Alef Logo
مقالات ألف
              

بيروت... عاد الصيف

سعاد قطناني

خاص ألف

2013-06-18

أخذني الوجع السوري المتمدد إلى بيروت، بزيارة أقصر من حلم وأطول من كابوس! رحت ألملم بعضاً من حزني هناك وأطويه كما أطوي جرحاً على دمائه، رحت ألمُّ قلباً مات قهراً حين انجرح الكبرياء على بوابات الانتظار والشك والكراهية. في بيروت كان الركض من أجل ورقة وفاة لجسد فلسطيني من سوريا كفيلاً لأعلم كم هو غائرٌ ذلك الشق في الجسد العربي، وكم هي مقسمة بيروت، وكم هي معذبة بناسها وأهلها!!

بضعة أوراق لتؤكد أن ذلك الجسد المسجى في ثلج الموت هو جسد ميت لفظ أنفاسه الأخيرة حين اختنق من مرارة الخذلان والحزن كانت تستلزم العبور مرات من زحمة وخوف غبار الشوارع في بيروت إلى هدوء شوارع أخرى ورهبتها، كانت تستلزم أن أمرّ بالألم وأتحسسه وأنا أبحث عن بيروت في بيروت!!

قرأتُ بيروت شعراً مع محمود درويش ونزار قباني، وقرأتها نثراً مع أنسي الحاج، ورواية مع غادة السمان، غنيتها مع فيروز ووديع الصافي ومارسيل وأحمد قعبور والكثير الكثير غيرهم. بت أعرفها دون أن أراها وكانت زيارتي لها دائماً مؤجلة. حين رأيتها اليوم كنت كعمياء عاشت في مدينة وعاشت المدينة في وجدانها، وفجأة، فتحت عينيها على تلك المدينة التي تعرفها ورأتها لأول مرة....

لم تعد أسماء الشوارع والمناطق في بيروت عناوين منثورة على صفحات الجرائد والمجلات، أو خبراً في نشرات الأخبار، ولم تعد رومانسية تسيل عطراً من صفحات كتاب. لم تعد بيروت أغنية رماها عاشق في الهواء، أو موجاً من غيم تعلق في السماء بين البحر والجبل. كانت بيروت بكل تفاصيلها وتوزع جغرافيتها وتاريخها واتجاهات الريح في سمائها ومسائها تثقل قلبي وتشتت عقلي...

لم أر بيروت متنوعة فالتنوع هو الاختلاف في الوحدة، رأيتها متناقضة، مقسمة ومنقسمة على نفسها زاد انقسامها ذلك الدم الذي يسيل على حافة بعلبك وجرود عرسال متخفياً تحت شعار "النأي بالنفس" بعيداً عمن اقتسمت معهم الخبز في ليالي الحرب والخوف، وكأنه يكفي إغماض العينين و إحالة ما يجري في سورية إلى جمل إسمية بلا فعل وفاعل لكي ننكر وقوع الفعل والمجزرة، فالنأي بالنفس هو اليوم اجتراحا للمستحيل ومحاولة تصديق ما لا يصدق كما كان يوماً شعار"سوا ربينا" من قبل النظام السوري قشرة سكر تغطي حبة علقم!!

جرحتني بيروت بوردة حمراء بيد طفل سوري أراد أن يبيع ألمه المختبئ في طياتها وهو يركض خلف المارة على شاطئ الروشة، خذلته اللغة كي تتكشف المرارة ويطفوا ألم التشرد على أرصفة بيروت..

لم أرَ لبنانيين في لبنان من قبل ولكني رأيتهم في سوريا مزهوين بانتمائهم لعاصمة الجمال والمقاومة والثقافة والسياحة و..و.. لم أرهم مخذولين!! لم يكونوا وحيدين!!

اليوم رأيت السوريين في بيروت مجروحين من وجعهم، ومخذولين من "إخوتهم"، مكسورين من نكران العالم لألمهم!!

رغم حزني وألمي لكني رأيت بيروت فاتنة! وهي تعرف أنها هي الفاتنة. فاتنة امتشقت جمالها سكين يجرح من رآها...

بيروت العطش، الشوق، الفتنة... تتمدد على الجبال، تتعطر بالصنوبر،وتلقي بقدميها العاريتين في البحر...

بيروت ترسم شفاهها وتنفخها، تكحل عينيها، تقّلم أظافرها ككل الجميلات ولكنها تتزنر بالرصاص والسلاح ككل المليشيات...

بيروت "الكولبات" الخائفة والمخيفة... بيروت المحاصصة والحصص الموزعة في كل شارع وحارة...

بيروت لم ترم ذاكرة الموت ولم تتعلم أن تكون لكل الناس، بل خبأت تلك الذاكرة خلف جدار أعدمه الرصاص في المدينة.. بيروت لم تتعلم أن تكون للجميع... لم تتعلم!!

أشفقت على ساحة الساعة الخاوية إلا من أصحاب المحلات في السوليدير حين رأيت جندياً مدججاً بالسلاح يطعم الحمام كي لايهجر السلام المكان كما فعل السائحون!!

مخيم صبرا...أخيراً رأيته في رحلة التيه الحزينة، لم يعد وجعاً في حكاية، أو دماءاً تسيل من جريدة، رأيته مازال يقف متكئاً على عرائش الصفيح بعد أن هشمتنا دماؤه في ساعة المجزرة...لم يكن يحتاج مخيم صبرا كل ذلك الحقد لتكتمل المجزرة، كان يكفيه مطر وغيمة ليغرق بالأوجاع والجراح..

كم هو حزين وصغير مخيم صبرا!! كم هو موجع وموجوع بفقره ومأساته!! كل تعاطف العالم مع هذا المخيم الصغير لم يبن بيتاً لأحد "سقفه حديد أو ركنه حجر"، رأيته مختبأ في الظل كطفل فقير...لا بل كجدٍ يتكئ على حكاياته ليروي للعالم مرارة الغدر وثقل الخيانة!!

رأيت في مخيم صبرا كل البلدات الصغيرة في سوريا التي باتت تنهش ضمائرنا في كل لحظة وتسألنا كيف للظالم أن يرمي كل حقده وجبروته على حي صغير في درايا أو بابا عمرو كما اكتوى مخيم صبرا بنار الحقد الأزلي لمن يكرهون الحياة.

لا يتآلف المرء مع الخوف فالخوف شعور طارئ لا يمكن العيش معه!! وفي بيروت، تقرأ توجس الشوارع وخوفها من حرب تختبئ خلف الباب!! تعاين وجوهاً قلقة، وشوارع متربصة، وبنادق تعلن عن نفسها عند كل ناصية، وحواجز إسمنتية تخنق الطريق نحو المستقبل!!

لا أعلم كيف نسي قلبي كل الحزن المحيط بي وانقبض على نفسه خائفاً وأنا أمشي في الشوارع، ولم أستطع أن أفهم كيف يستطيع أهل بيروت أن يحتسوا فنجان قهوتهم الصباحية ممزوجاً برائحة الخوف المتمترس فوق دبابة في أول الشارع!!

بالرغم من كل ما يحدث في سوريا من خراب ودمار وقتل يومي، ولكني حين رأيت بيروت المقسمة بكتل إسمنتية خرقاء تنبهك وتقول: خذ حذرك، أنت لست آمن! أو بعسكر مسلحين يسألونك والشك يملأ عيونهم: من أنت؟؟ إلى أين المسير؟! خفت، وعلمت علم اليقين أن النأي بالنفس أصبح كلاماً خاوياً من المعنى حين ترى الخوف بعيون المارة...حين تلمس الشحن الطائفي ينبت فوق الأرصفة، خفت من نار سوريا أن تمتد إلى لبنان، ولكني خفت وراعني أكثر أن يمتد ما تعيشه بيروت الآن بعد كل هذه السنين على الحرب الأهلية إلى دمشق. خفت أن أرى دمشق ذات يوم مقسمة ومنقسمة على نفسها كما هي بيروت الآن!!

عذراً بيروت فأنا أدمنت حبك!

عذراً بيروت إن أسأت بكلامي عنك...فقد رأيتك اليوم أجمل مما اعتقدت، ومنقسمة أكثر مما تخيلت، وقاسية بما لايليق بجمالك فقد رأيتك وقد استبدلت عشاق الليل بحراس "الكولبات"، وهمس الحب بصراخ الساسة والسياسيين، وحكايا الوطن بدسائس الطائفة والطائفيين!





















تعليق



هاشم القيسيه

2013-06-18

ما أجمل كتابتك وابلغ تعابير آتك في الوصف وكيف تمزجيين الآلام ببعض التفاؤل والرجاء انتمي أن يصل صوتك الي أكبر عدد ممكن

أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

داعش.. إبحار إلى قلب الظلمة

29-نيسان-2017

أحبك أكثر.

17-أيلول-2014

غزة… أحلام لا تشبه المستحيل

17-آب-2014

داعش.. إبحار إلى قلب الظلمة

04-آب-2014

مخيم اليرموك متخم بالكرامة موغل بالجوع

01-آذار-2014

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow