"النغم مفتاح القلب" وقفة لالتقاط الأنفاس
خاص ألف
2013-08-14
ثمة حكمةٌ صينيةٌ عن أهمية الموسيقى تقول "إذا وصل الخراب إلى موسيقى شعب ما, فاعلم إن الكارثة قد حلّتْ به منذ زمن بعيد". ولأن النغم مفتاح القلب على حد تعبير فاغنر, فإنه يستحق منّا وقفة لالتقاط الأنفاس وسط ضجيج العنف والأصوات النشاز وصخب الحياة التي تحولتْ إلى صراعٍ ضارٍ من أجل فرض الإرادة بالقوة, صراع بلا قلب لا يوجد في قاموسه كلمة رحمة أو نغمة. وأن نعيش في الراهن الدامي وحديث الثورات والاضطرابات والثورات المضادة وأخبار الموت واليأس, لا يعني أبداً الاستسلام بكل قوانا الذهنية لكل ماهو كئيب ومأساوي. بل هناك تساؤل مشروع حول جدوى الثورات والتغييرات إن لم تأخذنا للأفضل وأن تفتح أمامنا آفاقاً أرحب وأن تمنحنا فرصة السير نحو الأجمل والأرقى والأسمى. وهل هناك أجمل وأرقى وأسمى من الموسيقى. "أن التطلع إلى الموسيقى إنما ينشأ مثله مثل الحساسية الشعرية الغامضة, من موطن في السريرة يفلت من رقابة الزمن ورقابة الوعي" كما يقول فوزي كريم "1". كما أن الموسيقى إشراقات تتكشف للروح بلا كلمات. إشراقات ترتفع بنا إلى عوالم سامية, تشدّنا نحو كائنات ترفرف بأجنحة من نور وفراشات للروح بألوان ساحرة. والموسيقى سيدة آلهات الإلهام كما يقول اليونانيون. فلم ينجح شيء في عصرنا الحديث في التعريف بمزاج الإنسان الأفريقي وطبعه -على سبيل المثال- مثلما نجحت موسيقاه حينما تسربت إلى الموسيقى الغربية المعاصرة وألفها العالم كله. وهكذا عجزت أرفع الوسائل الاجتماعية والأساليب الفكرية عن التعريف بما نجحت في تحقيقه مجموعة من الأنغام والألحان الأفريقية. نقف هنا مع كتاب عن الموسيقى يحمل عنوان: "الجميل" في فن النغم, لأدوارد هانسليك (1825- 1904), وهو عالم موسيقي نمساوي, الكتاب من ترجمة الدكتور غزوان الزّركلي. و قد صدر عن منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب. يشير المترجم (وهو عازف بيانو وأستاذ دكتور في الموسيقى) في المقدمة التي كتبها إلى أن هذا الكتاب الذي صدر في عام 1854 مازال يشكل حجر الأساس في علم الجمال الموسيقي الحديث. وقد كان اسم المؤلف مقروناً باسم المؤلف العبقري "ريتشارد فاغنر" فقد كان هانسليك "ناقداً لاذعاً لفاغنر الذي أراد أن يُبدع موسيقى درامية ذات أبعاد ملحمية معتمدة على الخيال الجامح وعلى الكلمة الشعرية الألمانية, وهَدف إلى خلق بناء درامي جديد, يقوم على جذور أوروبية جرمانية. أما من وجهة نظر هانسليك فكان على الموسيقى الكلاسيكية الألمانية أن تنحو منحى يستند إلى التراث الكلاسيكي, وتنهل من معين الموسيقى الشعبية الألمانية". وكانت ثمة نظريات مازال صداها يتردد حتى الآن حاولتْ إعطاء صورة رومانسية عن الفنان الموسيقي وهي تتحدث باسراف عن "المزاجية والإلهام والوحي", معاكسة للتأكيد الذي يقول بأن فن الموسيقى هو علم له قوانينه الخاصة به, كما أنه صنعة لها أصولها وقواعدها. فاستعمال تعبير "فن الموسيقى" ليس فقط كترجمة لكلمة Tonkunst الألمانية, (حرفياً: فن النغم), وإنما اشارة إلى الموسيقى كصنعة وكمنتج فني في مقابل الاستعمال العام لكلمة "موسيقى"[ كما يشير المترجم في هامش مقدمته]. كتاب هانسليك هذا "ذو أهمية خاصة, إذ أنه أعطى أسساً نظرية متينة, لم تتقوّض ولم تهتزّ خلال القرن والنصف الماضيين, تدافع عن الموسيقى الآلية التي لا تدخل في بنائها الكلمة الأدبية. فعندما تدخل الكلمة يصبح "تأويل" الموسيقى أسهل على التناول, وتصبح الموسيقى تجريداً". بعد المقدمة يأ خذ المترجم بيد القاريء نحو مدخل يسهّل من خلاله الولوج إلى أجواء الكتاب الاختصاصية, وذلك بإيضاح الصعوبات التي قد تعترضنا أثناء القراءة ويحددها عبر مجموعة من النقاط تسلط الضوء على اللغة الفلسفية التي يستعملها الكاتب المهتم بالتفاصيل والاسترسال والاستشهادات الكثيرة, كما يؤكد على دقة المصطلحات وتعددها ويستخدم كلمات من ثقافات أوروبية مختلفة (فرنسية, انجليزية, إيطالية, لاتينية إضافة إلى الألمانية). يبحث المؤلف في نقاط عديدة مثيرة لاهتمام أي دارس أو متذوق لفن الموسيقى وهي النقاط التي تبحث الفرق بين الموسيقى الآلية والموسيقى الغنائية, والعلاقة بين الموسيقى والرياضيات, وعلاقة الشكل والمضمون الموسيقيَين بالتحليل الموسيقي, والفرق بين المؤلف والمؤدي والمستمع, والتذوق الذهني للموسيقى والفكر, والاستطباب عن طريق الموسيقى, وفيزيولوجية الشعور الموسيقي, والموسيقى كعلم وكفن. كما أن الكتاب يوضّح مفاهيم موسيقية كثيرة مثل: "الخيال", و"الفكرة", و"الحركة", و"الصنعة", و"المحتوى", و"الموضوع" و"المادة" و"المادة الخام".
تسير بنا فصول الكتاب السبعة الهوينى عبر العناوين التالية: جمالية الأحاسيس, مضمون فن الموسيقى لا يكمن في تصوير الأحاسيس, "الجميل" في فن الموسيقى, تحليل رد الفعل الذاتي عن الاستماع, التذوق الجمالي للموسيقى مقارنة بالتذوق الحسي- الجسدي لها. علاقة فن النغم بالطبيعة, وأخيراً مفهموما "الشكل" و"المضمون" في فن الموسيقى. الكتاب دقيق في تحليله, لكن دقته لم تلغي سلاسته, وتركيزه على اللغة الفلسفية في مناقشته للعديد من القضايا التي طرحها موسيقيون ونقاد وفلاسفة, لم يُفسد على القاريء المهتم بالشأن الموسيقي متعة متابعة الجدل القائم حول العديد من المسلّمات التي كرّستها وجهات نظر يثبت هانسيلك بطلانها. يعطي هانسليك الأهمية المتوازنة لكل من "سكّر الإبداع وعقل الصناعة". ويقف ليشير إلى النتائج بالغة السوء لاستحواذ العاطفة (العمياء) على المؤلف الموسيقي, إذا وضعناها شرطاً لعملية الخلق ونظرنا إليها باعتبارها ارتجال مسبق وحماسي. ما قدمته هنا هو مجرد قراءة انطباعية لكتاب وليس عرضاً شاملاً لما جاء في ثناياه, تاركاً للقاريْ المهتم متعة الاكتشاف.
نختم بما كتبه غوته في رسالة لصديقه الموسيقي الألماني تسلتر بعد أن وقع الأول في تجربة حب جديدة. قال غوته ما نصّه "أريدك أن تشفيني من حساسيتي (الموسيقية) المَرَضية التي سببها بلا شك الظاهرة نفسها (ظاهرة الحب).
(1) "صحبة الآلهة" حياة موسيقية. فوزي كريم. دار المدى.
08-أيار-2021
21-تشرين الثاني-2013 | |
16-تشرين الثاني-2013 | |
05-تشرين الثاني-2013 | |
26-تشرين الأول-2013 | |
15-تشرين الأول-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |