الفن العظيم هو الفن الذي يعبر عن فكر صاحبه في كل مكان وزمان. والكلام الصادق يصدق أيضا لكل الأزمان، من هذا الكلام الصادق كل ماكتبه الأخوين رحباني، ونأسف لما يحدث لهما اليوم من إساءات من أقرب الناس إليهما، من مسرحيات غنائية أو اسكتشات، إلا وخلدت في معانيها، وفي كل ما تضمنته من موسيقى وتوزيع وأداء، أسوق قولي هذا بعد أن سمعت من جديد مسرحية ناطورة المفاتيح، وشعرت كم هي مؤثرة، وصادقة ولو عرضت اليوم لأوقف عرضها بسبب معانيها التي لا تتناسب مع ما يجري في المنطقة.
في فاتحتي المعنونة الاحتجاج بالإضراب عن الطعام، قلت فكرة، فهمت خطأ من بعض القراء، وهؤلاء القراء ذاتهم الذين يفهمون خطأً كل ما لا يناسب تفكيرهم ويؤولونه حسب مزاجهم، المهم قلت أنه حقنا للدماء لنعلن احتجاجنا من بيوتنا بالإضراب عن الطعام حتى تتحقق مطالبنا، وبهذا نحقن دماء الشعب الذي يسفح في المدن السورية.
في مسرحية ناطورة المفاتيح فكرة أكثر رقيا، وأكثر قوة من فكرتي تلك، وهي أن يهاجر الشعب من المنطقة احتجاجا على ضريبة فرضها الملك عليهم وهي مقاسمتهم نصف أرزاقهم. ينفذون فكرتهم، ويهاجرون وتبقى فيروز ( زاد الخير ) رافضة الخروج وهي التي عوقبت بسبب عدم قدرتها على دفع نصف ممتلكاتها للملك.
فجأة يشعر الملك، بأنه ما عاد ملكا، لأن الملك يحتاج الرعية، وهو أصبحت رعيته امرأة وحيدة وهذا ما لم يناسبه.
أنقل هنا بعضا من مقاطع ما حدث بعد الهجرة دون تعليق:
يا جاد الحكيم
جاد الحكيم : نعم يا مولانا
الملك : إذا سألوك شو أهم شروط الملك , اختصرهون بـ تلات كلمات
جاد الحكيم : العدل , المحبة , وراحة البال
الملك : عظيم .. اختصرهون بكلمة وحدة
جاد الحكيم : الضمير
الملك : بتعرف يا جاد حكمك صارت شايبة متل دقنك , لك إلك عشر سنين لاحقني بالضمير ما كنت تجدد , غيّر شي مرة قول السهر الخمر , الضمير بيتعّب يا جاد الخمرة بتريح أكتر
جاد الحكيم : قلي عليك الأمان
الملك : عليك الأمان , بس ليك أوعى تكبر بالحكي ها
جاد الحكيم : ما بيكفي الناس الضرايب والسخرة والسكوت حتى تزيد عليون حصة الملك وتجعل حالك شريك النص بمواسمهون وممتلكاتون
الملك : أنا الملك يا جاد والملك بيملك كل شي , ليه بتشوف اني أخدتلون النص , ما بتشوف إني تركتلون النص
جاد الحكيم : يا مولانا الناس مش راضيين
الملك : ليه مين بيرضي الناس , وبعدين شو بدون يعملوا ؟ اضراب بفشلو , تمرّد بسكتو , احتجاج ما بسمعو . ثورة ؟ عندي حرس كفاية ..
جاد الحكيم : ما حدا بيقدر يحبس المي , والناس متل المي إلا ما تلاقي منفذ تتفجّر منو
+++
بربر : ولأيمتى بدنا نضل ساكتين , لأيمتى بدو ينهبنا الخوف , صرنا متل الحيطان , بيضربونا ما منتحرك , بيحكونا ما منسمع , تخمين انكتبلنا ننحبس بسكوتنا , ليش ما منرفع صوتنا ومنصرّخ , لازم البرج العالي يوقع , لازم الرماح القاسية تتكسر , شو بنا مكومين على حالنا متل الحصر العتيقة وعيونا صوب الأرض , قوموا , صرخوا , احتجوا , اهجروا , الحالة ما بقا تنطاق .
الصبية : اللي ما بيطيق الجور بيرحل
بربر : هيك رح يصير
الصبية : بدك ترحل ؟
بربر : مش أنا وحدي , كلنا رح نرحل
الصبية : كلنا ؟ معقول ؟
بربر : إي .. إذا في ناس عندون كرامة , بليلة ما فيها ضو قمر , متل رفوف الطير بيهاجروا عن هالمملكة وبيتركولو بيوت الفاضية وأصوات الدياب
الصبية : أفكارك بتخوف
بربر : مش أفكاري وحدي , في كتير غيري عم يفتكروا هيك
الصبية : أنا كنت متلك يا بربر , حاملة السلّم بالعرض , مرات بهالليالي حس بإيديي عم يخنقوني , وجن وقول بدنا نخلص , لكن ارجع اتطلع وشوفو متل الجبل واقف والليل مالو آخر .. بعدين استسلمت , ارتحت وصرت نام وإحلم وصار عندي وقت للضحك
بربر : إنتِ ارتحتِ , بس أنا حاسس بمسؤولية وما بقا فيي طيق الظلم .
+++
القائد : في متمرد هاجم الحرس وشتم جلالتكم , حاول الهرب اضطروا يقتلوه
الملك : شو إسمو ؟
القائد : ديك المي
الملك : ديك المي .. مش هوي الي كان عم بيجمع ثوار بالجرود حتى يسقطوا الحكم ؟
القائد : نعم يا مولانا
الملك : ونهبوا عنابر القصر ..
القائد : نعم نعم ما أوسع معلوماتكم يا مولانا
الملك : ولو , جهازي الخاص شو قاعد يعمل
جاد الحكيم : يا ملك الزمان ديك المي رجال مسكين لا ثاير ولا شي وهوي اللي طعمكون سلة اللوز ..
+++
بربر : بدك تضلي ضلي .. نحنا رح منروح .. ما زال هو بدو الأرض .. بدو البيوت
بدنا نخليلو الأرض , نخلي البيوت .. رح ناخد الإنسان .. رح ناخد الإنسان
وساعتا يضلّو ملك , ع العتم والحيطان .
+++
حققتوا بأمر الرعية ؟
القائد : طال عمرك ما في رعية
الملك : نعم ؟ وين راحت ؟
القائد : هربت
الملك : الرعية الرعية
القائد : هربت
الملك : هربت ؟
القائد : نعم هربت
الملك : آلاف الناس المدن الشوارع , الجماهير الغفيرة اللي كانت تهتف عاش الملك كلون هربوا معقول !؟
القائد : هيدا اللي صار , المملكة صارت مهجورة وشملها الصمت , وما بقي فيها إلا زاد الخير وخيالات الحرس
الملك : زاد الخير وخيالات الحرس , ما بيصير , ما بيصير
جاد الحكيم : ما حدا بيعرف كيف بتتفجر المي , أنا بعرف ثورات وإضرابات ومقاطعة السلطة , بس شعب يهاجر كلو , ما بعرف
الملك : غلبوني يا جاد غلبوني , عوض ما يروح الملك راح الشعب , سكروا عليي المملكة وراحوا نفيوني بحالي وراحوا , ولك وين كنتوا ما سكرتوا البواب الطرقات الجبال ؟
+++
الملك : صارت رعيتي زاد الخير .. ليش فلّوا يا زاد الخير؟
زاد الخير : صار بدك البيوت والأرض تركولك اياهون وراحوا
الملك : وشو نفع البيوت بلا ناس
زاد الخير : هلأ عرفت قيمة الناس , كانو يروحوا رخاص عندك ديك المي راح بسلة لوز
الملك : اخرسي .. أنا الملك السيد وبإيدي الحياة والموت , وإنتي الرعية وعليكي الطاعة
+++
الملك : بتعرف يا جاد , صار العرش بإيد زاد الخير وبديت تهزو , مش لازم استسلم لازم اخلق رعية , فلتو المساجين خليهون يصيرو رعية
جاد الحكيم : ملك رعيتو المجرمين !!
الملك : مش أحلى ما تكون رعيتو خيالات الشجر ؟ أيكتب لهذا الملك التعيس أن يحمل كيسه ويندار يشحد على أبواب الملوك .. يا قايد فلّت المساجين ..
+++
زاد الخير : إنت بقيت , لأني أنا بقيت .. لكن هلأ عم قول لحالي إذا رح ضل , إنت رح تضل , وبيكونو اللي راحوا راحوا بلا تمن , من شان هيك , رح البس فقري وتعاستي وتوّج حالي بالأعشاب البرية واتمشى باحتفال تحت زينة الشجر وقبة السما صوب ارض جديدة اتمشى وكل ما ببعد مسافة عرشك بيغرق شبر حتى توصل إنت للأرض وأنا للحرية ..
الملك : لأ يا زاد الخير لا تروحي وقوليلون يرجعو أنا بحبون
زاد الخير : إنت قلون
الملك : ما بيسمعوا مني
زاد الخير : إذا بدك اياهون من صحيح , بيرجعوا . .. أنا رايحة .
الملك : زاد الخير .. اوقفي .. بدي اياهون بدي اياهون , شو بينفعني ملكي بلاهون, هلأ حتى شفت حالي , شفت الملك قشة على بيدر معول بحقلة متروك.
مرة أخرى دون تعليق