في أمسية الـ 23 من أيار كنت جالسة وراء نافذة غرفتنا، أقرأ لجدتي و ابن خالي، حينما دخل واحد من السعاة مسرعا، و صاح، بالأحرى شهق قائلا:" آه يا آنسة بيللي، أعتقد أن الثوار قادمون، فاليانكي يسدون الطريق". و على الفور نهضت من الكرسي و ذهبت إلى الباب، و هناك تأكدت أن أنباء الخادم صحيحة. كانت الطرقات مغطاة بجحافل من الجنود اليانكي، و هم يهرعون بكل اتجاه و باضطراب لا مواربة فيه.
سألت ضابطا فدراليا، تصادف مروره من أمامي: ما الأمر. فرد يقول: المتحالفون يقتربون من البلدة بقوة كبيرة، تحت زعامة الجنرالين جاكسون و إيويل، و قد فاجأوا الحرس في الخارج و ألقوا القبض عليهم، و في الواقع تقدموا و لا يفصلهم عنا حاليا غير مسافة ميل، و لو شئت الحقيقة لم نكن مستعدين لهم.
و أضاف:" الآن. نحن بصدد تحصين مخازن السلع و الضروريات". سألته:" و لكن.. كيف نتصرف حيال المخازن ذات المستودعات الضخمة؟". " نحرقها بالطبع!". " افترض أن المتمردين وصلوا بسرعة فائقة؟".
" إذا يجب أن نقاتل بضراوة في المقدمة، و في حال الهزيمة يجب أن ننسحب بحكمة من وينشيستير، ثم نحرق الجسور بعد العبور مباشرة، ثم نلتقي بقوة الجنرال بانكس". غادرت برفقة الضابط الفدرالي، و قفلت عائدة للبيت، و بدأت أصعد السلالم بهدوء، و هناك سمعت فجأة صوت إطلاق نار من بارودة...أسرعت للشرفة، و بمعونة من نظاراتي، رأيت زحف حرس الفيدراليين من مسافة تقدر بثلاثة أرباع ميل، و كانوا يتقدمون بسرعة إلى البلدة.
و ما زاد من قلقي، أن والدي الذي هو في ذلك الوقت من طاقم الجنرال غارنيت، كان برفقتهم. و بدأ قلبي يتأرجح بين الأمل و الرعب بالتناوب. لم أكن جاهلة بالفخ الذي نصبه اليانكي لرفاقي. و كنت على دراية بمعلومات هامة، و التي لو تمكنت من نقلها للجنرال جاكسون، فالانتصار من نصيبنا بلا منازع. و سوى ذلك لدي كل الأسباب التي تدفعني للافتراض أننا سنخسر و ننسحب...
لم أتوقف لأفكر. مع أن قلبي كان يدق بسرعة لم يكن حانقا. وضعت قبعة بيضاء واقية من الشمس، و شرعت أجري على طول الشارع، الذي تسده جحافل الضباط الفدراليين و بعض الرجال. و سرعان ما تخطيت المدينة و وصلت للحقول المنبسطة، و عبرتها بسرعة لا تلين عزيمتها، آملة أن لا ألفت النظر لفترة معقولة حتى أتمكن من شق طريقي و بلوغ خطوط التحالف الذين يتقدمون بسرعة.
كنت أرتدي ثوبا أزرق داكنا ( 1 )، مع عباءة بيضاء أنيقة و صغيرة فوقه، و هذا التضاد اللوني، باعتبار أنه سهل الرؤية من مسافة بعيدة، جعلني عرضة للمخاطر لدرجة غير مقبولة.. ثم لمحني الحراس الفدراليون الذين كانوا يتراجعون بسرعة ، و كنت أجري بقدر ما أستطيع. فأطلقوا النار علي فورا. و راوغت باللحظة المناسبة.
و مع أنني لم أصب بأذى طارت رصاصات البارودة الكثيرة بسرعة من حولي، و أكثر من واحدة ضربت الأرض قرب موطء قدمي، و ثار الغبار حتى أعمى عيني. و ليس هذا و حسب: انتبه الفدراليون الذين في المستشفى، و و شاهدوا الاتجاه الذي انهمر عليه الرصاص من حراسهم، ففعلوا المثل و أطلقوا علي. و بهذه الحالة كانت نجاتي كما يبدو لي، معجزة بكل المقاييس. فعدا عن الرصاصات التي صفرت من قرب أذني، اخترق عدد لا بأس منها لمناطق متعددة من ثيابي.
و لكن أيا منها لم تصبني حقا. و فوق ذلك، تعرضت لتقاطع نيران من مدفعية الفدراليين و التحالف، الذين كانت قذائفهم و رصاصاتهم تئز من فوق رأسي.
و أخيرا ضربت قذيفة فدرالية الأرض على مبعدة عشرين ياردا من موطء قدمي. و طبعا طارت الشظايا من قوة الانفجار بكل اتجاه حولي، و على أية حال، توفر لي الوقت لألقي نفسي و أنبطح على الأرض قبل الانفجار المميت. و مجددا أنقذ ما حولي حياتي. و بعد زوال الخطر نهضت، و تابعت مهمتي، و ما زلت تحت إطلاق النيران بغزارة.
لن أجري في حياتي مرة ثانية كما فعلت في ذلك اليوم الذي لا ينسى. و قد تآزر الأمل، الخوف، حب الحياة، و التصميم على خدمة الوطن حتى آخر لحظة، ليملأ قلبي بما هو أكثر من شجاعة النساء. و ليدعمني بقوة فائضة و سرعة في حركة الأعضاء. و لا أزال أستغرب بل أرتجف كلما فكرت كيف ذرعت الحقول بخطواتي و كيف قفزت من فوق الأسوار برشاقة غزال. و مع الاقتراب من خطنا لوحت بقبعتي لجنودنا، و لأخبرهم أنه عليهم الاقتراب، فقد كانت توجد هناك قطعة عسكرية، و هي قطعة المشاة " الثورية" الأولى المسماة ماريلاند، و جسر هاي لويزيانا، و أسعدني ذلك، و من غير انتظار للأوامر، أسرعت إلى البلدة بقفزات سريعة. لم يعلموا آنذاك من أكون، و بالطبع استغربوا أيضا رؤية امرأة في ميدان المعركة، فالنار كانت على أشدها.
و رنت أصوات النصر و الغبطة في أذني لعدة أيام، و لا زلت أسمعها بشكل متقطع في أحلامي. و عند هذه النقطة كان المقدار الأكبر من قوات التحالف بعيدا عن بصري و لا يمكن رؤيته، بسبب مرتفع صغير حال بيني و بينهم. و توقف قلبي تقريبا عن الخفقان بين أضلاعي. و استيقظت في ذهني فكرة مرعبة مفادها أن قواتنا ضعيفة جدا و لا يمكنها أن توازي الفدراليين، و أن الرجال الشجعان الذين أفتخر بهم يجرون نحو موت عقيم و مجدب. و اتهمت نفسي أنني كنت أدلهم على طريق حتفهم.
و الآن، و أنا أشعر بضغط الإرهاق بسبب المشاعر التي عصفت بي، ركعت على ركبتي و تلوت صلاة قصيرة و صادقة من القلب للرب. ثم كما لو أن طاعتي و استسلامي لقيا القبول، دبت حالا في أوصالي روح مشرقة و حياة جديدة.
ليس اليأس و القنوط ما أكرمني بالفرار فحسب، و لكن الخوف أيضا. و لم يكن في رأسي فكرة غير أداء واجبي و الذي كنت قد بدأت به. نهضت من ركوعي، و تابعت لمسافة قصيرة، ثم لفرحتي التي لا يمكن لا التعبير عنها و لا وصفها، وقعت عيني على القطعة العسكرية و هي تقترب بسرعة.
و في الحال تسنم صهوة حصانه الرائد هاري دوغلاس، و هو صديق قديم و عنصر اتصال، فقد تعرف علي، و صاح، و هو يقبض على يدي:" يا للرب الرحيم يا بيللي، ها أنت هنا!. ماذا وراءك؟". قلت بعد شهقة عميقة: " آه يا هاري. امنحني بعض الوقت لأسترد أنفاسي". لعدة ثوان لم أتمكن من النطق بكلمة واحدة. و لكن ما أن تمالكت نفسي، قدمت له " الرسالة الصغيرة"، و أخبرته بكل شيء، و طلبت منه أن يلحق بالفرسان، و معه أوامر تطالبهم باحتلال الجسور قبل أن يجد الفدراليون الوقت لتفجيرها.
و فورا أسرع بحصانه و هو يطرق الأرض لينقل النبأ للجنرال جاكسون، و الذي بدوره انطلق بحصانه قدما، و سألني هل أريد حراسا و حصانا لأعود للقرية. فشكرته، و قلت له:" كلا، سأنصرف مثلما أتيت". و فيما بعد، و أنا أفكر بأهمية المعلومات التي نقلتها، حسم جيش التحالف الموقف و أحرز انتصارا مبينا...
هامش:
1- مزقت فيما بعد هذا الثوب إلى قميصين من أجل جريحين من جنود التحالف.
بيللي بويد Belle Boyd اسمها الحقيقي ماريا إيزابيلا. ولدت عام 1843 و توفيت 1900. و هي ممثلة أمريكية و عملت جاسوسة لقوات التحالف الجنوبي في الحرب الأهلية الأمريكية. معروفة بقوة الشخصية و الدهاء و المكر.
الترجمة من ( كتاب لا بد منه لكل جاسوس )، من إعداد و تحرير غراهام غرين و هيو غرين.