الفتنة – فقرة من قصة طويلة
صالح الرزوق
خاص ألف
2013-08-06
و في الليل جاء ابن يعيش، و هو ابن أخت غير معروف لطيفور بن عيسى بن شروسان الملقب باسم أبي يزيد البسطامي. و لدى وصوله إلى أول جادة عريضة التقى بشبح واحد من العسس ، فاقترب ثم ألقى التحية و سأله: هل تعرف أين يسكن أبو يزيد البسطامي؟..
لم يكن أبو يزيد بحاجة لتعريف، فهو زعيم أخوية قديمة. و إذا خرج إلى الطريق لا بد إلا و أن يسير وراءه شاب معمم يرفع بيده راية خضراء تخفق في الريح، إنها علامة تدل على الأخوية.
ألقى عليه الحارس نظرة متفحصة، ثم رد بصوت متمهل و متقطع و من غير تفاصيل: اتبعني......
لم تكن أصوات أو أشكال الليل يومذاك مرتفعة. و حين وصل كلاهما إلى ميدان كبير، بشكل ساحة مؤتمرات، رأى ابن يعيش أعمدة قصيرة تحمل عددا من الفوانيس، معظمها حديد بارد، لم يكن فيها نور، و فيما بينها أشباح البصاصين بأرديتهم التي ترفرف مع نسمات الهواء المنعش.
و حين انعطف دليله الصامت يسارا باتجاه شارع طويل و ضيق، يشبه السرداب، لم يملك ابن يعيش إلا أن يميل بالاتجاه نفسه. و أحس كأن الرجل يقوده إلى مصيبة. و سمع خطوات آدمية وراءهما.
و علم أن البصاصين في إثرهما الآن. كان الوضع مريبا كما تناهى لمسمعه. هنا لا يسير رجل وحده في الطرقات. دائما وراءه من يقص أثره. فتساءل بسره: ترى هل البلدة تقترب من انقسام آخر بين البصاصين و رجال العسس؟.
و لكن حتى قبل أن ينتهي من هذه الفكرة سمع صوت دليله يقول محذرا: انتبه. أمامنا صخور و حفر كثيرة.
***
في زاوية الطريق لاحظ وجود عسس آخرين مدججين بالأسلحة حتى شحمات آذانهم. ألقى الدليل عليهم السلام. و ردت الجماعة باحترام. و كانت أيديهم على قبضات سيوفهم.
و بعد ذلك شرع الرجل بحديث هامس، و سأل ابن يعيش عن دابته. أين هي و لماذا يرتجل هذا الدرب الخطير في الليل. ثم استفسر عن سيفه. لماذا لا يحمله تحت ردائه، فالمكان محفوف بالمخاطر.
رد ابن يعيش إن الإنسان ضعيف أمام العناية الإلهية و لو أنه مسلح. ثم إنه بحماية سلطان العارفين أبي يزيد. هز الدليل رأسه بتفهم. و انتقل لحديث مطول عن قانون جديد يمنع وضع الأجراس في أعناق الدواب. ثم سأله: هل تعلم لماذا؟. و أجاب على نفسه مباشرة: كي لا تهرب الملائكة من البلدة.
و كانت هذه الإجراءات غريبة على مسامع ابن يعيش فاستفسر بقوله: و هل تكره الملائكة الأجراس؟.
فقال الرجل بصوت غاضب: لست من وضع التعليمات. إذا رأيت الشيخ اسأله..
فقال ابن يعيش بسره: غالبا هي إحدى فتاوى البسطامي. مع أنه حسب علمه كان بعيدا عن شؤون الدنيا، و لا يهتم إلا بالروحانيات و ضرورات العبادة، كمشكلة طواف الكسيح حول الكعبة.
ثم انتبه أن أصوات خطوات البصاصين قد خمدت. لا شك أنهم تفرقوا أو عادوا إلى ثكناتهم.
و لكن لم ينتظر طويلا ليجد التفسير المناسب. بعد عدة فراسخ سمع مرافقه يقول : ها قد وصلنا إلى حرف الهاء.
كان يعلم أنها علامة على حدود مملكة البصاصين، حيث ترتفع نسبة المجازفة، إنهم يخافون بشكل خاص من الجيم و الهاء. الأولى لأنها من خصائص الجن، و الأخرى لأنها إشارة من الجندية.
من مجموعة قصص قيد الطباعة بعنوان ( في الوقت الضائع )