مشينا شوطا طويلا - مذكرات مقاتل صغير / إسماعيل بيه ترجمة:
صالح الرزوق
خاص ألف
2013-08-17
أن تكون في مجموعة من ستة صغار ليست ميزة. و لكن كنا بحاجة لأن لا نفترق لأن فرصتنا بالهرب من المشاكل اليومية التي تواجهنا تكون أكبر. كان الرعب يصيب الناس من أولاد بعمرنا. بعضهم سمع إشاعات عن صبيان صغار أجبرهم المتمردون على قتل أفراد عائلاتهم و حرق قراهم. هؤلاء الصبيان يتجولون بدوريات مسلحة و هم بثياب خاصة، و هم مستعدون لقتل المدنيين و التنكيل بهم. و هناك من هم ضحايا للرعب و لديهم ندبات جروح حديثة ظاهرة للعيان. و لذلك كلما رآنا الناس، نذكرهم بالمذابح، و هذا يفتح الباب للرعب الذي يصيب القلب مرارا و تكرارا. بعض الناس حاولوا إلحاق الأذية بنا لحماية أنفسهم و عائلاتهم و مجتمعاتهم المحلية. و بسبب هذه الأمور، قررنا أن نبتعد عن القرى و نمر من خلال الغابات المجاورة. بهذه الطريقة نضمن سلامتنا و نتجنب الفوضى. هذه واحدة من نواتج الحرب الأهلية. فالناس لا يثقون ببعضهم البعض، و كل غريب يصبح عدوا لك. حتى من يعرفك من بين الناس يكون حذرا جدا في علاقته و كلامه معك.
و في أحد الأيام، و حالما غادرنا منطقة الغابات من قرية مررنا بها، برزت مجموعة من رجال كبار و مفتولي العضلات من بين الأدغال و سدوا ممرا أمامنا. و طلبوا منا التوقف و قد رفعوا بأيديهم السواطير و البنادق. كان هؤلاء الرجال حرسا طوعيين يحرسون قريتهم و قد أمرهم رئيسهم باعتراض طريقنا و إحضارنا إليه.
اجتمع حشد ضخم من الناس أمام بيوت الرئيس بانتظار قدومنا. دفعنا الرجال الكبار على الأرض لنركع أمامهم و قيدوا أقدامنا بحبال قوية. ثم جروا أيدينا لوراء ظهورنا حتى تلامست الأكواع ببعضها البعض، و هذا ضغط على صدورنا بقوة. و انبجست الدموع مني بسبب الألم. و حاولت أن أتدحرج على ظهري، و لكن ذلك زاد الوضع سوءا.
غرس الزعيم قدمه بالأرض و سألنا:" هل أنتم ثوار أم جواسيس؟".
ارتعشت أصواتنا و نحن نقول:" كلا".
و ثارت ثائرة الزعيم فزمجر بصوت مرتفع:" إن لم تنطقوا بالحقيقة، سأطلب من هؤلاء الرجال أن يوثقوكم بالحجارة و الصخور و يلقوا بأجسامكم في النهر".
فأخبرناه إننا طلبة و ما يجري هو سوء تفاهم.
فصاحت الحشود:" ليسقط الثوار".
و اقترب الحراس من الدائرة و بدأوا بفحص محتويات جيوبنا. و اكتشف واحد منهم شريط أغنية راب فقدمه للزعيم. و طلب من فوره أن يوضع في مسجلة ليستمع له.
(You down with OPP ( yeah you know me
(You down with OPP ( yeah you know me
(You down with OPP (Yeah you know me
(You down with OPP (Yeah you know me
(You down with OPP (Yeah you know me
(Who’s down with OPP (Every last homie
(1)......
أوقف الزعيم الموسيقا. و قبض على لحيته، و شرع بالتفكير. ثم قال و هو يلتفت لي:" أخبرني. من أين حصلتم على هذه الموسيقا الغريبة؟".
أخبرته أن هذه هي موسيقا الراب. و لكنه لم يعرف شيئا عن موسيقا الراب، و هكذا بذلت جهدي لأشرح له. و ختمت له الكلام بقولي:" هذا يشبه رواية الخرافات، و لكن بلغة الرجل الأبيض". و أخبرته أيضا نحن راقصون و لدينا فرقة في ماترو يونغ، حيث كنا نداوم في المدرسة".
سألني:" ماترو يونغ؟". و نادى على شاب من القرية. و تم إحضار الصبي ليمثل أمام الزعيم و سأله هل يعرفنا و هل سمعنا نروي الخرافات بلغة الرجل الأبيض. كان يعرف إسمي، و إسم شقيقي، و أسماء أصدقائي. و تذكرنا من عرض قدمناه. و لم يتعرف عليه واحد منا، كان وجهه غريبا، و لكننا ابتسمنا بحرارة كما لو أننا نعرفه أيضا. و هكذا أنقذ حيواتنا.
بعدئذ التأم شملنا و قدموا لنا بعض الكاسافا و السمك المدخن. التهمنا الطعام، و شكرنا القرويين، و اتخذنا أهبتنا لمتابعة المسير. ثم عرض الزعيم و بعض الرجال الذين قيدوا أيدينا و أقدامنا علينا أن نمكث في القرية. فشكرناهم على كرمهم و غادرنا. كنا نعلم أن الثوار عاجلا أو آجلا سيصلون للقرية.
ببطء، مشينا في طريق عبر الغابات الكثيفة. كانت الأشجار تهتز بارتباك كلما هبت الريح الرخاء. و كانت السماء تبدو كأنها ممتلئة بالدخان، دخان رمادي لا ينتهي حجب عين الشمس. و حوالي وقت الغروب وصلنا إلى قرية مهجورة فيها ستة بيوت من الطين. فجلسنا على الأرض في شرفة واحد من تلك البيوت. نظرت لجونيور، و كان وجهه ينقط بالعرق. لقد التزم مؤخرا بهدوء الموت. فنظر لي و ابتسم قليلا قبل أن يدلهم وجهه مجددا.
ثم نهض و خرج إلى الباحة. نظر إلى السماء حتى اختفت الشمس. و في طريق عودته ليجلس على الشرفة، التقط حجرة و لعب بها طوال الأمسية. و واصلت النظر إليه، على أمل أن نتواصل بالعيون مرة إضافية و ربما بعد ذلك يكون بوسعنا أن نتبادل الكلام عما يجول في رأسه من أفكار. و لكنه لم يرفع نظراته. لقد كان يلعب بالحجرة بيده و حسب و يحدق بالأرض.
في إحدى المرات أخبرني جونيور كيف بوسعنا تمرير حجرة فوق النهر. فقد ذهبنا لإحضار الماء و أخبرني أنه تعلم خدعة جديدة تسمح له بجعل حجرة تسير فوق الماء. مال بقامته لأحد الأطراف، و ألقى الأحجار، و كل واحدة كانت تسير على الماء أمام سابقتها. و طلب مني أن أحاول، و لم أنجح في ذلك. و وعد أن يعلمني هذا السحر في وقت لاحق. و بينما كنا في طريق العودة للبيت مع سطلي الماء فوق رأسينا، انزلقت و سقطت، و أهدرت الماء. قدم لي جونيور سطله، و حمل سطلي الفارغ. و عاد إلى النهر. و لدى عودته للبيت، أول شيء قام به أن سألني فيما إذا تضررت من السقوط.
أخبرته إنني بحالة ممتازة، و لكنه على أية حال فحص ركبتي و كوعي. و بعد أن أدى واجبه، ربت علي. نظرت إليه في تلك الأمسية و هو يجلس على شرفة البيت في تلك القرية المجهولة، و رغبت لو يسألني هل لا زلت على ما يرام.
ركز جيبريلا و تالوي و كالوكو و خاليلو نظراتهم جميعا على ذرى أشجار الغابة التي أحاطت بالقرية، و كشر جيبريلا بأنفه و هو يجلس و ذقنه على ركبته. و حينما شهق تحرك جسمه كله. بينما واصل تالوي النقر بقدمه على الأرض، كأنه يحاول أن يشغل نفسه عن التفكير بالوقت الحاضر. و لكن كالوكو كان قلقا. و لم يتمكن من الجلوس و تابع تبديل مكانه، و لم يتوقف عن التنهد في كل مرة يتحرك فيها. و جلس خاليلو بهدوء. و لم يظهر وجهه أية عاطفة و كان يبدو أن روحه تتجول بعيدا عن جسمه. و رغبت أن أعرف مشاعر جونيور، و لكن لم أجد اللحظة المناسبة لمقاطعة صمت تلك الأمسية. و كم رغبت لو كان هذا بمقدوري.
في صباح اليوم التالي، مر حشد كبير من الناس من القرية. و كان بين المسافرين امرأة عرفت جيبريلا. و قد أخبرته أن خالته موجودة في قرية تبعد ثلاثين ميلا عنا. و دلتنا على الاتجاه. ملأنا جيوبنا ببرتقال غير ناضج فقد كنا نتألم و ليس لنا شهية للأكل، و لكنه مصدر الطعام الوحيد القريب من متناول اليد، و انطلقنا بطريقنا.
كان كاماتور بعيدا جدا عن ماترو يونغ، حيث كان الثوار في مركز السيادة، و لكن القرويين كانوا يقظين و جاهزين للتحرك في أية لحظة. و مقابل الطعام و مكان للرقاد حصلنا على عمل بصفة حراس. على بعد ثلاثة أميال من القرية تجد هضبة كبيرة. من أعلاها، بمقدور المرء أن يرى أي شيء على الطريق إلى القرية من مبعدة ميل. و قد وقفنا على قمة تلك الهضبة لنحرس من بواكير الصباح حتى سقوط الظلام. و قد فعلنا ذلك لقرابة شهر و لم يحصل شيء. لقد كنا نعرف الثوار بشكل جيد و نستطيع أن نلاحظ وصولهم. و لكننا فقدنا يقظتنا مع مرور الوقت بشكل اعتيادي.
و اقترب موسم الزراعة. و سقطت الأمطار لتبلل الأرض. و شرعت الطيور ببناء أعشاشها بين أغصان أشجار المانغو. و هطل الندى في كل صباح و تسبب للأوراق بالرطوبة و للتراب بالبلل. و لكنها كانت تصبح في منتصف اليوم قاسية. و قد دفعني ذلك للرغبة بالدحرجة على الأرض. كان واحد من أعمامي يمزح بقوله إنه يود لو يموت في هذا الوقت من السنة. كانت الشمس تشرق بوقت أبكر من المعتاد و تكون أنصع ما يمكن في السماء الخالية من الغيوم تقريبا.
و كانت الأعشاب على جوانب الطرقات نصف جافة و نصف خضراء. و يمكن رؤية النمل على الأرض و هو يحمل طعامه إلى جحوره. و مع أننا حاولنا أن نقنع القرويين بعكس ذلك، كانوا متأكدين أن الثوار ليسوا في الطريق إليهم. و هكذا طلبوا منا أن نغادر نقاط حراستنا و نتوجه للحقول. و لم يكن هذا يسيرا. فقد كنت دائما شاهدا على فن الزراعة و بنتيجة ذلك لم أستوعب كم كان هذا صعبا حتى وصلت لتلك الشهور القليلة من حياتي في عام 1993، حينما توجب علي المساعدة في قرية كاماتور. كان سكان القرية جميعا من المزارعين. و لذلك لم يكن أمامي من سبيل للفرار من هذا المصير.
قبل الحرب، حينما زرت جدتي في موسم الحصاد، لم تسمح لي بشيء ما عدا صب النبيذ على الأرض حول المزرعة قبل بداية الحصاد، فهذا جزء من احتفال مهيب نشكر به الأسلاف و الآلهة الذين وهبونا أرضا خصبة و معطاء، و أرزا ناضجا، و غلة زراعية وفيرة خلال عام.
أول مهمة أوكلت لنا هي تنظيف قطعة أرض واسعة تبلغ بحجمها حجم ملعب كرة قدم. و حينما رغبنا بالنظر للغابة المفترض إزالتها، كنت أعلم أن أمامنا أياما عصيبة. كانت الغابة كثيفة و هناك الكثير من أشجار النخيل، و كل واحدة منها تحيط بها أشجار تشابكت أغصانها ببعضها البعض. و كان من الصعب أن تدور من حولها و تقطعها.
كانت الأرض مغطاة بالأوراق الميتة و التي بدلت لون التربة من البني للأسود. و يمكن أن تسمع صوت الهوام و هي تتحرك تحت الأوراق المتعفنة. كل يوم كنا مرارا و تكرارا نتقدم و نقف تحت الشجيرات، و نضرب بالسواطير و الفؤوس الأشجار و النخيل التي يجب قطعها حتى تسقط على الأرض حتى لا تنمو مجددا و تنافس المحصول الذي يتوجب زراعته. و أحيانا حين نؤرجح السواطير و الفؤوس، تدفعنا بأثقالها للطيران نحو الشجيرات، و هناك نرقد قليلا و ندلك أكتافنا المتألمة. كان عم جبريلا يهز رأسه و يقول:" أنتم أولاد المدينة الفاسدون".
في صباح أول يوم عمل، حدد عم جيبريلا لكل واحد فينا جزءا من الغابة ليقوم بقطع أشجاره. و أمضينا ثلاثة أيام و نحن نقطع الحصة المعينة. أما هو فقد انتهى بعد أقل من ثلاث ساعات.
حينما أمسكت بالفأس بيدي لأبدأ بالهجوم على الغابة، لم يتمكن عم جيبريلا من الضحك. انفجر بقهقهة قبل أن يدلني كيف أمسك الفأس بشكل لائق. و أنفقت عدة دقائق متعبة و أنا أقفز بالفأس على الأشجار بكل استطاعتي بينما كان هو يقطع الشجرة بضربة واحدة.
أول أسبوعين تسببا بألم فظيع. و عانيت من أوجاع في الظهر و العضلات. و أسوأ من ذلك تقشير الجلد من بطن اليدين و انتفاخهما ثم سقوط الجلد الميت. لم تعتد يداي على الإمساك بالساطور أو الفأس. و بعد نهاية العمل، تركنا الأشجار لتجف. و بعد ذلك، حينما جفت الأشجار المقطوعة أضرمنا بها النيران و راقبنا الدخان الكثيف و هو يصعد إلى سماء الصيف الزرقاء.
ثم وضعنا خطة لزراعة الكاسافا. و لنقوم بذلك، حفرنا حفرات صغيرة في الأرض باستعمال المذراة. و لنحصل على استراحة من هذه الواجبات، و التي تتطلب أن نثني قاماتنا نحو الأرض لساعات طوال، أحضرنا عيدان الكاسافا، و قطعناها لقطع قصيرة، و وضعناها في الحفر.
الصوت الوحيد الذي سمعناه و نحن نعمل هو لحن الدمدمة الصادر عن مزارعين محترفين، و خفق أجنحة العصافير في بعض الأحيان، و طقطقة أغصان الأشجار و هي تنكسر في الغابة القريبة، و ترحيب الجيران المسافرين عبر الطريق أما الذاهبين إلى مزارعهم أو العائدين لبيوتهم. و في نهاية اليوم، كنت أجلس على جذع مقطوع في ميدان القرية و أراقب الصبيان الصغار و هم يلعبون ألعاب المصارعة. واحد منهم، يبلغ السابعة من العمر تقريبا، كأنه يبدأ العراك دائما، و لكن كانت أمه تجره بعيدا من أذنه.
كنت صبيا مشاكسا و غالبا ما أتورط بمشاحنات في المدرسة و على ضفة النهر. و أحيانا أرمي الأولاد بالحجارة إذا لم أتمكن من التغلب عليهم بالعراك. و بما أنه ليس لي أم في البيت كنت أنا و جونيور ناشزين عن مجتمعنا المحلي. و قد ترك انفصال والدي علامات علينا يمكن أن يراها حتى الطفل الصغير في مدينتنا. لقد أصبحنا حديث البلدة في المساء.
مثلا يقول أحدهم:" يا لأولئك الصبيان الصغار".
فيرد الآخرون و نحن نمر من أمامهم بنبرة حزينة:" لن يحصلوا على تعليم مناسب".
كنت أشعر بالغضب من الطريقة التي يشفقون بها علينا حتى إنني أحيانا في المدرسة أرفس أولادهم بمؤخراتهم، و بالأخص أولئك الذين ينظرون لنا نظرات لها معنى، و كأنهم يقولون إن أبي و أمي تكلما عنك كثيرا.
عملنا بالزراعة لثلاثة شهور في كاماتور و لكنني لم أعتد على هذا النوع من الحياة. و الفترات الوحيدة التي شعرت فيها بالطمأنينة هي أوقات الاستراحة في الظهيرة. حينما كنا نعوم في النهر.
هناك، كنت أجلس على القاع الرملي الصافي للنهر و أترك التيار يجرفني نحو المصب، حيث أخرج على السطح، ثم أرتدي ثيابي القذرة، لأعود بعدها إلى الحقل.
و في النهاية إن الشيء المحزن بخصوص ذلك العمل الشاق، أنه مكتوب عليه الخراب. فالثوار جاؤوا أخيرا و هرب الجميع، و تركوا مزارعهم إلى أن غطتها الأعشاب و جاءت إليها الحيوانات. و خلال ذلك الهجوم على قرية كاماتور انفصلت عن أصدقائي. و لم أشاهد جونيور، أخي الأكبر بعد ذلك ( 2).
هامش:
1- أغنية راب شائعة في الولايات المتحدة، و الحروف هي اختصار للكلمات التالية: ممتلكات الناس الآخرين. و حرفيا تعني عضو المرأة غير الشريفة أو قضيب الرجل الغشاش. فيكون المعنى تسقط المرأة التي تمارس الجنس مع أكثر من قضيب واحد.
2- الترجمة من كتاب أمضينا شوطا طويلا . تأليف Ishmael Beah. منشورات هارليكوين. نيويورك. 2007.
و الكاتب إسماعيل بيه من مواليد سيراليون عام 1980. انتقل ليعيش في الولايات المتحدة عام 1998. و يعمل في بروكلين بمجال الدفاع عن حقوق الطفولة.