مدينة من الغرب اقصة : تميم أنصاري ترجمة
صالح الرزوق
خاص ألف
2020-08-22
لا أتذكر شيئا محددا من أيام السجن ، باستثناء منظر و ملمس المكان ، السقف المنخفض ، تلك الرائحة الرطبة ، و العيون نصف المغلقة للسجناء الآخرين الذين تحولوا بالتدريج إلى عميان بسبب الحياة المستمرة في أعماق الظلام. و أتذكر أيضا الصخب في الصالة غير المرتبة : خمسمائة رجل يتكلم في وقت واحد ، و صليل الملاعق المعدنية و هي ترتطم بالصحون ، و تلك الهمهمات و القرقعة التي ترتفع و تنخفض و لكنها لا تتوقف أبدا.
و في الزنزانة ، في أي وقت من النهار و الليل ، بوسعك أن تسمع أصوات خربشة على الجدران بملاعق مسروقة. أنت لا تستطيع حقا أن تثقب الأحجار الصلبة و المصمتة بملعقة من الألمنيوم ، و لكننا لم نتوقف عن خدشها. كان ذلك أشبه بطقس ديني ، طريقة للإيمان بالحياة الأخرى التي تبدأ بعد السجن.
و لم يكن الحراس مولعين بمصادرة أدوات الطعام ما لم تنفذ من المطبخ. إنهم يسيرون فقط فوق الأرض المعدنية المعلقة ، و هم يحتضنون أدواتهم التي تشبه أولادا أصيبت بالهزال.
لا شك أنني وضعت مائة خطة للفرار مع دستة من السجناء الآخرين ، و لا أتذكر أية خطة منها الآن. ذات أمسية ، كنت برفقة سجينين لا أعرفهما حينما فجأة فتح الباب المغلق ، و توقفنا نحن الثلاثة بنفس واحد. بعد ذلك ، كنا نتعثر عبر حقل متجمد و تحت قمر مشرق ، بينما الكلاب المفترسة تتجه نحو الطرف المعاكس ، و هي تتبع رائحة خاطئة إلى أن ابتعد صوت عوائها. و لفترة طويلة من الوقت ، واصلنا إلى الأمام بصعوبة ، و لم نكن نسمع غير أصوات صليل السلاسل المربوطة بأقدامنا و انهيار الثلج تحتها. و أتذكر أننا اقتحمت بيتا مهجورا و هناك رأينا الأدوات اللازمة في القبو، و بعد أن حطمنا القيود أطلقنا آهة ارتياح.
سرقنا بعض الثياب ، و ذهبنا إلى مكان النقود المدفونة ، و لم نتهاون في المسير ، و فقدنا الإحساس بالاتجاه و مع ذلك تابعنا. كان النهار يتحول إلى ليل ، و المدن تتشابه في الطريق. و في الغابات كنت أسمع صوت الرعد الأجوف الذي لا يتوقف حينما تكون في حركة مستمرة ، و صوت قلبك يدق باستمرار. و في الليلة التي وصلنا فيها إلى هذه المدينة ، لم يرغب جو أن يتوقف و لو من أجل كأس بيرة ، و لكن كنا جميعا في نفس الأزمة و لذلك لم يجد مفرا من المشاركة.
في داخل الحانة ، كانت الموسيقا تنسكب من صندوق فضي . و حفنة من رعاة البقر يجلسون حول منضدة عريضة ، يشربون و يضحكون. كنا حريصين أن لا نجلس في زاوية معزولة حتى لا نلفت الانتباه.
و عوضا عن ذلك قمنا بتزرير ستراتنا و جلسنا قرب رعاة البقر ، لنثبت لهم أن لا شيء لدينا يدعو للريبة . كانت الغرفة تفوح برائحة البيرة و دخان السجائر. و كان صندوق الموسيقا يعزف : " قلبك الغدار ..".
و اقتربت سيدة بدينة بثوب أصفر من النايلون. و كان الضوء الأصفر المعلق بالسقف يلقي ظلا قاتما على وجنتيها. قالت : " ماذا تريدون أيها الفتيان ؟".
" قدمي لهم مشروبا على حساب المحل يا تيلي ". صاح بها أحد الشباب الثملين ، و أعقب رفاقه بصوت واحد " أجل ".
وضعت المرأة قارورة على منضدتنا ، و ألقى أحد رعاة البقر ذراعه حول عنق جو الصغير. و ابتسم عن أسنان صفراء من التبغ و هو يقول : " لن يغادر احد هذا المكان تعيسا ، هلى تفهمونني أيها الأصدقاء ؟".
و شرع جو بالرد يقول : " من فضلك..." ، و لكن منحه هاري نظرة وقحة. لم يكن بوسعنا أن نرفض صداقة أحد. سوف يكون ذلك مدعاة للشبهات. و هكذا دفعت جو في مقعده قائلا : " اشرب ، يا جو ، الرجل يقدم لك واجب الضيافة".
ضحك جو و أفرغ الكوب كله في بلعومه بينما رعاة البقر يصيحون بصوت واحد " هيا اشرب ، هيا اشرب " ، و كانوا يدقون بقبضاتهم على المنضدة. و عندما حاولنا أن ننسحب و نغادر قالوا بصوت مرتفع " ماذا أيها الساقي : هل ستسمح لهؤلاء الفتيان بالانصراف ؟ أغلق الباب بالقفل". كان الشراب قد جعل منهم أصدقاء وديعين و كأنهم جراء بأحجام ضخمة. و آخر ما أتذكر من حيثيات تلك اللليلة الرقص على منضدة مع كوب شراب بكل يد ، و أنا أغني " حامل السلاح سوف يلهو الليلة في الغابة ". و لكن في أعماقي كنت أشعر بكلاب الحراسة المفترسة و هي تقترب.
في الصباح اللاحق قدموا لنا الطعام و الضيافة. اللعنة كم أحبونا. و سرعان ما حجزوا لنا غرفا في الفندق. و عندما قدم لنا سكان المدينة دعوة على الغداء ، كان هاري على وشك أن يرفض و لكن أعاده جو إلى وعيه و قال : " كيف سيبدو ذلك مستهجنا ؟".
و قضم هاري لسانه و هو يقول : " لا شك أنهم يعلمون من نحن. إنهم يتلاعبون بنا".
قال جو : " الانسحاب الآن سيكون أسوأ"..
و قلت بدوري : " لو أنهم يعلمون من الأفضل أن لا نترك لديهم الانطباع أننا نعلم".
و هكذا تجاوزنا الموضوع مقابل أن نستمر. كنا نرافقهم إلى ساحة كل ليلة جمعة. و بدأ هاري يحب الرقص. و لم نكن نعلم أنه يستمتع بهذه الموهبة. و قدمت عائلة براون لهاري دعوة على غداء عيد الشكر. ثم تلقينا جميعا دعوة مماثلة من عائلة سميث من أجل طعام منتصف اليوم ، و تواصل ذلك بمقدار مرة في الأسبوع. ماذا بوسعنا أن نقول عن ذلك ؟. قال جو إنه درس ذات مرة في مدرسة دينية ، و قبل أن ننتبه لذلك ، طلبوا منه أن يقوم بالتدريس في مدرسة يوم الأحد.
و قال جو ذات ليلة بصوت هامس : " اللعنة ، هذا خطأ. يجب أن ننسحب".
قال هاري : " لا نستطيع. سيبدو ذلك عرضة للشبهات".
و كان هو أول تدبر الأموال لشراء بيت . و ساعدتنا لورا على الانتقال إليه. و كانت هي ابنة تيللي : عصفورة شقراء ، بتنورة خفيفة و ساقين طويلتين من الممكن أن تلمسا القبو لو لم تكن توجد أرض. أحيانا كانت تحضر لنا فطائر إلى الحقل ، و بالطبع كلما نضج المحصول كانت عائلتها تدعونا إلى غداء عيد الشكر.
لم أقترب من تلك الوجبة و كنت أشعر كأنني مصنوع من العجين. كان يتحدث خمسة و عشرون شخصا بنفس واحد و هم حول المنضدة ، و قد اندمجوا بهمسات ليس لها شكل و تقاطعها باستمرارأصوات صليل الملاعق و هي تطرق أواني الخزف. كنت بالكاد أصغي لذلك الصخب الأجوف ، و هو يدق في داخل صدري ، و لكنه كان موجودا على أية حال. ذلك الصوت. و حينما فتحت عيني و رأيت تيللي و هي ترمقني تحرك قلبي. فصرفت نظراتها على الفور. و في تلك اللحظة أدركت أنها تعلم.
و قالت لي : " هيا كل طعامك يا ويلي . لم تأكل حتى ثلثه". و ضحك الجميع ، و لكنها لم تلق بالا لأحد. و بعد تلك الضحكات المجلجلة ساد الصمت. و لم يفعل أحد شيئا غير إمعان النظر.
قلت لهم : " عذرا. أعتقد أنني شبعت". و سحبت الكرسي و غادرت إلى البيت.
و بعد دقيقتين جاء الآخران. قلت لهما : " تيللي لديها علم ".
و رغبت لو يخبرني أحد أنني أتصور أشياء غير موجودة ، و لكن هاري أضاف مؤكدا : " شعرت بذلك أيضا".
و انتابتني وعكة أخرى و قلت : ": ماذا علينا أن نفعل ؟".
قال هاري : " لنهرب ".
قال جو : " حسنا. هذا هو الوقت أيها السادة".
" و لكن هذا البيت ملك لك يا هاري. و أنا لدي لورا. كيف بوسعنا أن نغادر".
قال هاري : " الخيار الآن بين السجن و شيء آخر. و سأختار أهون الشرين".
و قبل أن ندخل في جدال عقيم ، قرع الباب شخص ما.
كانت تيللي براون تقف على العتبة ، و قالت بصوت خشن : " حسنا ، هؤلاء أنتم". و في نهاية عبارتها سمعت نبرة محتقنة تدل على النميمة . فقد أضافت : " لا تحسبوا أنه بمقدوركم الهرب. أليس كذلك. ".
و شحب وجه جو.
و غمزت تيللي بعينها تقول : " لدي خبر أو إثنان أيها الفتيان. هل فهمتم ماذا أقصد. كنت أراقبكم. عيوني واسعة جدا". و عندما لم ينبس أحد منا بكلمة واحدة ، قالت : " أنت محبب لابنتي يا ويلي. هل تعتقد أنها جاهزة لرجل على شاكلتك. حسنا. هل لديك ما تقوله؟". و مدت يدها إلى سماعة الهاتف. و عقد الرعب لساني. انتظرنا لفترة طويلة ، ثم شرعت تطلب رقما. و هنا ضربها جو بسيخ من الموقد، و غرس الخطاف المعدني في جمجمتها، و خرج طرفه من جبينها. و شعرت بنفس الرعشة التي تشعر بها الآن. بصفتي كنت في السجن لا يعني أنني لست بشرا عاديا. و في أعماقي ، بعد تلك الصدمة ، شعرت بالراحة.
على الأقل لم يتبق لدينا شك. و استقر رأينا على الخطوة التالية. أسرعت إلى غرفة النوم و حملت ما بوسعي من ثياب لنا نحن الثلاثة في حقيبة كبيرة. و ما أن فتحت الباب الأمامي ، حتى دق الجرس و شاهدت نفسي وجها لوجه مع رجل البريد. و قد قال لي : " معي طرد للسيدة تيللي براون".
قلت : " و لكنها لا تقطن هنا".
ضحك يقول : " أعلم. و لكن رأيتها من قليل و هي تدخل هنا و لم تغادر بعد".
" سأقدم لها الطرد بنفسي ".
" آسف يا بني. هذا طرد مسجل. يجب أن أسلمه لها باليد".
" حسنا إنها في الحمام الآن ، انظر ...".
و من خلفي في نفس اللحظة صاح هاري بكل صوته : " هي في البيت الآن ، إنها في البيت ".
قال ساعي البريد : " حسنا من منكتا على صواب. هل هي في الحمام أم في البيت ؟. أخبراني ، من الأفضل لو أدخل لأتحرى الأمر ".
و شرع ساعي البريد بالاقتراب من داخل المنزل. كنت نسيت أمر المسدس ، و لكنه فجأة قفز إلى يدي. و من مسافة قريبة فجرت الرجل عمليا. أقسم بالله لم أقصد ذلك. أقسم بالله شعرت بأعراض المرض حينما سال دمه فوق العتبة.
في اللحظة التالية وقفت هناك و المسدس الحار بيدي و رفيقي يمسك بذراعي.
قال جو بصوت مخنوق : " و الآن ، كلانا تمادى و اقترف ذلك. سنشكل عما قريب نادي الجريمة ".
قال هاري : " و أنا على وشك ان أنضم لكما". و هنا خرج أحد الجيران من بيته ، و لا شك أنه شاهد كل شيء ، فقد وقف هناك متجمدا من الرعب و الندم. و تمنى لو أنه لم يغادر بيته ، و استدار لينصرف ، و لكن كان الأوان قد فات.
قال هاري و هو ينفخ الدخان الذي يتصاعد من مسدسه : " هذا كفيل بوضع لمسة الختام. لنواصل الحفلة. لو حالفنا الحظ ، لن يكتشف أحد الجثث قبل أن نبتعد بحوالي خمسين ميلا ".
و اسمحوا لي بالتوضيح التالي. كل منا اشترك في جزء من الجريمة ، و لكن موقف هاري كان الأسوأ بيننا. و لذلك أطلقت عليه النار فهو القرار المبرر الوحيد. و لم يتوقع احد أن أفعل هذا. أطلقت عليه في قلبه ، و مات فورا من غير آهة واحدة. كم إنه موت محبذ.
قلت بسرعة : " اتصل بالشرطة. سنقول إن هاري أصابه الجنون ، و قتلهم جميعا. و كان فعلا طيبا أننا أوقفناه قبل أن يقتل شخصا بريئا آخر. أليس كذلك يا جو ؟. أنت إلى جانبي بذلك ، أليس هذا صحيح؟ هيا يا جو ؟".
ضحك جو باكتئاب و قال : " كنت أود لو أعيش فقط ". بلا مشاكل ".
" فعلا. هذا يكفل لنا أن نكون معا و أحياء . أنت معي أليس كذلك؟".
حسنا ، لم تكن لديه فرصة ليختار. كنا فريقا ، هو و أنا ، و هذا من فترة طويلة أيضا.
بعد ذلك ، تزوجت من لورا خلال عام واحد. و أحبتني لأنني انتقمت لها من قاتل أمها. و اقترن جو بغيرها ، و استقر معها في الطرف الآخر من المدينة. و لم نكن نلتقي إلا فيما ندر. و هكذا نجحت الخطة. و ما زلت أسمع أصوات الكلاب المسعورة المفترسة ، و هي تتقدم في الغابة و المستنقع ، و لكن هذا كان شيئا لم يسنح لغيري. و كنت أصلي في الكنيسة ، و أفتتح حلبة الرقص كل ليلة جمعة. و كم تمنيت لو تفهم لورا أسبابي. كل ما فعلت بعد ذلك كان طيبا. كنت أختار أهون الشرور ، و حسب الظروف. هل أمامنا فرصة لنخلق الظروف المثالية.
لا تفهموني خطأ ، فقد قبلت زوجتي القصة العلنية التي أخبرنا بها الشرطة ، و هذا لم يكن كافيا. ليس من العدل أن تحبني و أن لا تلقي باللوم علي. كنت أود لو تغفر لي ، و لكن كيف تغفر لي ما لم أخبرها أنني الفاعل ؟. في كل مرة نجلس على طعام الإفطار ، كنت بالكاد أسمع ماذا تقول بسبب صوت دقات قلبي المرتفعة. و أحيانا كنت أعتقد أننا جميعا متكاتفون بهذا الخصوص ، و لكن حينما تقع عيني عليها ، أشعر كم أنا مخطئ. على أية حال كنا جميعا في نفس الظروف ، و كنا نعاني منها كل فينا بطريقته الخاصة.
تميم أنصاري :
كاتب أمريكي من أصول أفغانية. له عدة مؤلفات من أهمها : غرب كابول و شرق نيويورك ، القدر المقطوع – تاريخ العالم تحت أنظار إسلامية ، و سوى ذلك....
المصدر :
Town of Strangers by Tamim Ansary ، identity theory fiction ، April 5, 2010.