لو أمدَّ اللهُ في عمرِ محمَّدٍ،
سحبان السواح
2021-02-27
توفِّيَ الرَّسولُ عنْ عمرٍ يناهزُ الثَّلاثةَ والستِّينَ عاماً، وكانَتِ الدَّولةُ الإسلاميَّةُ قدْ بدأَتْ تتشكَّلُ، والتَّوجُّهَ نحوَ العالمِ الخارجيِّ، بعيداً عنْ بداوةِ الصَّحراءِ، نحوَ مدنٍ ودولٍ أكثرَ تحضُّراً وثقافةً منْ ثقافةِ أهلِ الحجازِ ببداوتِهم وحضارتِهم البدائيَّةٍ؛ في بداياتِه الأولى حيثُ قادَ النَّبيُّ غزوةً باتِّجاهِ الرُّومِ، لمْ يحدثْ فيها قتالٌ، إذْ إنَّ الرُّومَ فرُّوا هاربينَ منْ وجهِه حسبَ الرِّواياتِ الإسلاميَّةِ.
لمْ يعشِ النَّبيُّ ليرى الغزواتِ الأخرى الَّتي تمَّتْ في العهودِ اللاحقةِ: الرَّاشدينَ ثمَّ الأمويِّينَ والعباسيِّينَ، ولوْ قُيِّضَ لهُ ذلكَ، أيْ لوْ أمدَّ ربُّهُ في عمرِه، لكي يرى عظمةَ الدَّولةِ الَّتي أنشأَها أتباعُه منْ بعدِه، لكانَ أمرُ الدِّينِ برمَّتِه قدِ اختلفَ.
فالاتِّصالُ بالحضاراتِ الأخرى، والتَّفاعلُ معها، والتَّلاقحُ فيما بينَها كانَ منَ الممكنِ أنْ يجعلَ النَّبيَّ يغيِّرُ رأيَه في كثيرٍ منَ الأمورِ، وكثيرٍ منَ القضايا الحياتيَّةِ، ولجاءَهُ الوحيُ مستفيدينَ منْ قولِ عائشةَ: (( ما أرى ربَّكَ إلا يُسارعُ في هواكَ))؛ ليغيِّرَ الكثيرَ منَ الأحكامِ الدُّنيويَّةِ والدِّينيَّةٍ، ولخرجَتْ أحكامٌ دنيويَّةٌ تتعلَّقُ بتلكَ العلاقاتِ، وأسلوبِ الحياةِ الَّذي لمْ يعرفْهُ النَّبيُّ ورفاقُه داخلَ صحرائِهم المغلقةِ على الرِّمالِ والإبلِ والعاداتِ القبليَّةِ الهمجيَّةِ الَّتي حاولَ النَّبيُّ التَّقليلَ منْها؛ لكنَّهُ لمْ يفلحْ في خلعِها منْ رؤوسِ أصحابِه.
لنْ أدخلَ في تفاصيلَ تاريخيَّةٍ. ولنْ أدخلَ في مواضيعِ الاختلافاتِ في المصاحفِ الَّتي اتُّفِقَ فيما بعدُ على اختيارِها في مصحفِ عثمانَ، وحرقِ كلِّ ما عداهُ، إذْ تقولُ المصادرُ إنَّ في تلكَ المصاحفِ الأخرى، ومنْها مصحفُ أبي بكرٍ، آياتٍ وسوراً لمْ تُسَجَّلْ في مصحفِ عثمانَ لأسبابٍ سياسيَّةٍ.
المهمُّ إن أحدا لا يستطيعُ أنْ يؤكِّدَ، أوْ ينفيَ أنَّ مصحفَ عثمانَ هوَ المصحفُ الحقيقيُّ الذي جُمعَتْ فيهِ جميعُ ما أُنزِلَ على محمَّدٍ منْ آياتٍ، ولكنْ ليسَ هذا هدفَنا هُنا.
الهدفُ الَّذي أريدُ الوصولَ إليهِ، هوَ أنَّ الفتوحاتِ الَّتي جاءَتْ بعدَ موتٍ محمَّدٍ، جعلَتْ عربانَ الصَّحراءِ يتعرَّفُونَ على حضاراتٍ لمْ يكونُوا يعرفونَها إلاَّ منْ تاجرٍ أو شاهدٍ أوْ عادٍ، دونَ أنْ يفكِّرَ في أنْ يغيِّرَ في تركيبةِ حياتِه البدويَّةِ قيدَ أنملةٍ.
في التِّجارةِ أنتَ تتعاملُ معَ أناسٍ، تبيعُهم وتشتري منْهُم، ولكنَّكَ لا تعيشُ معهُم، ولا يصبحُونَ مقرَّبينَ منْكَ، بعدَ الفتوحاتِ، وبعدَ دخولِ عددٍ هائلٍ منَ البشرِ متعدِّدي الجنسيَّاتِ والهويَّاتِ والحضاراتِ في الدِّينِ الإسلاميِّ، بدأَ التَّأثيرُ يظهرُ شيئاً فشيئاً إلى أنْ ترسَّخَ أوَّلَ ما ترسَّخَ في دمشقَ، أيَّامَ كان معاويةُ حاكماً لها فبدأَتِ العاداتُ تتغيَّرُ، وأسلوبُ الحياةِ يصبحُ أكثرَ رقيَّاً، وبنيَتِ القصورُ بدلَ الدُّورِ، وكثرَتْ تجارةُ الرَّقيقِ، ودخلَ فنُّ الموسيقا والغناءُ عنْ طريقِ الجواري، وبدأَتِ الدَّولةُ الإسلاميَّةُ الَّتي نشأَتْ في الصَّحراءِ، تتحوَّلُ إلى حضارةٍ مختلفةٍ، فظهرَتِ البدعُ، وظهرَتِ الطَّوائفُ بمرورِ الوقتِ، ودخلَتِ الفلسفةُ والعلومُ الإنسانيَّةُ على مدى عشراتِ السِّنينَ؛ والقصَّةُ بعدَ ذلكَ معروفةٌ فيما تلا ذلكَ منْ حروبٍ داخليَّةٍ، تركَتْ أثراً كبيراً في تركيبةِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ.
الخلفاءُ في بداياتِ تشكُّلِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ كانُوا أقوياءَ، وكانُوا أصحابَ رأيٍ، لذلكَ لمْ يحتفلُوا بالقرآنِ والحديثِ، ولمْ يهتمُّوا بهِ كثيراً، بلْ ذهبُوا بعيداً عنْهُ لتأسيسِ دولةٍ حضاريَّةٍ، وثقافةٍ استمدُّوها منْ ثقافاتِ الحضاراتِ الَّتي انتصرُوا عليها، وتجاهلُوا الكثيرَ منْ أوامرِ ونواهي القرآنِ والحديثِ النَّبويِّ.
هنا يُطرحُ سؤالٌ لا بدَّ منْ طرحِه، ألمْ يكنِ اللهُ القادرُ على كلِّ شيءٍ يقدرُ على تأجيلِ موتِ النَّبيِّ ثلاثينَ سنةً.؟، ألمْ تكنْ تلكَ الفتوحاتُ ستحدثُ تحتَ سمعِهِ وبصرِه، وكانَ تأثَّرَ بها، كما تأثَّرَ خلفاؤُه.؟، أما كانَ الوحيُ غيَّرَ لهجتَهُ لتصبحَ أكثرَ طراوةً، وأكثرَ علاقةً بالحياةِ الجديدةِ الَّتي بدأَتْ تتشكَّلُ.؟. هيَ أسئلةٌ مطروحةٌ للنِّقاشِ. ولكنْ ما لا بدَّ منْ قولِهِ هُنا، والتَّأكيدِ عليه، أنَّ كلَّ تلكَ الحضارةِ الإسلاميَّةِ الَّتي بُنِيَتْ، ونمَتْ، وتعملقَتْ على يدِ الخلفاءِ الأمويِّينَ والعبَّاسيِّينَ، كانَتْ دونَ دستورٍ، وظلَّ دستورُها الوحيدُ الَّذي يحكمُها كما يحكمُنا الآنَ هوَ القرآنُ الَّذي لمْ يخرجْ منَ الصَّحراءِ القاحلةِ نحوَ اتِّساعِ الأرضِ، واكتشافِ الحضارةِ.
لو أمدَّ اللهُ في عمرِ محمَّدٍ، لغيَّرَ الوحيُ كلَّ القرآنِ، ولنزلَ الوحيُ بآياتٍ تجبُّ ما قبلَها، وتلغِي الكثيرَ منَ الأوامرِ والنَّواهيَ الَّتي مازلْنا نرزحُ تحتَ نيرِها، والَّتي ما يزالُ رجالُ دينِنا متمسِّكينَ بها بعدَ مرورِ 1400 سنةٍ، في الوقتِ الَّذي لمْ يتمسَّكْ بها أصحابُها الَّذينَ عايشُوا النَّبيَّ، بلْ تغاضَوْا عنِ الكثيرِ ممَّا جاءَ فيها منْ أجلِ بناءِ دولتِهم وحضارتِهم. وخرجَ منْهُم مَنْ درسَ، وفكَّرَ، وقدَّمَ بحوثاً أُحرقَتْ فيما بعدُ. وقُتِلَ بعضُ أصحابِها.
ما ينوفُ عن 1400 سنةٍ، ونحنُ نُحْكَمُ بدستورٍ واحدٍ: القرآنُ، والسنَّةُ غيرُ المؤكَّدةِ والمختَلَفِ عليها. تُرى ضمنَ ما يجري حاليَّاً في الدُّولِ الإسلاميَّةِ، ألا يحقُّ لنا كمسلمينَ أنْ نطالبَ بتعديلاتٍ على هذا الدُّستورِ.!؟.