذا ما قالَه دينُكم، وهذا ما تتجاهلُونَه، فاعتبِرُوا يا أُوْلِيَ الألبابِ.!!.
أختمُ، وأقولُ إنَّ جماعةَ السنَّةِ وشيوخَهم غيرُ متَّفقينَ بعضُهم مع البعضِ الآخرِ في كثيرٍ منَ الأمورِ، فإذا جرَّبْتَ أنْ تسألَ خطيبَ مسجدٍ ما عنْ قضيَّةٍ شائكةٍ تقلقُكَ، فسيجيبُك عنْها، ولكنْ إذا ذهبْتَ إلى خطيبِ جامعٍ آخرَ، فستجدُ الجوابَ مختلفاً، وكذلك الأمرُ في جامعٍ ثالثٍ، ورابعٍ وخامسٍ، ستختلفُ الأجوبةُ وفقَ مزاجَ شيخِ الجامعِ.
ولكلِّ جامعٍ مريدُوهُ، ولا يصلُّونَ إلا فيهِ، ولا يأتمرُونَ إِلاَّ بأوامرِ شيخِه، فأيُّ إسلامٍ هذا الَّذي يختلفُ الأئمَّةُ فيهِ، بينَ مسجدَيْنِ، لا يبعدُ أحدُهما عنِ الآخرِ سوى مئاتِ الأمتارِ؟؟!!..
..............................
08-أيار-2021
08-أيار-2021 | |
17-نيسان-2021 | |
03-نيسان-2021 | |
27-آذار-2021 | |
27-شباط-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |