مخيم اليرموك متخم بالكرامة موغل بالجوع
خاص ألف
2014-03-01
وجع لم ينته وربيع لم يأت.... لا خراب يشبه الخراب في سورية.. لا ركام مثل هذا الركام الذي ضرب عنق المدن فكسرظهر البيوت وحرق قلب ساكنيها ... لا كلمات تصف ما يحدث.. لا صفات ترتقي للموصوف.. لا حزن مثل هذا الحزن الذي نبش الحناجر بالأظافر ... لا جوع مثل هذا الجوع حين فغر فاهه بوجه رضيع... لا تشرد ... لا خوف..... لا عطش.. لا موت.. لاشيء يشبه شيء.. كل الكلمات صارت زبد على بحر من وجع وناس يغرقون في القاع كأنهم تراب.. ثلاث سنوات جعلت سورية تقف على ناصية الموت لا هي تعبر إلى الحياة فتحيا ولا هي تغرق في الموت فتموت... فحمص أم المدن فاض حزنها حتى غدا تغريبة تحمل ما تبقى من حنين الأغنيات إلى الدار والأهل وتجري الصور القادمة من هناك في سيل يعاند العاصي العنيد ويبتعد عن مصب الروح... كل صورة في سورية غدت نبضاً يعلن انتفاضته بوجه الموت كلما أراد الطاغية أن يعلن انتصاره على قلب طفل وزهرة اقحوان...
صحيح أن لكل صورة تأتي من سورية حكاية تحمل في عمقها سرمدية التأريخ على فجائعية المشهد وجرائم الطاغية وعار الصمت لكن صورة طوفان مخيم اليرموك اختصرت الصور والأوجاع والآهات كلها... فصورة قيامة المخيم لم تكن لوحة نحتتها عبقرية فنان في زمن سريالي على مشهد أفاق من الموت أو نعرته ساعة القيامة...بركان من الجوعى المقهورين لم يجيئوا مع رائحة خبز الصباح، ولا حملتهم حكايا الرياح، بل جاؤوا من تفاصيل المأساة السورية والألم الفلسطيني، فكانت الصورة وكان المشهد الفلسطيني السوري يذري علقماً على روح الأوجاع كلها... كأنهم حلم وُلد في الظلام فأخذ الليل يشدهم إلى الليل ولم يصلوا إلى الصباح إلا معفرين بركام المدينة وخوفها.. كأنهم أفاقوا من موت بذاكرة تعرف عذاب القبر ولا شيء عن نعيم الحياة أو الجنة...بحر من قهر ومأساة وحيرة لا تنتهي ،هم كذلك وأكثر.. لا شيء يشبه موتهم.... لا شيء يشبه جوعهم... لا شيء يشبه فرحهم .. لا شيء يشبههم إلا هم.. بآلامهم التي كدسوها فوق ظهورهم أكثر من ستين عاماً .. بذلك الخيط الممتد من مخيماتهم إلى يافا وحيفا والقدس ولا يراه إلا هم... ولايؤمن بوجوده إلا هم... لا شيء يشبههم إلا أغانيهم والزغاريد وهي تودع شهداءهم .. إلا القيامة والخروج من تحت الرماد كلما ظن العالم أنهم ماتوا ... لا شيء يشبههم إلا دلعونا وظريف الطول ويرغول يستجر الحنين والذكريات... حين تخلى العالم عنهم طووا حلم العودة كحجر على بطونهم وصاحوا: عائدون..
لا عيون تشبه عيونهم المعلقة برغيف خبز اصبح عنوان الحياة ورمز الموت في آن... هي ذات العيون التي قتل شغف الحياة فيها جوعٌ وطاغية، لا صوت يشبه صوتهم... إنهم يدقون على الجدار ويصرخون ... لا نريد أن نموت هكذا دون رغيف الخبز وحبة القمح... دون حلم بالربيع ... ودون وطن.. لن نموت هكذا كما يموت الجياع على بعد كف من خبزنا وحلمنا.. لن نموت في خزان صمتكم سنصرخ بملئ جوعنا نحن جوعى... في كل يوم تتبعثر قلوبهم بين نبضتين: انقباض يحمل الخيبة وخفقة فيها أمل ...
أمام ذلك المشهد لم يعد سرد تفاصيل المخيم يجدي ولا الذكريات تجدي ولا ذاك الوجع الداخل إلى القلب مع كل شهقة و الخارج منه آه وزفرة يجدي... لم تعد تجدي التفاصيل التي باتت تغطي شرايين الروح... فوق ذاك الركام كانوا يعلقون احلامهم.. وهناك علقوا صور شهدائهم.. لم تعد مقبرة الشهداء زينة للعيد ... لم تعد البيوت مكاناً للأغنيات والأحلام... لم تعد عرائش الخضار وصياح الباعة لازمة للمكان... صاروا هم المكان والذاكرة والزمان... وصار الهواء يحمل ريحهم وأغانيهم وحلمهم وخوفهم... فهم وحدهم من ابتكر ترنيمة للحياة من بين الركام... هم وحدهم من غنوا بدل أن ينتحبوا جوعهم وعريهم ووحدتهم....
عتبي على الدروب التي خانت خطاهم نحو فلسطين وأخذتهم إلى هجرة أخرى.. كيف هان على الشوارع التي دقوا نواقيس الحياة على أرصفتها ليل نهار وقوفهم عليها الآن وقد أنهكهم الجوع والتعب.. هل نسيتِ خطاهم يا دروب حين ساروا ذات صيف إلى بيروت؟؟ هل نسيتِ يا شوارع كيف تبللتْ بالدمع نواصيك شوقاً لهم ونفضتي الحزن عن أكتافهم حين خلّفوا قلباً ومنديل شوق في لبنان؟؟ هل نسيتَ يا هواء أن الناس هم المخيم ؟؟هل نسيتَ كيف كنت تحمل ضجيجهم وصخب الحياة في قلوبهم؟؟ كيف انقلب الحلم الكبير إلى كرتونة فيها طحين حياة، ربما تصل وربما لا تصل، يطوي الأمل نفسه خجلاً من خيبة الانتظار في عيون طفل ... أصبحت المسافة التي تفصل بين صرخة الحياة وشهقة الموت بضعة شهور وجوع.. أصبحت المسافة تقاس بين رغيف الخبز والمقبرة... صاح المخيم: أيها العالم أنا اليرموك متخم بالكرامة موغل بالجوع... أنا اليرموك أنا سيل الجوع والجوعى إن أكلت وفاض عن جوعي حبة قمح سأزرعها حول قبور الشهداء ...
يقولون البيوت أسرار ساكنيها ... وبيوت أهل المخيم مثلهم مهشمة ... متعبة...عطشى.. مُمتلئة بالحزن والخوف والرصاص... مقطعة أوصالها بالكاد تقف على عمدانها... على أقدامها.. على أرضها.. على أطرافها... ينزفون منها بغزارة الدم من جرح انفتح على شارع في السراب بين الخراب والخراب...... كالطوفان ينزفون إلى الشوارع بحثاً عن قطرة حياة في زمن الموت والجوع والعذاب... يخرجون علّ الخبز يحمله السحاب.. علها تمطر قمحاً وسكر.... علها وعلهم يبيتون دون موت مغلف بجوع.. بفقر... ببرميل حقد.. برصاص طائش... بموت مدثر بألف ثوب وثوب .
كم من الموت يكفي لكي يموتوا.. اقتلعوهم من فلسطينهم لكنهم عاندوا الموت وبقوا أحياء يعتصرون الحياة من ذلك النسغ المجبول بحلم الأرض والعودة... عاشوا لبنان وسوريا والأردن وبقيت فلسطين دائماً على مرمى حجر .. حفروها على جدار القلب كي لا يسرقها الصفيح وتذوب في أزقة المخيم... قتلوهم في تل الزعتر.. في صبرا وشاتيلا... دمروا ما يستر الروح في نهر البارد... خنقوهم في مخيم اليرموك لكنهم ينبعون من بين دمارين وشارع .. يغطون وجه الأرض بحزن عتيق... ينثرون الآه على مساحة الموت المنبعث من كل الزوايا... وجوه تعب الموت من مطاردتها فقامت لتعلن إرادة الحياة على أطراف الجحيم... قامت لتكشف نذالة القاتل وتواطؤ العالم كي تكتمل الجريمة..
سعاد قطناني
08-أيار-2021
29-نيسان-2017 | |
17-أيلول-2014 | |
17-آب-2014 | |
04-آب-2014 | |
01-آذار-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |