داعش.. إبحار إلى قلب الظلمة
سعاد قطناني
خاص ألف
2014-08-04
لم يخطر ببال أحد في أكثر الخيالات تطرفا وجموحاً أن تتم إزالة الحدود بين سوريا والعراق عن طريق عودة سريالية للتاريخ ببؤس وجهه وسواد هواه، كصورة فاقعة ناشزة لحاضر يأخذ مشروعيته من ظلام الماضي، من خيط من الدم يتلوى بين علوم الكلام وجمود الرؤيا وتأويل المعنى ليتصالح مع الموت.
داعش يتمدد على طول البلاد وعرضها موتاً تراكم من ثأر إلى ثأر، فسال لزجاً طافحاً بقيح مزمن من الكراهية، ليلوث نهر الفرات، ويزحف في أكثر زوايا الروح والضمير ظلمة، ويرتشف السواد من العالم المجهول الكتيم، العالم البدائي حتى الهمجية، والموغل بالشر بمداه الأعنف، حين يحكم العقل الأحاديُ المشهد َ، فيقصي ويقتل ويجرم تحت ادعاء الحق، والتفوق في امتلاك الحقيقة، حين يتم التعامل بعنصرية ليس ضد الأشخاص فقط بل ضد المدنية وضد الإنسانية جمعاء.
حين وصلت الرايات السوداء، من ظلام الخيالات، معلنة انتصار الدولة "الخلافة"، صارت المدن بتاريخها وناسها من ممتلكاتها ومقتنياتها، فتحْت راية الطهارة يمارسون أشد أنواع النجاسة، ومن بين حروف التقوى تنبعث رائحة الفجور، فتستباح البيوت، وتقطع الرؤوس، ويصبح التسابق للنهب والقتل والتدمير هو التجلي لتشويه الروح والضمير الإنساني بدواخلهم.
ساحة الجريمة هي الوطن بنقائه وفسيفسائه، حيث تدور الجريمة في فضاء من القسوة العبثية والعدم.
كيف جاء هؤلاء المارقون، ومن أين جاؤوا، أين كان يختبئ كل هذا السواد في قلوبهم، وإلى أين هم ذاهبون بنا، كيف لنا أن نرى في "الخليفة" الذي يحترف القتل كاحترافه البلاغة على المنبر، ويجتر الكلمات ويفرك أسنانه بالمسواك مُغَيباً بين زمنين، كيف يمكن أن نرى فيه سوى العبث بعينه، سوى كابوس يجثم على بلادنا في واحدة من ليالي غيبوبتها الطويلة.
ويشتد الخوف من الآتي ضراوة، حين نرى النساء تُرجم حتى الموت، والرجال تُجلد حد الذل، والأطفال تصلب بمسامير التحجر عنوانا لدربٍ عمده المسيح بالآلام، ويمضي عابرو التاريخ قدماً متتبعين خيط الدم منذ السلف إلى يوم الدين عنوانهم إذلال الناس والتنكيل بهم، بحد مثلم بالباطل والرذيلة، فيصبح توصيف اللحظة ب"فانتازيا تاريخية"، لا يعبر عن حقيقة الصورة، ولا هو قادر على احتمال شطحات وقسوة المشهد. وبغض النظر إن كان هذا الحضيض والخراب هو نتيجة لإفراز سياسي هجين، أم ديني طائفي بغيض، أم اجتماعي مهمش وفقير ومكبوت، أم ثقافي هزيل، أم أنه جاء من كل هذه العوامل مجتمعة ، فما نراه الآن لا يدلل إلا على مأزق أخلاقي عميق لن يؤدي إلا لإسقاط أحلام التطلع للحرية في حفرة واسعة من الإحباط واليأس والعبث .
فكيف يمكن تفسير تقطيع الرؤوس، هكذا، وسط تهليل همجي لا يشبه شيء سوى سقوط الإنسانية !!؟؟
من حرك كومة الخراب حتى غطت رائحتها النتنة مجرى دجلة والفرات؟!! من نبش حروف الوهم في تاريخنا حتى أخذت شكل المجزرة ؟! من أسقط النقاط عن الحروف كي يغمغم المعنى؟! من اختصر كل الألوان الى الاسود كي ينشر الليل في وجه الشمس؟!
يمكن الإجابة على كل هذه الأسئلة بالقول ببساطة إن ما يجري هو صنيعة المؤامرات العالمية، أو تكالب القوى ضد أحلام شعب نادى يوماً بالحرية،أو نظام توغل في الدم السوري حد المقصلة ، ولكن ماذا بشأن هؤلاء الشبان المنضوين تحت الرايات السود، والذين جاؤوا من أصقاع الأرض ومن بيئات مختلفة ، هم من لحم ودم وكثير منهم كان يعيش بيننا، فكيف استنجدوا بأظلم الزوايا في عقولهم وأرواحهم لكي يلغوا ويستأصلوا الآخر، كيف اعتنقوا "ديكتاتورية الصواب" فتشوه الدين في أرواحهم ، وظنوا أنفسهم "الفكرة الأصل"التي لا تقبل النقد وبداية الكون ومستقره، و"المعلم" الذي يريد لمسطرة الضرب أن تكون مقياس الطاعة والفهم، هل هم تجلي "الفساد" الذي أخذ ينخر بالمجتمع، هل هم أرباب طغيان النظام، الذين طفوا كزبد على السطح، في لحظة تاريخية فارقة من عمر الوطن؟! ربما ما نراه هو زيت من زمن الطغاة، أشعل الغريزة المتوحشة في دواخل هؤلاء الشباب، وأوغل في ظلامها، فأصبحوا حيتان يدلها الدم إلى الدم، فكبر الحقد في أرواحهم وتضخمت شهوة القتل والذبح لديهم فصارت الرؤوس المعلقة عنواناً لمرورهم. ربما هم التماهي بالمتسلط في لحظة استسهال الموت والفتنة.
ومهما كثر التحليل والحديث عن داعش ومثيلاته بكل إفرازاته وناسه وأتباعه، فهو الشك المولود بالآتي، ضياع البوصلة الأخلاقية، الارتداد إلى الدرك الأسفل من همجية البشرية، هو الفجوة السوداء في الروح الإنسانية، هو الجشع والكراهية، هو أسوء ما يمكن أن تبتلى به الشعوب، هو احتلال المكان ونفيه الى الماضي. بضعة من المارقين على أطراف التاريخ، كان يكفيهم أن يسموا فكرتهم "مقدسة " وزعيمهم "خليفة"، حتى يعتقدوا أنهم أصحاب المكان والحق في امتلاك الموت والحياة فيه، كي يغلقوا الأبواب على القادم ويحشروها في تعابير التاريخ المنقرضة "كالنصارى والجزية والنصيرية"، هل كان يكفي تعليق حرف "ن" نشازاً على بوابات أصحاب المكان حتى تتم سرقتها، هل كان يكفي أن يستعيروا تعابير "بدعة "و "حرام" حتى يتم تفجير المراقد، هل كان يكفي أن يقولوا "كفرة" حتى يتم تعليق الرؤوس كحبات لمسابح الجريمة والجشع، هل يمكن أن يتلطوا تحت "قداسة" الفكرة حتى يرتكبوا الفظائع؟! إنهم يستعيرون من الماضي أظلم نقاطه كي يشوهوا التاريخ في الذاكرة الجمعية ويقتلوا الحاضر. هم احتمالات مآلات الإنسان حين يستطيع أن يحمل في ذاته الإفراط في القدرة على أن يكون وحشاً.