الحقائق ثوابت أم متغيرات؟
خاص ألف
2013-11-16
ثمة تعريف فلسفي للحقيقة يضعها بين قوسي الفكر والواقع, بتعبير آخر الحقيقة هي التطابق بين ما يحمله الفكر على ما في الواقع, من هنا يظن كل من تطابق عنده محموله الفكري على واقع معين بأنه امتلك الحقيقة المطلقة دون الوقوف أمام احتمالات التغيير والتحول في الواقع الذي أمامه ودون الاعتراف بامكانية تبدل محموله الفكري. من هنا يأتي التزمت ومن هنا يأتي الانغلاق والتحجر ويُبنى سياج الاستبداد الذي يخنق أي محاولة للتغيير ويقتل أي فرصة للحرية. ومن هنا يأتي الرفض للآخر, الرفض لكل من لا يحمل بين جوانحه ما يعتقده القطيع وما تؤمن به الأكثرية, مع العلم إن المجددين على كل مستويات الحياة لم يصبحوا مجددين دون أن يخرجوا على الاعتقاد الجازم للأكثرية, نقصد بالمجددين كل من ساهم بدفع عجلة الحياة الانسانية إلى الأمام نحو التقدم والازدهار من أنبياء ومصلحين ومفكرين وعلماء وكل من اشتغل بالفكر وعمل من خلال المعرفة. فمن يحاول إعادة البصر إلى فاقديه عبر ابتكار خلية بصرية يستطيع بها الكفيف النظر ولو على شكل نقطي في المرحلة الأولى وهي قابلة للتطوير, كما طالعتنا آخر المنجزات العلمية, من يحاول ذلك لم يقف أمام حقيقة نسبية تقول باستحالة أن يُبصر الأعمى, بل سعى مخلصا من أجل زرع الأمل بخلق حقيقة جديدة عنوانها: طريق العلم والمعرفة ليس له نهاية. نستعيد هنا مقطعا لنجيب محفوظ يصف الحياة بإنها "حكاية قرد خرج من جنة القرود فنودي عليه فلم يرجع, كان يمشي على أربعة فاستند على شجرة وانتصب على قائمتيه, حمل غصناً بيد وحجراً بيد ومشى في طريق ليس له نهاية ".
في الماركسية نجد أن الحركة هي الحقيقة المطلقة وكل مادونها نسبي, أي أن التغيير المستمر الذي تشكله الحركة هو مايرسم معالم الحقيقة, وبالتالي فكل مايتشكل حولنا نسبي. من هنا يأتي مفهوم التسامح في فهم ما تعنيه "الحقيقة", التسامح الذي يدعو إليه كل من يتصدى لقضية فكرية أو اجتماعية أو دينية, والذي يصطدم بعقبات مؤكدة يفرضها الاختلاف في زاوية النظر إلى أي قضية. لكن يبرز هنا سؤال في غاية الأهمية وهو: كيف تنتشر بذور التزمت وهناك فسحة كبيرة لالتقاء الحقائق النسبية؟ في حوار مع العلامة اللبناني السيد محمد حسن الأمين يجيب على سؤال طُرح عليه عن الحرية يقول: "أنا مع الحرية المطلقة عندها يسأله الاعلامي مستغرباً – بما فيها الحرية الجنسية فيقول نعم أنا مع الحرية المطلقة لأننا بالحرية نستطيع معالجة مشاكل الحرية أما الاستبداد فهو سياج يصنعه من يعرف في قرارة نفسه أنه لا يمتلك شيء من الحق أو الحقيقة وكلما ارتفع هذا السياج أثبت بما لايقبل مجالا للشك أنه ليس على صواب". بمعنى أن منْ يبني الأسيجة الدفاعية العالية لا يخفي غير الخواء وما يظن أنه الحقيقة المطلقة. يقول الماهاتما غاندي: "لست سوى باحث عن الحقيقة. وأدعي أني وجدت طريقاً إليها. وأدعي أني ثابرت كي أجدها. لكني أقرّ بأني لم أجدها حتى الآن. فلكي نجد الحقيقة بشكل كامل يجب أن نحقق ذواتنا ونحقق مصيرنا بمعنى أن نصبح كاملين وأنا واعٍ –بألم- نواقصي, لكن قوتي كلها تكمن في هذا الوعي لأنه من النادر أن يعي الإنسان محدوديته". يحدد غاندي هنا –وياللغرابة- بأن قوته تكمن في إدراك ووعي نواقصه, بالتالي فمن المؤكد أن من لا يضع حيزاً للاعتراف بأن لديه نواقص لابد له أن يقع في مطب ادعاء الحقيقة المطلقة وبالتالي لايمكن له إلا أن يتحول إلى مستبد حتى لو أدعى إنه الوكيل الحصري لنشر الحرية والدفاع عنها. أما كلمة "الحقيقة ذاتها فهي تخفي بالضبط ماتتكلم عنه وتشير إليه ذلك أن ما ماتضمره هذه الكلمة وتسكت عنه, فيما هي تعلنه وتنطق به, هو أن الحقيقة متعالية مطلقة نهائية ثابتة أحادية.. وفي ذلك تأليه للحقيقة وفي التأليه حجب وتغييب. وهذا شأن الكلمات عموما: فهي إذ ترمز إلى الأشياء وتخلع عليها أسماءها, تخلع عليها في الوقت نفسه صفات الألوهة والتعالي. فنحن عندما نطلق على شيء من الأشياء إسمه كاطلاق "الطاولة" على مسماها إنما نحيل الكائن أو الحدث أو الواقعة أو المفرد إلى ماهية متعالية لا تفعل سوى أن تطمس حقيقة الشيء...ومن هنا ليس نقد الحقيقة نفياً لها بقدر ما هو تعرية آليات وكشف أقنعة. إنه تفكيك متعاليات تفعل فعلها في طمس الكائن والحدث فليست الحقيقة شيئا يتعالى على شروطه او يكتفي بذاته. حقيقة الحب لدى الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي هي دينه "دين الحب ديني وإيماني", بتعبير آخر دين الله لدى الشيخ: حب, منه ينطلق إلى الايمان بالله. الله تلك "الكلمة التي شكلت مادة لتأويلات متعارضة تتراوح بين التنزيه والتجسيد او بين الإيمان والحجود. وتحت خانتها الدلالية تندرج فرق وديانات كفّرت بعضها البعض من منطلق الادعاء بامتلاك مفاتيح الحقيقة وحراسة العقيدة, وحاربت الواحدة الأخرى في صراعاتها من اجل تمثيل السلطة الإلهية واحتكار المشروعية الدينية. ولا مبالغة في القول إنه باسم الله الواحد الاحد جرت حروب ووقعت فتن أريقت فيها أنهار من الدماء. وكل ذلك يشهد في النهاية على ما تنطوي عليه ثنائية الإيمان والإنكار, أو الانتماء والارتداد, من الخداع والتضليل. إنه العماء الايديولوجي الذي يمارسه من يقولون بوحدانية المعنى وتعالي الحقيقة, فيما هم لا يعملون, في مقالاتهم ومساعيهم, إلا على انتهاك الكلمات والخروج على الدلالات, جرحاً وتعديلاً, أو ابتداعاً وتأويلاً ".( علي حرب: نقد الحقيقة).
فبينما يضيّق التكفير على التفكير الدائرة يوما بعد يوم بادعاء امتلاك الحقيقة حتى لنحسب هواجسه وقد تملّكت النفوس وأدخلت رقيبها بسيفه في تلافيف بعض الأدمغة التي أصابها الشلل المؤقت في التفكير من فرط الخوف من الإلغاء المعنوي أو الجسدي, نجد التكفير وقد أصبح وكأنه هو الحقيقة أو هو "نهاية التاريخ" بالنسبة للحضارة العربية والإسلامية. والحضارة كالكائن الحي لها ماله وعليها ماعليه من قوانين الميلاد والنمو والإنحلال والفناء, فلكل حضارة طفولتها وشبابها ونضجها وشيخوختها. يقول إشبنجلر: " تنشأ الحضارة في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة. وتستقل بذاتها عن الحالة النفسية البدائية التي توجد فيها الطفولة الإنسانية. وهي تولد في بقعة من الأرض محددة تمام التحديد, ترتبط بها إرتباط النبتة بالتربة. والحضارة تموت حينما تحقق هذه الروح كل مابها من ممكنات على صورة شعوب, ولغات ومذاهب دينية, وفن, ودول سياسية, وعلوم, فترجع إلى الحالة الأولى البدائية". فهل وصلنا إلى مرحلة حققت بها روح الحضارة العربية الاسلامية كل مابها من ممكنات بادعائها ملكية الحقيقة المطلقة؟
08-أيار-2021
21-تشرين الثاني-2013 | |
16-تشرين الثاني-2013 | |
05-تشرين الثاني-2013 | |
26-تشرين الأول-2013 | |
15-تشرين الأول-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |